في ديوان “دموع المجدلية” يُعيدُ الشاعر اللبناني محمود عثمان كتابةَ سيرة المسيح بلغةٍ شعرية مُلتَبِسة تَمزُجُ الإيمان بالخيال، والتقليد الديني بالأسئلة الإنسانية الراهنة. عَمَلٌ أقربُ إلى مسرحٍ شعري تتقاطع فيه المسيحية والإسلام في رؤيةٍ مُنفَتِحة تنحازُ إلى الإنسان والحرية.
الدكتورة زهيدة درويش جبور*
إنَّها لمُصادفةٌ جميلة أن نقرأَ ديوانَ “دموع المجدليّة” للشاعر محمود عثمان في زمنٍ ميلادي، فيما لا يزالُ عبقُ زيارة البابا لاوون الرابع عشر، بما حملته من رجاءٍ وأملٍ للبنانيين التائقين إلى الخروج من النفقِ المُظلِم إلى النور، عالقًا في الأجواء.
محمود عثمان يعرفُ التراثَ المسيحي جيدًا، ويغرفُ من رموزه وتقاليده ليُوظِّفها في التعبير عن تجربته الخاصة وعن رؤياه للسيد المسيح ولما يُمثّله. وإن دلَّ ذلك فعلى صحة مقولة حفظتُها عن المطران جورج خضر: “في كلِّ مسلمٍ لبناني بعضٌ من المسيحية، وفي كلِّ مسيحي لبناني بعضٌ من الإسلام”.
الديوان أقرب ما يكون إلى عملٍ مسرحي مكتمل العناصر: حَيِّزُ مكاني وزماني، مروحة واسعة من الشخصيات التي تطلُّ تباعًا في القصائد، مشاهد تستحضرُ أحداثًا تاريخية معروفة، وبين الحين والآخر نشيدٌ أو صلاة.
تدورُ الأحداث في مروحةٍ من الأماكن حيث يتابعُ الشاعر خطى المسيح على أرضِ الجليل، في الناصرة، وبيت عنيا، وعلى شاطىء بحيرة طبريا وقانا وصور حيث تتالت المعجزات وأوُّلها شفاء الفتاة الكنعانية. أما الزمن فيتطوَّرُ على إيقاع حياة المسيح منذ الولادة حتى الموت والقيامة، مرورًا بعزلته في الصحراء قبل دخوله الهيكل في أورشليم حيث ستكتمل النبوءة بموته على الصليب، ثم صعوده إلى السماء وفقَ العقيدة المسيحية.
مريم العذراء في الصدارة
العنوان استباقي يجعل من مريم المجدلية الموضوع الأساس، إلّا أنَّ شخصَ المسيح يبقى في الحقيقة محوريًا إذ إنه يُعطي لباقي الشخصيات مُبرّر وجودها تبعًا لعلاقتها به، ودورها في سيرته. أما مريم العذراء فقد حرص الشاعر على أن تكونَ في موقع الصدارة فخصّها بالقصيدة الإفتتاحية، لكنَّ وجوهًا أُخرى كثيرة تمرُّ أمامنا: الرُسُل الإثني عشر، مرتا، رهبان الدير، باراباس، صالومة يوحنا المعمدان إلخ…
وخلافًا لانطباعٍ أوَّلي بأنَّ المجموعةَ إنَّما هي مجرَّد استعادةٍ لسرديةٍ معروفة بلغة لها من الشعر ظاهره، عَنَيتُ النظم، يُشكّلُ الإلتباس، وهو جوهر اللغة الشعرية التي تعتمد الرمز والمجاز لتشرع الباب على الاحتمال والتأويل، حجر الزاوية في بنية الديوان الذي ينضوي على معانٍ تتجاوز أدب السيرة لتمنحه بُعدًا إنسانيًا شاملًا.
