“قوّةُ الاستقرارِ الدوليّة” في غزّة: مُهِمَّةٌ غامِضَة على حافةِ الانفجار

بين غُموضِ التفويض، وتردُّدِ الدول المساهمة، ومخاطر الانزلاق إلى مُواجَهة مفتوحة، تتحوَّلُ “قوّة الاستقرار الدولية” من أداةٍ مُفتَرَضة للتهدئة إلى اختبارٍ حاسمٍ لجدوى المُقاربة الدوليّة في غزّة.

الرئيس دونالد ترامب: هل يستطيع إنقاذ خطته في غزة وإنشاء “قوة الاستقرار الدولية”؟

جايسون كامبل*

في التاسع من تشرين الأول (أكتوبر)، نجح البيت الأبيض في دَفعِ كلٍّ من إسرائيل و”حماس” إلى القبولِ بوَقفِ إطلاق النار، استنادًا إلى خطّةِ سلامٍ من عشرين بندًا كان قد كُشِفَ عن ملامحها الأوّلية في التاسع والعشرين من أيلول (سبتمبر). وقد نصّت الخطة، بشكلٍ واضح، على إنشاءِ كيانَين مُتعدِّدَي الجنسيات يُفترض أن يُشكِّلا الإطار التنفيذي للمرحلة اللاحقة. يتمثّل الأول في “مجلس السلام”، برئاسة الرئيس دونالد ترامب، ويضم كبار المسؤولين المعنيين بوَضعِ إطارِ عملٍ أوَّلي لعملية إعادة إعمار غزة، بما يشمل الجوانب السياسية والإدارية والاقتصادية.

أما الكيان الثاني، وهو “قوة الاستقرار الدولية”، فيُناطُ به تدريب ودعم قوات الشرطة الفلسطينية التي أُعيدَ تشكيلها، وتأمين المناطق الحدودية، إضافةً إلى تسهيل التدفُّق الحرّ للمساعدات الإنسانية والسلع الأساسية إلى القطاع الساحلي الذي أنهكته الحرب. ورُغمَ أنَّ الخطة لم تُشِر صراحةً إلى آليات التنفيذ الميداني، أقدمت الولايات المتحدة في السابع عشر من تشرين الأول (أكتوبر) على إنشاء مركزٍ للتنسيق المدني–العسكري في كريات غات داخل إسرائيل، بهدف دعم جهود الاستقرار وتنسيق الأدوار بين الأطراف المعنية. وقد حضرَ نائب الرئيس جي. دي. فانس حفلَ افتتاحِ المركز، مُوَضِّحًا أهدافه بالقول إنَّ القوات الأميركية لن تنتشر داخل غزة، بل ستقتصرُ مهمّتها على تسهيل وصول المساعدات الإنسانية واللوجستية والأمنية عبر الشركاء الدوليين.

أسباب تأخير تشكيل “قوة الاستقرار الدولية”

وكما هو الحال مع عددٍ كبير من بنود الخطة المؤلّفة من عشرين نقطة، جرى التعمُّدُ في إبقاء المهمّة الدقيقة لـ”قوة الاستقرار الدولية” في إطارِ الغموض، وهو غموضٌ استمرّ حتى بعد صدور بعض التوضيحات اللاحقة التي لم تُبدِّد الالتباس القائم. وبعد أسابيع من ردودِ فعلٍ فاترة، إن لم تكن متحفّظة، من شركاءٍ دوليين مُحتَمَلين، تحرّكت الولايات المتحدة باتجاه المسار الأممي، ونجحت في السابع عشر من تشرين الثاني (نوفمبر) في استصدار قرارٍ عن مجلس الأمن الدولي (UNSCR 2803) يوافق على إنشاء كلٍّ من “قوة الاستقرار الدولية” و”مجلس السلام”. كما منح القرار غطاءً قانونيًا لمجموعة من الأنشطة الرامية إلى ما سُمّي “نزع سلاح قطاع غزة”.

