الدكتور فريد الخازن*
أما وقد تمّت زيارة الحبر الاعظم إلى لبنان بحفاوةٍ وأمان، فماذا بعد؟ سؤال لا بُدَّ منه في خضمِّ الأزمات التي تُواجهها البلاد. على خطى سلفه البابا فرنسيس الذي كان يرغب بزيارة لبنان وتركيا، سلك البابا لاوون الرابع عشر المسارَ نفسه.
في تركيا زيارةٌ لإحياءِ الذكرى واستِلهامِ العبر. مجمع نيقيا، الذي ضمَّ أكثر من 300 أُسقف من الكنائس الشرقية والغربية، التقى فيه المسيحيون على قانونِ إيمانٍ صَمَدَ بوَجهِ التقلُّبات على مدى العصور، وتلتزمُ به اليوم الأكثرية الساحقة من مسيحيي العالم. انعَقَدَ المجمع المسكوني قبل نشوء الإمبراطورية العثمانية بألف عام، وقبل الانقسام الكنسي بسبعة قرون. تبدّلَ المشهد في الشرق والغرب بعدَ حروبٍ وتحوُّلات. في تركيا حاليًا أقلِّية مسيحية تشهَدُ على زمنٍ مضى في دولةٍ تجمعُ بين العلمانية والإسلام وبين الارتباط الاستراتيجي بالغرب والطموحات الكبرى في مناطق الامبراطورية السابقة.
في المقابل، لبنان بلدٌ “صغيرٌ كبير”، على حدِّ قول البابا فرنسيس، حامل رسالة الحرية والتعدُّدية، كما أشار البابا القديس يوحنا بولس الثاني، تأتي زيارة البابا لاوون الرابع عشر بأبعادٍ مختلفة. في الشأن المسكوني يُمكِنُ لشعلة نيقيا أن تُستَعادَ من لبنان، الذي يحملُ أيضًا شعلة الأخوّة الإنسانية، أو العيش المُشترك في التعبير اللبناني. هذا العيش ليس دخيلًا أو مُصطَنعًا بل فعليًّا وفريدًا في المنطقة وخارجها. البُعدان المسكوني والإنساني حضرا في زيارة الحبر الأعظم الذي أكّدَ على دعمه وتشجيعه للسير قُدُمًا باتجاه تمتينهما بأفعالٍ تَعكِسُ الأقوال.
لزيارة البابا جانبٌ آخر تَمثّلَ في حرصه على التواصُل المباشر مع المُهَمَّشين والمُتألِّمين من الناس: رسالةٌ مُعبِّرة تجلّت بزيارة مستشفى دير الصليب الذي “لا يختار مرضاه، بل يحتضنهم بمحبة”، كما قالت الأم الرئيسة، وبصلاةِ المرفَإِ واللقاء مع أهالي الضحايا بتواضُعٍ وصدق من أجلِ عدالةٍ علّها تأتي. أما زيارة ضريح القديس شربل فجاءت بطلبٍ من الحبر الاعظم، رجل الصلاة والإيمان وليس فقط السلطة. القديس الناسك يُجسّدُ حضورَ لبنان المعولم، شفيع الناس من كافة الأديان وفي كلِّ مكان.
ما طلبه خليفة بطرس من لبنان محبّة وحوار وسلام. الاحتفالية ضرورية ومعها مظاهر الفرح والامتنان. لكن ماذا بعد الاحتفالية الجامعة، لا سيما أنَّ ما بعدها مسؤوليةٌ تقعُ على عاتق اللبنانيين؟ الكرسي الرسولي قادرٌ وجاهزٌ للمساعدة، لكن بقدر ما نزرعُ ونبني جسور التلاقي بعيدًا من الأنانيات يأتي الحصاد وفيرًا. بكلامٍ آخر، المطلوب الانتقال من موقع المُتلقّي الى المبادرة بمسؤوليةٍ واتزان.
أشادَ البابا بقدرة اللبنانيين على الصمود وتخطّي الصعاب، إلّا أنَّ المتابعة مصدرها لبنان. مواقف الفاتيكان المُستَندة إلى القِيَمِ الإنجيلية لن تتبدّل: نبذُ الحروب والعنف والدعوة إلى السلام. لقد أكّدَ الفاتيكان على “حلِّ الدولتَين للشعبين” في فلسطين على رُغم اعتراض إسرائيل ومناصريها، ويصرُّ على الحلول السلمية في مُقاربةِ الأزمات في لبنان والمنطقة والعالم.
لكن ما تبدّلَ هو لبنان ومحيطه الإقليمي بعد أن تراجعت أفاق التسامح والوئام. في المقابل، سار الكرسي الرسولي باتجاهٍ مُغايِر، خصوصًا منذ المجمع الفاتيكاني الثاني منتصف الستينيات الذي أرسى مبادئ الانفتاح والتواصُل مع الأديان والشعوب والقوميّات التي نشأت بعد الانتقال من الإمبراطوريات التاريخية إلى الدول المعاصرة.
شكّلت الزيارة محطّةً لتجديد الالتزام بلبنان المُتنَوِّع طائفيًا ودينيًا، وللتأكيد على دور المسيحيين في هذا التنوُّع، ماضيًا وحاضرًا. هذا بالذات ما يُميِّزُ واقع العيش المشترك في لبنان بالمُقارنة مع واقع الحال في المحيط الإقليمي، حيث الضحايا هم المُكوِّن الأضعف. هذا ما يُحذِّرُ منه الكرسي الرسولي ويعملُ على الحدِّ من تداعياته السلبية. وهو توجُّهٌ يتبنّاه الفاتيكان في الشرق الاوسط وفي مناطق أخرى، منها أخيرًا تجاه الحرب بين روسيا وأوكرانيا.
جاء البابا إلى لبنان ليؤكّد على ثوابت يُمكن البناء عليها وعلى دعم الفاتيكان المُتواصل بلا مقابل. مظاهرُ الاحتفال ليست بديلًا من الإرادة المثمرة وحسن النيات. رسائل مُشَفَّرة أطلقها الحبر الأعظم، تستدعي المتابعة الحثيثة والمبادرة الصادقة فتزداد الوَزنات، ومعها قدرة الكرسي الرسولي على المساعدة الفاعلة في شتى المجالات. ديبلوماسية الفاتيكان لا شبيه لها لجهة الاحتراف والثبات وبلا ضجيج أو إعلام.
أمّا في الشأن الكنسي فالتحدّياتُ معروفة والمطلوب واحد: صدقٌ والتزام. مَثَلُ مرتا في الإنجيل بالغُ الدلالة والصور التذكارية لا تحجبُ مُعاناة الناس. كذلك في الشأن الوطني المطلوب تفعيلُ الوَزنات. حضرت الدولة وجنّدت قدراتها وبدت متماسكة. زيارةُ الأيام الثلاثة مضت والدولة باقية، علّها تستكمل الإنجاز فتنال ثقة الناس.
جاءَ الحبر الأعظم ليمدَّ يَدَ العون ببساطة وإرادة لا تحيد عن مبادىء وقِيَم من أجل خير إنسان خلقه الله على صورته ومثاله. تركت الزيارة أثرًا واضحًا في الزائر الكبير، عبّر عنه بعد عودته إلى الفاتيكان. والسؤال واحد قبل الزيارة وبعدها: ماذا نحن فاعلون؟
- الدكتور فريد الياس الخازن هو أكاديمي وسياسي وديبلوماسي لبناني. كان نائبًا في البرلمان (2005-2018)، وسفيرًا للبنان في الفاتيكان (2018-2024).