يَنجُمُ الالتباسُ عن لعبةِ مُزاوَجة بين نقيضَين كما بين قراءتَين: دينية وشعرية. للشخصيات الأساسية وجهان: واحدٌ يتوافق مع السردية الدينية والتاريخية، وآخر ترسُم ملامحه المُخَيَّلة الشعرية. العذراء مريم هي الأم المُقدّسة، المرأة التي طهّرها الله واصطفاها على نساء العالمين، كما يُوحي المجاز في عبارة “الزنبقة العذراء”، التي وُسِمَت بها القصيدة الافتتاحية، لكنَّ الشاعرَ يُسلِّطُ الضوءَ على وجهها الآخر، إذ يَضَعُها في قلب مشهدٍ رعوي حيث تبدو صبية ترفل بالفرح وتشعر في الوقت نفسه بالحياء والتوجُّس: كيف ستنقلُ النبأ العظيم إلى يوسف، خطيبها، وقد بشّرها الملاك بالطفل المُعجِزة الذي ستَلده وهي بتول؟: “على موعد الصحو آن الشروق/ تشم البقية في الزنبقة/ وأجنحة من حرير النجوم/ عليها ترفرف بالزقزقة/ فجاءت ليوسفها والحياء/ تبوح به شفة مطبقة”. وأمومة مريم لا تختلف عن أمومة سائر النساء، ترقب ابنها يومًا بيوم وهو يكبر وتحلم بأولادٍ له يملَؤون حياتها بهجة: “يا مريم الطهرِ أمٌّ للهدى وأب/ يا من حملت بنور ليس يحتجب/ هل تحلمين بأحفادٍ له نجبٍ/ وكم يداعب قلبَ الجدة النجب” (ص.69)، وهي الأمُّ الثكلى ينفطرُ قلبها عند أقدام الإبن المصلوب وتكادُ من خوفها عليه ترفض أن تُصدّقَ ما تراه عينها: “قامت تكفكف والمنديل في يدها/ قل لي يوحنا فما أغرى بك الكذب/ أحمرة الخدِّ من جوعٍ به شحبت/ أم هدّه العشق والإعياء والتعب؟ (ص.69) .
صورة المسيح منسجمة مع المسيحية والإسلام
أما المسيح فتأتي صورته مُنسَجِمة، من جهة، مع طبيعته الإلهية، وفق الإيمان المسيحي، ومُتوافقة مع ما جاء في القرآن حيث المسيح هو كلمة الله ألقاها إلى مريم: “إني صنعتك من رحيق مجامري/ ونفخت في شفتيك روح إله” (ص.13)؛ كأنَّ الشاعر أرادَ أن يصالح في البيت الثاني من الاقتباس بين العقيدتين. وهو نور العالم: “عيناك برق طاعن في ظلمة/ ويفوح عطرك في جبينٍ واهٍ (ص. 14)، وحامل آثام البشرية، ومُبشِّرها بالخلاص: “يسوع قادم لبشارةٍ/ ويلفها مثل العيون غموض (ص.34). لكنه من جهة أخرى، رجلٌ تتنازعه رغبتان وتساوره الشكوك، فهو عاشق للمجدلية يرنو قلبه إليها لكنه غير قادر على الإذعان لنداء شهوته فيُطفِئها مُتساميًا على ضعفه البشري: “أبحبّها أم كرهها ممسوس/ أم يحرق الشفتين حين يبوس/ الشك ينخره ويأكل قلبه/ أيصدّق السمراء في إحساسها/ وكم اشتكى من كيدها إبليس/ أتحبني؟” (ص.15). وفي موضعٍ آخر يؤكد الشاعر الجانب الإنساني في شخصية المسيح العاشق: “وتشهد الأمواج أن أحبها/ وفرّ من جمالها” (ص. 45). هذه الازدواجية في شخص المسيح كما يقدمه الديوان تتجلّى في أبهى صورها في قصيدة “يسوع النجار” حيث يرفع الشاعر إليه صلاته: “يا أيها الممسوح فامسح أرضنا/ تجرِ الغلال وتنبت الأنهار/ أنى وطأت من الشعاب على الحصى/ شعّت نجوم وازدهت أقمار”، قبل أن يتحوَّلَ مناخُ القصيدة فجأةً عند دخول المجدلية المشهد: “ترنو إليها يا مسيح مُعاتبًا/ في مقلتيك تعفف وأوار/ ما هِمتَ همًا بالجمال وصبوةً/ إلّا وقامت دونك الأسوار” (ص.66-67).
ثمَّ وبشكلٍ غير مُتوقَّع يتغيّرُ المشهد لنرى المسيح على الصليب، قويًا في ضعفه، مُنتصرًا في انكساره، لكأن القصيدة أضحت أيقونةً فصحيةً تزهو بها الكنائس والمعابد: “الشوك أصبح فوق رأسك وردةً/ وعلى جبينك يستحم الغار/ ما أثخنوك بطعنةٍ أو ضربةٍ/ إلّا وأنّ بنشوةٍ مسمار/ يا أيها الحاني على أوجاعه/ أعداؤه في العالمين صغار”. وتبلغ القصيدة ذروتها الفنية في البيتين الأخيرين نظرًا لقدرة الصورة النابضة بالحركة واللون على تجسيد المعنى القائم على المفارقة: “عيناه من وجع على جلاده/ شمسُ الغروب على البحار تدور” (ص.67). وفي قصيدة الزيلوت صورة أخرى للمصلوب شديدة الإيحاء يتوسَّلُ فيها الشاعر المجاز إذ يرى إلى المسيح بالبصر والبصيرة في آن، فينفد إلى ما يختلج في نفسه من مشاعر تضيف على أوجاع الجسد المطعون والمجلود آلام الروح: “يُغضي على غضب الجموع مقوسًا/ أحزانه وضلوعُه تابوت” (ص.31).