غير أنّ الأهمية الأبرز للقرار لا تكمن فقط في ما تضمّنه، بل أيضًا في ما أغفله، إذ لم يأخذ في الاعتبار واقع وقف إطلاق النار القائم، والذي يُقسِّمُ قطاع غزة فعليًا إلى منطقتين مُتميّزتَين. فالـ”منطقة الحمراء”، التي لا تزال حركة “حماس” تنشط فيها، تمتدُّ على نحو 48 في المئة من مساحة القطاع وتضمّ أكثر من 90 في المئة من سكانه. في المقابل، تشكّل “المنطقة الخضراء”، الخاضعة حاليًا للسيطرة الإسرائيلية، ما تبقّى من مساحة غزة بنسبة تقارب 52 في المئة، وتُوفّرُ شريطًا عازلًا قليل الكثافة السكانية على طول الحدود مع إسرائيل. وفي هذا الإطار، أعادت وحدات من الجيش الإسرائيلي انتشارها وانسحبت إلى ما يُعرف بـ”الخط الأصفر”، الذي يفصل بين المنطقتين، تحسّبًا لأيِّ محاولات توغّل قد تنفّذها “حماس” داخل المنطقة الخضراء أو خارجها.

وبموجب قرار مجلس الأمن، يُفترض أن ينسحب الجيش الإسرائيلي تدريجًا من قطاع غزة، بالتوازي مع قيام “قوة الاستقرار الدولية” بترسيخ السيطرة وبسط الاستقرار. إلّا أنّ المشهد يزداد تعقيدًا مع إصرار”حماس” العلني على رَفضِ مَبدَإِ نزع السلاح، وتأكيدها أنَّ الوسطاء الدوليين لم يناقشوا معها بشكلٍ مباشر مسألة الترتيبات الأمنية أو دور “قوة الاستقرار الدولية”. ويُشير بعض التقارير إلى استعداد الحركة لتفكيك جُزءٍ من أسلحتها الثقيلة تحت إشرافٍ مصري، غير أنّ هذه الخطوة، إن حصلت، لن تكونَ على الأرجح كافية لتلبية التصوّر الإسرائيلي الشامل لـ”نزع السلاح”، كما لن تُبدِّدَ مخاوف الدول المُتردّدة في إرسال قوات إلى مهمّةٍ تُوصَفُ بأنها عالية المخاطر ومفتوحة على احتمالاتٍ غير محسوبة.

وعليه، فإنَّ الآمالَ الأولى التي عُقِدَت على مساهماتٍ عسكرية من دولٍ شريكة تحظى بقبولِ كُلٍّ من إسرائيل ومصر، وتتمتّع في الوقت نفسه بالمصداقية اللازمة للتعامل مع الفلسطينيين، بدأت تتراجعُ لصالح مناخٍ مُتزايد من الشكوك. شكوكٌ تتّصِلُ بجدوى الانخراط في مهمّةٍ تفتقرُ إلى وضوح الأهداف، وتتّسمُ بقدرٍ كبير من المخاطر السياسية والأمنية، في ظلِّ غياب تصوُّرٍ متكامل يضمن الحدّ الأدنى من التوافق الميداني والسياسي حولها.

تعثُّر محاولات إنشاء “قوة الاستقرار الدولية”

في الواقع، كانت الولايات المتحدة، إلى جانبِ أطرافٍ إقليمية أخرى، حريصةً على التوصُّلِ إلى وقف إطلاق النار بين إسرائيل و”حماس”، واعتبرت أنَّ السبيلَ الأنجع لتحقيق ذلك يتمثّلُ في إبرامِ اتفاقٍ شاملٍ ومفتوح الصيغة. وقد أتاحَ هذا الخيار، في حدّه الأدنى، عودة الرهائن وفرض وقف عام للأعمال العدائية، إلّا أنّه في المقابل عطَّلَ الانتقالُ السلس إلى المراحل التنفيذية اللاحقة. ومن أجل بلوغ الهدف الأوّلي المتمثّل في إطلاق المرحلة الثانية من الخطة ذات البنود العشرين قبل نهاية العام 2025، مارس المسؤولون الأميركيون ضغوطًا مُكثّفة لتشكيل “مجلس السلام” و”قوة الاستقرار الدولية” بالتوازي، على الرُغم من بقاء أسئلة جوهرية بلا إجابات واضحة. وفي الحالتين، أخفقت هذه الجهود، حتى الآن، في تجاوز هذا العائق البنيوي الذي يقف في وجه تنفيذ الخطة.

