لبنان في 2026: وَهمُ التَحَوُّلِ وحُدودُ التغييرِ المُمكِن

مع دخولِ لبنان عام 2026، يتجدّدُ الإحساسُ بأنَّ البلادَ تقفُ مرةً أخرى عند مُفترَقِ طُرُقٍ حاسم. غير أنَّ التجربة اللبنانية تُظهِرُ أنَّ لحظات الأمل غالبًا ما تخفي وراءها عودةً سريعةً لمنظومةٍ سياسية قادرة على امتصاصِ الصدمات وإفراغ التغيير من مضمونه. بين الإصلاحِ المُعلَن والواقعِ المُعقّد، يُواجِهُ لبنان اختبارًا جديدًا لحدودِ المُمكِن.

الحكومة اللبنانية تعهّدت بنزع سلاح الجماعات المسلحة، بما في فيها “حزب الله”… ولكن متى يتم ذلك؟

مايكل يونغ*

مع دخولِ لبنان عامًا جديدًا، تبدو ملامحُ المشهد السياسي في البلاد مألوفة إلى حدٍّ يبعث على القلق. فلطالما بدا البلدُ وكأنّه يقفُ على عتبة تحوُّلٍ مفصلي، يُثيرُ موجاتٍ من التفاؤل بإمكانية الخروج من أزماته المُزمِنة، قبل أن تعودَ البُنية التقليدية للسلطة لتفرض نفسها مُجدّدًا، وتُجهِضُ أيَّ مسارٍ تغييري حقيقي. هذا النمطُ المُتكرّر جعل الآمال الكبيرة جُزءًا من دورةٍ سياسية سرعان ما تنتهي إلى خيبةٍ مُعتادة.

قبلَ عامٍ فقط، سادَ اعتقادٌ بأنَّ سلسلةَ تطوُّرات إقليمية كبرى قد تفتحُ نافذةً نادرة للتغيير. فقد رُوِّجَ لفكرة أنَّ هزيمة “حزب الله” وتراجُع نفوذه إثر الحرب مع إسرائيل، مُترافقًا مع سقوط نظام بشار الأسد، سيؤدّيان إلى إضعاف قبضة إيران وحلفائها على لبنان. وفي موازاةِ ذلك، برزَ أملٌ آخر بأنَّ الإصلاحات المالية والاقتصادية، التي عطّلتها الطبقة السياسية وشبكات المصالح منذ الانهيار الكبير في 2019–2020، قد تجد أخيرًا طريقها إلى التنفيذ، خصوصًا مع وصول حكومة إصلاحية قيل إنها أقل ارتهانًا للوضع القائم الذي يهيمن عليه “حزب الله”، وأكثر استعدادًا للمواجهة.

غير أنَّ الصورة اليوم أكثر تعقيدًا. فمن جهة، حققت الحكومة الحالية، التي تُعَدُّ الأكثر صدقية منذ عقود، تقدُّمًا ملموسًا على عدد من الملفات الحساسة. فقد أقرّت أخيرًا ما يُعرَفُ بقانون الفجوة المالية، الذي يَضَعُ إطارًا لتوزيع خسائر الانهيار المُقدَّرة بنحو 70 مليار دولار، ويُحدّدُ آليات تعويض المودعين. كما اتخذت قرارًا مفصليًا بفرض حصرية السلاح بيد الدولة، في خطوةٍ تهدف، ولو ضمنيًا، إلى كسر واقع السلاح خارج المؤسسات الرسمية ونزع “سلاح “حزب الله”. ومن جهةٍ أخرى، لا تزال هذه الخطوات تصطدم بميزان قوى داخلي معقّد، مما يطرحُ تساؤلات جدية حول قدرتها على الصمود والتحوّل إلى مسارٍ إصلاحي مستدام.

إلى جانب ذلك، أصدرت الحكومة حزمةَ قوانين إضافية طالت ملفات شديدة الحساسية، من بينها تعزيز استقلالية القضاء، وتنظيم سرية العمليات المصرفية، وإطلاق مسار لإعادة هيكلة القطاع المصرفي. كما أقرّت قانونًا بالغ الأهمية يفرض ضوابط على مولّدات الكهرباء المنزلية، التي تؤمّن جُزءًا كبيرًا من الطاقة في البلاد، لكنها في الوقت نفسه تُلوِّث البيئة وتُسهِمُ في ارتفاع معدلات الوفيات. ومع ذلك، وعلى الرُغم من هذا النشاط التشريعي غير المسبوق، يسودُ انطباعٌ واسع بأنَّ التحوُّلَ الجذري المنشود لم يتحقق بعد، وأنَّ انتهاء ولاية الحكومة العام المقبل قد يفتح الباب أمام قوى الجمود لاستعادة زمام المبادرة وإجهاض ما تحقق.

