هذا الجنون في “النهار”

هنري زغيب*

 كنتُ عند مطلع عهدي بالكتابة في “النهار” (1974) حين وصلْتُ يومًا إِلى مكتب شوقي أَبي شقرا (وهو ذو الفضل الأَوَّل عليَّ في إِدخالي إِلى أُسرة “النهار” التي أَعتزُّ، بعد نصف قرن، أَنني لا أَزال فيها حتى اليوم)، فوجدتُ في بهوه الواسع زحمةَ حضورٍ يصغي إِلى عازف بيانو لم أَعُد أَذكر مَن كان. سأَلتُ صديقي رمزي الريحاني (كان عهدئذٍ يَكتب النقْد الموسيقي في “الصفحة الثقافية”) فأَجابني أَنَّ شوقي “مجنون ثقافة”، ومن مبتَكَرَاته تحويلُ بهو مكتبه منصةً ثقافيةً لحدَثٍ ثقافي (عزف، ندوة أَدبية، لقاء فكريّ) ما يجعل “النهار” فضاءً أَوسع من مجرد جريدة ورقية.

“مجنون”؟ بل هذه جينة “النهار” الابتكارية. فالجنونُ نوعان: سلبيٌّ مُؤْذٍ غيرُ نافع، وإِيجابيٌّ مفيدٌ بطموحه حتى المثابرة القُصوى بلوغًا إِلى غايته النبيلة.

وفعلًا: كان جنونًا إِيجابيًّا إِقدامُ جبران تويني (1890-1947) على تأْسيس “النهار” (1933) مناهضًا بشراسةٍ سُلطة الانتداب الشرسة. وعند وفاته (1947) خَلَفَهُ ابنُه غسَّان تويني (1926-2012) مجنونًا إِيجابيًّا إِبداعيًّا في تَطوير “النهار” من جريدة ورقية عادية كأَخَواتها في الصحافة اللبنانية، إِلى استقطابِ أَقلامِ مبدعين في كل حقل (أَبرزهم روَّاد مجلة “شعر”). وأَصدر لها ملاحق ثلاثة (الأَدبي، الاقتصادي، الرياضة والتسلية) وملفَّاتٍ خاصةً (كتيِّباتٍ موثَّقَة) في مواضيع الساعة ما زالت حتى اليوم مراجع للمتخصصين، وأَنشأَ “دار النهار للنشر” أَصدرت مؤَلفاتٍ جوهريةً لكبار أُدبائنا، إِلى إِصداراتٍ وأَفكارٍ ومشاريعَ أُخرى جعلَت “النهار” أَمبراطورية صحافية يحسُدُها الشرق ويحتذيها.

وجاء الحبيب جبران تويني (1955-2005) مجنونًا إِيجابيًّا رياديًّا فوسَّعها إِلى مجلة “النهار العربي والدولي” (في باريس) ملحق “نهار الشباب”، وتطويرٍ تكنولوجيٍّ ابنِ عصره شكْلًا وإِخراجًا، وتحديثاتٍ أُخرى جعلَتْ ديك “النهار” مَنارًا صحافيًّا يَصيح في كلِّ صوب موقظًا شعبًا بكامله على عظمةٍ لِلُبنان، تَوَّجَها بـ”قسَم جبران” أَطلقَه مُدوِّيًا حتى استشهدَ وهو يردِّده.

ثم جاءت نايلة تويني (م.1982) تواصل رسالة والدها الشهيد، فلم تتأَخر عن جنونٍ توينيٍّ إِيجابيٍّ وَرِثتْهُ في جينات العائلة، فوسَّعت الأَمبراطورية الصحافية إِلى “مجموعة النهار الإِعلامية”، بطبعةٍ من “النهار” لبنانيةٍ وأُخرى عربيةٍ، ومَوقعٍ لهما متطوِّر، وموقعٍ إِلكتروني خاص بـ”النهار العربي” أَثبَتَ انتشاره أَوسعَ من المتوقَّع، قاطفةً جوائزَ مُشَرِّفةً على مُنجَزاتٍ تَضمُّ منصَّاتٍ إِلكترونية، وأَنشأَت محطةَ “بودكاست نايلة”، ومحطةَ “النهار” التلفزيونية، وسواها وسواها من التحديثات الموسومة جنونًا مُتجدِّدًا بالإِيجاب والإِسهاب.

ومن جنون نايلة الجميل أَنها استضافَت أَميرًا مجنونًا هو “هاملت” رفعت طربيه، هيَّأَتْ له في الطابق الخامس من مبنى “النهار” الأَنيق منصَّةً في “مقهى الصحافة” (مساحة متعددة الوظائف، فيها سْتديو ومقهى ومونتاج سينمائي وزوايا للتصوير وحتى البث الإِخباري)، ما يجعلُ هذه الفسحة فضاءً لصالون أَدبي طليعيٍّ، ومنبرًا رائدًا متعدِّد الاستقبالات، وهي فكرةٌ طليعيةٌ تجعل “نهار” نايلة تويني جمهوريةً إِعلاميةً تامةً مرشحةً بعد للتَوسُّع الـمُشْرق.

رفعت طربيه (الإِثنين مطلع هذا الأُسبوع ثم مساءَ كلِّ اثنين) بَهَرَنا كما في عروضه “الهاملتيَّة” السابقة، مُثْبِثًا بأَدائه أَنه علَمٌ كبيرٌ مُكرَّسٌ في نهضة المسرح اللبناني. أَدَّى المسرحيةَ وحده (منفردًا ذكَّرنا بتجربة يعقوب الشدراوي ممثلًا وحيدًا في “مجنون” غوغول). وإِذا رفعت يُهدينا بإِخراج لينا أَبيض، مسرحيًّا على المنصة وبصريًّا على الشاشة، عملًا مبدعًا كان يحلم به منذ بواكيره المسرحية في مطلع السبعينات.

لا أَكتُب هنا لأَتوقَّف عند أَداء رفعت المذهل، ولا لأُكرر ما كتبتُهُ عنه قبل أَسابيع مرَّتين في “النهار” و”أَسواق العرب” (28 آذار/مارس و26 أَيلول/سبتمبر). بل أَكتُب لأُحيِّي جنونًا إِبداعيًّا تُواصلُ به طليعيةَ عائلتِها صبيَّةٌ رائعةٌ، رؤْيويةُ الطُموح، تحمل في وجدانها إِرثًا توينيًّا عظيمًا يجعل فرادةَ لبنان النهضوية شمسًا دائمة الإِشعاع في “نهار” يتفرَّد به لبنانُ اللبنانيُّ إِبداعًا ونهضةً تاريخيةً في ذاكرة هذا الشرق.

نايلة تويني: تحيةُ إِكبارٍ لقامتِك النحيلة التي يُتوِّجُها جبينُكِ العالي.

Exit mobile version