أما في ما يتعلّق بـ”قوة الاستقرار الدولية”، فقد شهد الشهران الماضيان تطوّرًا ملحوظًا في التصوُّرات المُرتبطة بمهمتها المحتملة. فقد أظهرت محادثات أُجريت في منتصف تشرين الثاني (نوفمبر) مع مسؤولين أميركيين منخرطين مباشرة في هذا المسار، وجود توقّع بأن ينتشرَ جُزءٌ، ولو محدود، من هذه القوة داخل “المنطقة الحمراء” من قطاع غزة، على أن تتركّز مهمته أساسًا على الإشراف على إعادة تأسيس كيان حكم جديد يستثني “حماس”، ويكون مستعدًّا لاستخدام القوة عند التعرُّض لأيِّ تهديدٍ أو مواجهة مباشرة. ووفق ما نُقل في حينه، كان من المفترض أن يتركّز القسم الأكبر من قوة الاستقرار على حفظ الأمن في مختلف أنحاء غزة، ودعم كيان فلسطيني جديد معني بإنفاذ القانون، من دون تمييز بين المناطق. في المقابل، ستتولّى القوة المتبقّية مهمات أكثر حساسية، تتّصل بالتصدي لهجمات “حماس”، وربما تنفيذ عمليات محدّدة الأهداف ضدها.

في تلك المرحلة، تركّزت المخاوف الأميركية على كيفية إقناع الجانب الإسرائيلي بقبول مقاربة تقوم على “نزع سلاح غزة” وفق ما نصّ عليه قرار الأمم المتحدة، بدل الإصرار على “نزع سلاح” جميع القوى الموجودة داخل القطاع، وهو خيارٌ أكثر طموحًا وتعقيدًا من الناحية العملية. غير أنَّ النقاشات لم تتوقّف عند هذا الحد، بل تطوّرت لاحقًا على ضوء الاتصالات التي أجراها المسؤولون الأميركيون مع الدول المُرَشّحة للمساهمة بقوات. فقد تراجعت المؤشرات الأولى التي تحدّثت عن اهتمام كلٍّ من أذربيجان وإندونيسيا، في ظلِّ الغموض الذي يكتنف طبيعة المهمة، وغياب أي رغبة حقيقية لدى البلدين في الانخراط في مواجهة مباشرة مع “حماس”.

وعلى نحوٍ أوسع، يبدو من غير الواقعي تَوَقُّع قبول أيِّ دولة ذات غالبية مسلمة بمهمّةٍ قد تضعها في موقعِ الصدام العلني مع الفلسطينيين، بغضِّ النظر عن طبيعة انتمائها أو حساباتها السياسية. في المقابل، أشارت تقارير أخرى إلى أنَّ إيطاليا كانت أول دولة تُقدِّمُ عرضًا رسميًا للمشاركة، من دون الكشف عن تفاصيله حتى الآن. وفي الجوهر، يتجنَّبُ معظم المرشحين للمساهمة بقوات الوقوع في معادلة بالغة الحساسية، تقوم على خيارَين أحلاهما مرّ: إمّا الانخراط في مواجهة مباشرة مع عنصر من “حماس” ينفّذ هجومًا ضد إسرائيليين، أو تحمّل المسؤولية السياسية والأخلاقية لعدم منع مثل هذا الهجوم. ويزداد هذا السيناريو تعقيدًا مع التحذيرات الإسرائيلية المتكرّرة من مخاطر إسناد أمنها إلى قوات غير إسرائيلية، في بيئةٍ لم تُجمِع أطرافها بعد على دعمِ مُهمّة تلك القوات أو توفير الغطاء السياسي والأمني اللازم لها.

وعليه، يبدو من المنطقي أن تتأرجحَ التقديرات المتعلّقة بحجم القوات المطلوبة لـ”قوة الاستقرار الدولية” تبعًا لتذبذبٍ مُماثل في مستوى الجدّية والالتزام السياسي تجاه هذه المهمة. فقد بقيت الأرقام المتداولة ضمن هامشٍ واسع، تراوح بين ستة آلاف وعشرين ألف جندي، فيما تشير المعطيات الأحدث إلى أنّ المساهمات المُتوَقَّعة ستقتصر على الحد الأدنى من هذا النطاق. وبالاستناد إلى عدد سكان قطاع غزة، الذي يقدَّر بنحو 2.2 مليوني نسمة، فإنَّ هذا السيناريو يفضي إلى نسبة قوة تقارب 367 مدنيًا مقابل كل عنصر أمني واحد، وهي نسبة لا ترقى بأيِّ حال إلى مستوى يسمح بتنفيذ مهمة قد تنزلق عمليًا نحو نمط من أنماط مكافحة التمرّد، وهو نمط يتطلّب، وفق المعايير المعروفة، نسبة أقرب إلى 25:1. وحتى في حال بلوغ قوام “قوة الاستقرار الدولية” الحد الأعلى من التقديرات المطروحة، فإنَّ نسبة تقارب 110:1 ستبقى غير كافية للتعامل مع مقاومةٍ طويلة الأمد أو مع بيئةٍ أمنية مُعقّدة ومفتوحة على احتمالات التصعيد.