تتعدّد أسباب هذا الشعور، غير أنَّ جوهرَ المشكلة يكمن في حقيقة أنَّ لبنان لا يزال مجتمعًا مُنقسِمًا بعمق. فطالما استمرّت هذه الانقسامات، سيبقى التوافق على خيارات الحكم الرشيد أمرًا بالغ الصعوبة، وسيظلُّ المجتمع رهينة جماعات مصالح خاصة، ترتبطُ بسياسيين طائفيين لا يشعرون بالارتياح تجاه أيِّ تغييرٍ تحويلي يهدد توازناتهم التقليدية. وعلى المستوى الإقليمي، يُترجَمُ هذا الواقع إلى هشاشةٍ سيادية مُزمنة، تجعل لبنان عُرضةً للاستخدام من قبل قوى خارجية أقوى، بحيث تصبح سيادته أقرب إلى مفهومٍ نظري منها إلى واقعٍ فعلي.

ويُشكّل سلاح “حزب الله” المثال الأوضح على هذا المأزق. فبينما قررت الحكومة، خلال الصيف، جَمعَ جميع الأسلحة الخارجة عن سيطرة الدولة، رفض الحزب الامتثال لهذا القرار. ولا يعودُ ذلك إلى حساباتٍ داخلية فحسب، بل إلى اعتباراتٍ إقليمية أوسع، إذ لا ترغب إيران، الداعم الرئيس للحزب، في التفريط بورقة نفوذ استراتيجية من دون مقابل. وقد تعاملت الحكومة بقدرٍ من الحذر، فتجنّبت محاولة نزع سلاح الحزب بالقوة، إدراكًا منها أنَّ مثلَ هذا الخيار من المرجح فشله، وقد يقودُ إلى صراعٍ طائفي مسلّح يُهدّدُ السلمَ الأهلي.

أما في الجنوب، فقد تأثرت خيارات الحكومة بدورها بتفضيلاتٍ وضغوطٍ خارجية. إذ تسعى كلٌّ من إسرائيل والولايات المتحدة إلى دفع لبنان نحو مسار تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وهو خيارٌ يواجه رفضًا واسعًا داخل المجتمع اللبناني. فالكثيرُ من اللبنانيين يُدرِكون أنَّ السيرَ في هذا الاتجاه من شأنه تعميق الانقسامات الداخلية، وزجّ لبنان في قلب صراعاتٍ إقليمية أوسع، تتداخل فيها حسابات إسرائيل وتركيا والسعودية، بما يتجاوز قدرة البلاد على الاحتمال.

في هذا الإطار، تَبرُزُ ثلاث قضايا محورية يتعيّن على اللبنانيين مراقبتها عن كثب خلال العام 2026. أولى هذه القضايا تتعلّق بتداعيات التآكل المستمر في سيادة الدولة، ولا سيما احتمال أن تُقدِمَ إسرائيل على استئناف عمليات عسكرية واسعة النطاق داخل لبنان، بهدف إضعاف “حزب الله” بصورةٍ حاسمة، وتهيئة الظروف لنزع سلاحه. هذا السيناريو، وإن لم يَكُن حتميًا، يظلُّ حاضرًا في حسابات المرحلة المقبلة.

حاليًا، تُدارُ الاتصالات في إطار ما يُعرف بـ”الآلية” (الميكانيزم)، أي اللجنة الخماسية المُكلّفة بمراقبة ومناقشة تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل. وفي هذا السياق، عيّن لبنان مؤخرًا شخصية مدنية لرئاسة فريقه التفاوضي، استجابةً لطلبٍ أميركي، وهي خطوةٌ سارعت إسرائيل إلى مقابلتها بإجراءٍ مُماثل. ويعكسُ هذا التطوُّر محاولةً لإضفاء طابع تقني–سياسي على المفاوضات، بعيدًا من الطابع العسكري المباشر، وإن ظلَّ ميزان القوة مُختَلًّا.

وطالما أبدى الجانب اللبناني استعدادًا للاستجابة للمطالب الأميركية والإسرائيلية، وقدّمَ تنازُلاتٍ محسوبة، لتجنّب انفجار واسع للصراع، رُغمَ استمرار إسرائيل في تنفيذ ضرباتٍ شبه يومية ضد أهداف يُقال إنها تابعة ل”حزب الله” داخل الأراضي اللبنانية. غير أنَّ هذا الهامش يظلُّ هشًّا؛ إذ ما إن تُواجِهَ إسرائيل مقاومة لبنانية أكثر صلابة، حتى تلجأ سريعًا إلى تصعيد العنف، في محاولةٍ لفرض شروطها بالقوة وإعادة ضبط قواعد الاشتباك.