ومع أنَّ المناخ الغالب يبقى لصيقًا بالتقليد الديني، إذ يستعير الشاعر منه مفرداتٍ وتعابير ويستوحي من سردياته لوحاتٍ ومشهديات، إلّا أنه نجح في توظيف الحادثة التاريخية لقراءة الحاضر والإعلان عن موقفه منه.
الشاعر ويهوذا
فهو ينحازُ إلى يهوذا مُسبِغًا عليه صفة الثائر المتمرّد على الظلم المسكون بهاجس الحرية، وبالتالي، يبقى بهذا المعنى تلميذًا وفيًّا للمسيح الذي أعلن ثورته على الأغنياء، وانتصر للفقراء والمُستضعَفين. في قصيدةٍ بعنوان “يهوذا وفيليبس” يدعو يهوذا صاحبه إلى الدفاع عن الكرامة ورفض الخنوع والاستسلام للقهر: “حرية الإنسان أغلى/ من حياةٍ في الهوان/…/ فدع السلامة والقناعة/ يا أخي آن الأوان” (ص.49). الواقع أنَّ الشاعرَ أراد ليهوذا أن ينطق باسمه، وهو لا يتردد أحياناً في أن يرفعَ القناع ليدخل مباشرةً إلى عالم الديوان مُصرِّحًا عن موقفٍ رافض للواقع. إنَّ دعوةَ المسيح كما يفهمها محمود عثمان هي في جوهرها ثورة وتمرُّد على ما وصلت اليه الديانة اليهودية على أيدي الفرِّيسيين الذين سخَّروا الدين لمصالحهم فاختصروه في طقوسٍ أُفرِغَت من معناها واتخذوا منه وسيلة للسيطرة. فكم يشبه عالمنا اليوم بما يتسم به من جبر الطغاة وسيطرة المال واستغلال الدين عالم الأمس. جاء المسيح لينتصر على الشر، لكن البشرية لا تزال تحلم بعدالةٍ بعيدةِ المنال، وتعصف بها النزاعات والحروب فتلوذ بالإيمان كحبل نجاة. ينحازُ محمود عثمان للإنسان ضد مفهومٍ ضيِّق للدين يختصره في عبادات، وواجبات تُؤَدّى في الصوامع والمساجد والكنائس، فيما حقيقته هي خدمة الإنسان وهدفه نماؤه: “الله ليس بساكنٍ في محبس/ …/ الله حيث وحيدةُ مع طفلها/ والبيت يضحك والرياح تشاغب” (ص. 20). لذلك يطلق دعوته من أجل تحرير الدين من القراءة الحرفية للنصوص وهي قراءة تُفرِغها من معانيها الجوهرية فتتحوَّلُ إلى سببٍ للتقوقع والتعصُّب والجمود: “يا إخوتي فلتقرأوا بين السطور لتدركوا/ معنى الهداية والنبوءة/ واعرفوا/ أنَّ الحروفَ سلاسل/ ستقودكم نحو الهلاك” (ص. 40)
يكشفُ الديوان عن إيمانٍ مُنفتحٍ على آفاق المغايرة، مُتحرِّرٌ من القيود التي تُقَيِّمُ الدين، كل دين، في حدوده الضيِّقة، وعن موقفٍ نقدي أساسه الإيمان بالإنسان قيمة أساسية. كيف لا وقد خلقه الله على صورته ومثاله كما جاء في المسيحية واستخلفه في الأرض كما جاء في القرآن. إلى ذلك تتضمّن هذه المجموعة الشعرية قصائد رائعة تصلح للإنشاد والترتيل وقد يجد فيها المُنشغلون بحوار الأديان نموذجًا يُعبّرُ عن التفاعل والتلاقح بين المسيحية والإسلام وصولًا إلى بناءِ ثقافةٍ “إنسانوية” جديدة نحن بأمسِّ الحاجة إليها في زمن البربرية والتوحُّش.
- الدكتورة زهيدة درويش جبور هي أستاذة الأدب الفرنسي والفرانكفوني في الجامعة اللبنانية، وناقدة أدبية، لها العديد من المؤلفات والترجمات باللغتين العربية والفرنسية، كما شغلت العديد من المناصب المرموقة؛ من بينها الأمينة العامة للجنة الوطنية اللبنانية لليونسكو بين العامين 2011- 2018، والرئيسة الحالية لهيئة تحكيم “جائزة ابن خلدون-سنغور للترجمة”، وعضو في عدد من هيئات تحكيم الجوائز العربية منها جائزة الشيخ زايد للترجمة، وجائزة مؤسَّسة الفكر العربي للرواية، وجائزة سلطان بن علي العويس للشعر.