مع ذلك، تبقى هذه التقديرات رهينة افتراضات غير مُكتمِلة، طالما لم يتم التوصل بعد إلى فهمٍ مُشترك وواضح لطبيعة المهمة النهائية، وأهدافها، والغايات المرجوّة منها. وحتى اللحظة، كانت الولايات المتحدة قد تواصلت مع أكثر من سبعين دولة في محاولةٍ لاستطلاعِ مدى استعدادها للمساهمة في “قوة الاستقرار الدولية”، من دون أن تحصدَ أيَّ التزامٍ جدّي يُذكر، باستثناء ما أُشيع عن موقف إيطالي مُحتمَل. وفي السادس عشر من كانون الأول (ديسمبر)، استضافت القيادة المركزية الأميركية (سنتكوم) مؤتمرًا في الدوحة، شارك فيه ممثلون عن أكثر من خمسٍ وعشرين حكومة، خُصِّصَ لبحث كيفية صياغة تفويض لهذه القوة بما ينسجم مع اعتبارات الدول المرشّحة للمشاركة. إلّا أنَّ هذا المسار، بدوره، لم يُفضِ إلى أيِّ توافُقٍ ملموس.

وحتى الآن، ظلّت أيُّ إشارات اهتمام مشروطة بحصر دور القوات الدولية ضمن “المنطقة الخضراء” الخاضعة حاليًا لسيطرة الجيش الإسرائيلي. غير أنَّ مثل هذا الطرح من شأنه أن يُقوِّضَ الهدف الأساسي المتمثّل في انسحاب الوحدات الإسرائيلية من قطاع غزة، وبالتالي الإبقاء على واحدة من أبرز العقبات أمام تنفيذ خطة السلام. وفي محاولةٍ واضحة لكسر هذا الجمود، طرحت الولايات المتحدة مؤخرًا مقترحًا عالي المخاطر، يستدعي مقاربة شديدة الحذر لما يحمله من تداعيات سياسية وأمنية محتملة.

إشراك القيادة الأميركية في “قوة الاستقرار الدولية”

في ظلِّ عودة “حماس”، التي تُصنَّف ظاهريًا كطرفٍ غير مُتعاوِن، إلى بسط نفوذها على الغالبية الساحقة من سكان غزة، واستمرار الجيش الإسرائيلي في استهداف قيادات الحركة بأسلوبٍ انتهازي، تبدو خطة السلام المؤلّفة من عشرين بندًا أقرب إلى اختبارٍ مصيري. فقد أفادَ تقريرٌ صدر في الحادي عشر من كانون الأول (ديسمبر) بأنَّ إدارة ترامب تعتزمُ تعيينَ ضابطٍ أميركي برتبة جنرال ذي نجمتين قائدًا لـ”قوة الاستقرار الدولية”. ونقل التقرير عن مسؤولين إسرائيليين، لم تُكشَف هويتهم، ما قيل إنَّ السفير الأميركي لدى الأمم المتحدة، مايكل والتز، أبلغه إلى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو خلال زيارةٍ قام بها إلى إسرائيل في الأسبوع الذي بدأ في الثامن من كانون الأول (ديسمبر).