أما القضيّة المركزية الثانية في العام 2026، فتتمثّلُ في الانتخابات البرلمانية المُرتَقبة، التي تَنظُرُ إليها القوى السياسية الأساسية بوصفها محطّةً مفصلية، خصوصًا أنها تُجرى في سياقٍ سياسي واجتماعي مختلف عمّا سبقه. فنتائج هذه الانتخابات لن تُحدِّدَ فقط موازين القوى داخل البرلمان، بل ستعكسُ أيضًا اتجاهات الرأي العام في مرحلة ما بعد الانهيار. وفي هذا الإطار، يسعى “حزب ال”له وحليفته الرئيسة “حركة أمل” إلى حصد جميع المقاعد الشيعية، في مسعى واضح لترسيخ هيمنتهما السياسية والاجتماعية، ومنع أي اختراق محتمل داخل بيئتهما الشيعية التقليدية.

على الساحة المسيحية، يسعى حزب “القوات اللبنانية”، الذي يمتلك أصلًا الكتلة البرلمانية الأكبر بين الأحزاب المسيحية، إلى توسيع حجم تمثيله النيابي وتعزيز موقعه كالقوة السياسية المسيحية الأولى. ولا يقتصرُ هذا الطموح على الحسابات البرلمانية الآنية، بل يرتبط أيضًا باستحقاقاتٍ أبعد، إذ من شأن هذا التقدُّمِ أن يُعزِّزَ موقع زعيم الحزب سمير جعجع بوصفه المُرَشَّح الأبرز لرئاسة الجمهورية في العام 2031. ورُغمَ أنَّ عاملَ العمر قد يُطرَحُ في هذا السياق، إلّا أنَّ التجربة السياسية اللبنانية تُظهِرُ أنَّ السنَّ لم يكن يومًا عائقًا حقيقيًا أمام الطموحات الرئاسية، ما يجعل هذا الهدف جُزءًا من حساباتٍ جدّية لا يُمكِن تجاهلها.

أما الدينامية الثالثة التي سيراقبها اللبنانيون في العام 2026، فتتعلّقُ بمدى قدرة الحكومة على وَضعِ البلاد فعليًا على مسار الخروج من أزماتها المالية والاقتصادية العميقة. ويُعَدُّ قانون الفجوة المالية حجرَ الزاوية في هذا المسار، إذ يتطلّبُ إقراره موافقة الحكومة والبرلمان، فضلًا عن نيل دعم صندوق النقد الدولي. غير أنَّ هذا المسار يواجه معارضة واضحة، تقودها قوى تُحاولُ استثمارَ المزاج الشعبوي قبيل الانتخابات، وتقديم نفسها بوصفها المدافع الأول عن حقوق المودعين، حتى وإن كان ذلك على حساب الحلول الواقعية.

ومن المتوقع أن تشهدَ المفاوضات حول مشروع القانون مُقايضات وتسويات معقّدة، غير أنَّ العامل الحاسم يبقى في موقف صندوق النقد الدولي، الذي يربطُ أيَّ تمويلٍ مُحتمل بدعمه الصريح لهذا القانون. فالمعادلة المطروحة واضحة: من دون إقرار الإطار الإصلاحي، لا مساعدات مالية. ورُغمَ أنَّ بعضَ جماعات المصالح قد تسعى إلى إسقاط القانون أو تعطيله، فإنَّ قدرتها على ذلك ستبقى محدودة ما لم تُقدِّم بدائل جدّية وقابلة للتنفيذ، وهو أمرٌ لا يبدو مُتوافرًا حتى الآن.

في المحصّلة، تكشفُ هذه القضايا الثلاث أنَّ التدخُّلات الخارجية، والحسابات الطائفية الداخلية، ونفوذ جماعات المصالح الخاصة، لا تزالُ تشكّلُ عوائق بُنيوية أمامَ أيِّ تحسُّن فعلي في أداء الدولة. لكنها، في الوقت نفسه، تُمثّلُ ركائزَ أساسية في النظامَين السياسي والمالي القائمَين. ومن هنا، قد يكتشف أولئك الذين راهنوا في وقتٍ سابق من العام 2025 على دخول لبنان مرحلة جديدة جذريًا، أن مظاهرَ التغيير كثيرًا ما تكون الوسيلة الأنجع لإبقاء الأمور على حالها.

Exit mobile version