
هنري زغيب*
قبل سنوات، احترق مسرح “دوار الشمس” (بدارو-بيروت)، وهو على بُعد فلذة من خطوط التماس. وقَعَ في الهجْر مدَّة مُعْتِمة. مع إِعادة ترميمه، قرَّرت بِتِّي توتل إِعادة إِحيائه في عملها الناجح الـمُسْتعاد Monopause (حتى الأُسبوع الأَول من العام الجديد 2026). وبذلك، لكسْر الفوبيا من خطوط تَماسٍ تُفرِّق شرايين المدينة، تنادي بِتِّي جمهورها إِلى المسرح الذي بطبيعته يجمع أَبناء المدينة.
تلك رسالة بِتِّي توتل في مسرحيتها. فماذا عنها؟
إِيضاح العنوان
قبل أَن يختلط العنوان على الجمهور، وجَبَ الإِيضاح: في السائد أَن كلمة Menopauseتعني “سن اليأْس” عند المرأَة. وهي حالة عامة لدى جميع النساء. في عنوان المسرحية، كلمة Monopause تشمل امرأَةً في حالتين: اليأْس من ميعاد باتَ يلغي الدورة الشهرية، واليأْس من ميعاد بات يُلغي دورة الأَمل بعودة السلام إِلى الوطن. وهي، في رسالة المسرحية، ليست دعوة متشائمة، بل فيها تَحَدّي الواقع سعيًا إِلى حالة أَفضل. لذا قرَّرت تلك المرأَة (بِتِّي توتل) بإِرادة فردية Mono أَن تأْخذَ وقْفة Pause من حياتها العائلية والبيتية والمهنية والاجتماعية، وتنسحبَ وحدها إِلى منزل بعيد في الجبل (بحمدون)، وتنفصل عن أَيٍّ اتصال خارجي. لذا أَطفأَتْ هاتفَها الخلويَّ وَرَمَتْهُ في كرسيّ الحمَّام، تَخَلُّصًا من ملاحقة رنينه المتكرِّر المزعج، كي ترتاح من دورة حياتها اليومية الروتينية الـمُضْجرة.
دخول “أَبو خالد”
سوى أَن وحدتها لم تكتمل تمامًا. فعلى بابها ظهر “أَبو خالد” (الدكتور جاك مخباط) كي يوصل إِليها أَكياس مأْكولات كانت أَوصت عليها كي تكفيها مدَّة انفرادها في البيت. ومن مشهد إِلى آخر يتضح أَن المرأة و”أَبو خالد” يعيشان حالةً صعبة، هربا بسببها إِلى النأْي في وحدة ذاتية وخارجية قاسية يسعيان إِلى الخروج منها. فبعد انكشاف ما في قلبه من وجع صامت بسبب الوحدة، تنفرد المرأَة هي أَيضًا (نحو نهاية المسرحية) في مونولوغ وجداني ينمُّ عن حلْمها البعيد باسترجاع علامات الأُنوثة.
الوضع الـمُسبِّبُ اليأْس
إِنها حالة امرأَة لبنانية تهزُّها مزدوجَةً “سنُّ اليأْس الشخصي” و”سنُّ اليأْس الوطني” حولها، وهي هزَّة قد لا تحصل في بلد أُوروبي أَو أَميركي ليس فيه اهتزازاتٌ وطنية تَيئيسية. من هنا انبثقت مفاصل المسرحية من داخل الواقع اليومي اللبناني، في رسالة واضحة إِلى وضعٍ في البلاد يُرغِم على اليأْس لا حيال تقدُّم السنّ بالأُنوثة، بل حيال عدَم تقدُّم البلد نحو الاستقرار، مع ما يرافق ذلك من تخبُّط في الخلاص من هذا الوضع. لذا قررَت أَن تنسحب عمدًا، لا قسرًا، من حياتها اليومية البليدة، بكل ما يرافق ذلك من مشاعر تتنامى خلال العرض المسرحي، وتقدِّم الرسالة في مشاهد مضحكة حتى الوجع.
اليأْس الوطني
في هذه الكوميديا الاجتماعية رسالةٌ هادفة من دون ابتذال في الحوار أَو المواقف، ما يجعلها مقبولة من جميع الفئات العُمْرية والاجتماعية. فالمسرح مكانُ لقاء، وهو في جوهره دعوةٌ تَجْمَعُ المواطنين من أَنحائهم المختلفة إِلى صالةٍ توحّد في ما بينهم، وتُبقي نبْض المدينة خافقًا كي يكتشفوا فيه حيوية مدينتهم وتاليًا وطنهم على المستوى الأَوسع.
ديكور المسرحي بسيط على عمْق في الدلالة، وكلُّ السينوغرافيا (سعد صفير) جاءت في خدمة النص الممتاز المتماسك الذكاء والإِلماح في رموزية جميلة واضحة تلامس بسُرعةٍ قلوب الحضور.
بِتِّي المثلثة المواهب
هكذا، من انقطاع الطمث فرديًا عن الجسد، إِلى انقطاع التواصل جماعيًا عن الخارج، نسجَت بِتِّي توتل مفاصل السيناريو وثنائيات الحوار وإِحادياته المونولوغية، وجاءت تؤَديها جميعها، كممثلة، في احترافية عالية توَّجَتْها بإِخراجها الذكي المنضبط الإِيقاع، لتكون هي المؤَلفة والممثلة والمخرجة في ثلاثية متكاملة ناجحة بأَركانها الثلاثة.
مخباط الطبيب ممثِّلًا
جاك مخباط، مهنيًّا، هو رئيس دائرة الطب الداخلي في كلية جيلبير وروز ماري شاغوري للطب في الجامعة اللبنانية الأَميركية، ورئيس مختبر علْم الجراثيم وعلوم الجزئيات في المركز الطبي لدى الجامعة اللبنانية الأَميركية LAU. لكنه، وبظاهرة فريدة، يخلَع عنه المريول الأَبيض طبيبًا معروفًا، ليلبس ثياب “أَبو خالد” ويكون رجل “الدِليفيري” بإِدارة المخرجة بِتّي توتل، ويُثْبت أَن الفن مجدٌ للإِنسان، والمسرح مجد لجمهوره، والطب مسرح شافٍ أَفواجَ الإنسانية.
من بيروت إِلى بحمدُون
هكذا، بين ضحكةٍ من مشهد كوميدي، بصريٍّ أَو حواري، وغصَّةٍ وجدانية في الهرب من واقع مرير، قدَّمت بِتّي توتل والدكتور جاك مخباط مسرحيةً لا تدخل اللحظةَ ثم تغادر الذاكرة، بل تدخُل القلب الذي ينبض بالحياة، ويَسعى إِلى التشبُّث بها مرةً في حضور الجماعة، ومراتٍ في وحدة إِرادية طوعية تحمل إِلى الهرب من رخاء بيتٍ في بيروت والانسحاب إِلى صفاء بيت جبلي في بحمدون.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت – دُبَي).