وقد أكّد مسؤولان أميركيان، فضّلا عدم الكشف عن اسميهما، وجود هذا التوجّه، بل ذهب والتز نفسه إلى القول إنه يعرف الضابط المرشّح شخصيًا. وإذا ما صحّت هذه المعطيات، فإنَّ قرارًا من هذا النوع يفتح الباب أمامَ جُملةٍ جديدة من الأسئلة، ويُضيفُ طبقة إضافية من الغموض إلى مشهدٍ يُعاني أصلًا من ضبابية عالية. ورُغمَ أنَّ بعضَ هذه التساؤلات قد يبدو أكثر إلحاحًا من غيره في مرحلة بناء القوة وتطويرها، إلّا أنَّ جميعها يظلّ أساسيًا ولا بدّ من معالجته بشكلٍ واضح قبل الإقدام على أيِّ خطوةٍ تتعلّق بنشر “قوة الاستقرار الدولية” على الأرض.

أكثر المخاوف إلحاحًا التي أثارها هذا الإعلان تتمحور حول سيناريو مُحرِج مُحتَمَل، يتمثّلُ في تعيين قائدٍ للعمليات الميدانية من دون أن يُسمَحَ له بدخول مسرح عملياته. فمنذ البداية، شدّدت إدارة ترامب على عدم نشر أيِّ قواتٍ أميركية داخل قطاع غزة، وهو موقفٌ جرى تأكيده مجددًا وبصورة قاطعة الشهر الماضي على لسان متحدث باسم القيادة المركزية الأميركية، الذي قال بوضوح: “للتوضيح، لن يتمَّ نشرُ أيّ قوات أميركية في غزة، وأيُّ تقارير تشير إلى خلاف ذلك هي غير صحيحة”. ومن شأن أيِّ تراجُع عن هذا التوجيه الصارم، المُعتَمَد حتى الآن، أن يسيء إلى الصورة التي سعت واشنطن إلى ترسيخها ل”قوة الاستقرار الدولية” بوصفها قوة أكثر حيادًا، كما قد يرفع من احتمالات مقاومة “حماس” لها. وفي المقابل، فإنَّ الإبقاء على هذا القيد سيضعُ قيودًا جدّية على الفعالية العملياتية للقائد المُعَيَّن، وكذلك على أيِّ عناصر أميركية أخرى قد تُسنَدُ إليها أدوار قيادية أو تنسيقية.

ويفتح هذا الواقع الباب أمامَ إشكاليةٍ أخرى لا تقلُّ تعقيدًا، تتصل بقواعد الاشتباك، وبالكيفية التي ستنعكس بها هذه القواعد على المتطلّبات المادية واللوجستية لمهمة “قوة الاستقرار الدولية”. وتقدّم التجربة الأميركية الحديثة في قيادة عملياتٍ مُتعدِّدة الجنسيات في أفغانستان إطارًا مرجعيًا مفيدًا لفهم هذه المُعضِلة. فإذا افترضنا أنَّ مهمّة قوة الاستقرار ستشمل كامل قطاع غزة، فإنَّ القيادة الأميركية ستكون مضطرة إلى أخذ الشروط والقيود التي ستفرضها على مختلف الوحدات المشاركة في الحسبان، بغضِّ النظر عن القواعد العامة للاشتباك المعتمدة نظريًا.

وفي هذا السياق، حتى في حال بقاء القوات الأميركية خارج القطاع، فإنَّ وجود قائد أميركي على رأس الهيكل القيادي سيرفع تلقائيًا من سقف توقّعات الشركاء الدوليين. ومن المرجّح أن تطالبَ الدول المساهمة بقوات بحزمةٍ واسعة من الدعم الأميركي لوحداتها العاملة على الأرض. ووفق قواعد الاشتباك المعمول بها عادة، قد يشمل هذا الدعم مزيجًا من قدرات الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع، والخدمات اللوجستية، وعمليات الإخلاء الطبي، وربما أيضًا أشكالًا من الدعم الناري، سواء عبر المدفعية أو الإسناد الجوي. ورُغمَ أنَّ هذا المستوى من المساندة قد يُشكّلُ عامل جذب إضافيًا للشركاء المتردّدين، إلّا أنّه في المقابل قد يُحمّلُ الولايات المتحدة أعباءً أكبر بكثير مما هو مُتَوَقّع، سواء على مستوى الموارد أو على مستوى الانخراط غير المباشر في مسرح عمليات بالغ الحساسية.

يفرض هذا السيناريو، بطبيعته، زيادةً ملموسة في متطلّبات القوى البشرية العسكرية الأميركية، ولا سيّما في حال استمرار محدودية مساهمات القوات الدولية الأخرى. فمن حيث الأفراد، جرى إنشاء مركز قيادة العمليات المشتركة اعتمادًا على نحو مئتي جندي أميركي، من بينهم الجنرال باتريك فرانك، قائد مكوّن الجيش “أرسنت” (ARCENT) التابع للقيادة المركزية الأميركية، الذي يتولّى منصب القائد المشارك إلى جانب مسؤول مدني أميركي رفيع المستوى. غير أنّ التوجُّهَ نحو تعيين قائد ل”قوة الاستقرار الدولية” برتبة جنرال من شأنه أن يفرضَ أعباء تشغيلية إضافية، ما سيؤدي حتمًا إلى رفع مستوى وحجم الانخراط الأميركي، بصرف النظر عن حجم مشاركة الشركاء الآخرين.

وإلى جانب متطلبات الكوادر القيادية الأميركية، يُرجّح أن يظهرَ توجُّهٌ لإدراج عنصر التدريب والتوجيه، ولو بالحدّ الأدنى، بهدف تسهيل التنسيق والتفاعل مع الوحدات الدولية المساهمة، وربما استجابة لطلبات مباشرة منها. وقد يشمل ذلك الاستعانة بقوات من لواء مساعدة قوات الأمن في الجيش الأميركي، أو بعناصر من القوات الخاصة. ومع إضافة الأفراد اللازمين لتوفير مختلف أشكال الدعم العملياتي واللوجستي، قد يشهد الحضور الأميركي توسّعًا سريعًا وملحوظًا، يتجاوز بكثير ما هو مُعلَن أو متوقّع في المرحلة الحالية.

وخلاصةُ القول، يتعيّن على الولايات المتحدة إبداء قدر عالٍ من الحذر والتروّي قبل الإقدام على تولّي دورٍ قيادي عملياتي في إطار “قوة الاستقرار الدولية”. فتلبيـة المتطلبات المعقّدة لهذه المهمة، والتي تشمل امتلاك المهارات المناسبة، والكفاءة المهنية العالية، والقدرات المتقدّمة، إضافة إلى المكانة والهيبة السياسية لقوة تحظى بقبول مصر، ولا سيّما إسرائيل، تمثّل تحديًا كبيرًا يُرجّح أن يستدعي شكلًا من أشكال المشاركة الأميركية. ومع ذلك، ينبغي أن تنطلقَ المداولات من خياراتٍ تتيح مشاركة محدودة ومضبوطة، مثل الاضطلاع بدور التدريب والتوجيه من خارج قطاع غزة، بما يحدُّ من الانخراط المباشر والمخاطر المصاحبة له. وفي الوقت نفسه، لا بدّ من الإقرار بواقعية بأنّ أيَّ مهمة ذات جدوى حقيقية ستُعرِّضُ القوات المشاركة لمستويات مختلفة من الخطر، حتى في ظل اتخاذ إجراءات تهدف إلى تقليص هذه المخاطر.

وعليه، ينبغي أن يُنظَرَ إلى قبول مسؤولية القيادة بوصفه خيارًا أخيرًا، يُلجأ إليه فقط بهدف ترسيخ التزام دولي واسع بقوة متعدّدة الجنسيات قادرة على تنفيذ مهمة شاملة تُحقّق الهدف الأساسي للخطة ذات البنود العشرين، والمتمثّل في نزع سلاح قطاع غزة. كما يُفتَرَضُ أن يقترنَ هذا الخيار بإطارٍ توجيهي واضح، يُحدّدُ بدقّة قواعد الاشتباك، وحجم القوى البشرية الأميركية، وأنواع الدعم التي ترغب الولايات المتحدة في تقديمها. إنَّ التسرُّعَ في اتخاذ قرار من هذا النوع لن يُعالجَ الإشكالية الجوهرية المتمثّلة في غياب تفويضٍ واضح ل”قوة الاستقرار الدولية”، بل ينذر، على العكس، بخطر نشوء قوة تتمحور حول الولايات المتحدة نفسها، بما قد يدفعها تدريجًا إلى الانزلاق في صراعٍ متصاعد. وفي مثل هذا المسار، قد يقود كل حلّ وسط إلى حلّ وسط آخر، فيما يزداد خطر تآكل الهدف الاستراتيجي وتبدّده مع مرور الوقت.

Exit mobile version