إِشكاليّةُ السِلمِ والحَربِ بينَ إيران والغرب

بين سطورِ التاريخ، يفتحُ سليمان الفرزلي نافذةً جديدةً على العلاقة المُعقَّدة بين العرب والروم، ليكشف كيف تَداخَلَ الدين والسياسة في لحظةٍ مَفصليّة غيّرت وجه المشرق. في هذه الحلقة 12، من سلسلة “إشكالية السلم والحرب بين إيران والغرب”، يعودُ بنا إلى جذور “التسلُّم والتسليم” بين القوَّتين، في قراءةٍ تُنقِّبُ في ما وراء الرواية التقليدية لتُعيد رسمَ ملامح التوازُن بين الشرق والغرب.

رمزٌ لتسليم الإرث بين الروم والعرب، حيث تنتقل القوة والمعرفة من إمبراطورية إلى أخرى عبر التاريخ.

(12)

تَسَلُّمٌ وتسليم بين العرب والروم!

 

سليمان الفرزلي*

قبل سنتين من الثورة الفرنسية في العام 1789، أكمل إدوارد غيبون كتابه المشهور بعنوان “تاريخ انحلال وسقوط الإمبراطورية الرومانية”، وهو كتابٌ لم يصدر له مثيلٌ الى اليوم، بعد مرور نحو 250 عامًا. وليست فرادةُ هذا الكتاب في حجمه (سبعة مجلدات، بحوالي 5000 صفحة)، بل في أسلوبِ كتابته، وفي دقّة معلوماته، وسِعة مصادره. فقد بدأ الإعداد للكتاب في العام 1770، وصدر الجُزءُ الأول منه في العام 1776، والجُزء الأخير في العام 1787.

لكلٍّ من الكاتبِ والكتابِ قصَّةٌ، دَوَّنها غيبون في مذكراته التي كتب منها ست “بروفات”، وحرص أن يذكُرَ على غلاف كتاب تلك المذكرات أنه كتبها بنفسه. وقبل أن ينتقلَ من بريطانيا الى مدينة لوزان السويسرية، حيث أقام ووضع مؤلفه الكلاسيكي المشهور، قضى ثماني سنوات نائبًا في “مجلس العموم البريطاني” (البرلمان)، لكنه طيلة تلك السنوات كان النائب الوحيد الذي لزم الصمت، فلم يُلقِ أي كلمة، أو مُداخلة، أو يدخل في أيِّ مناقشة، فكأنه لم يكن صاحب مقعد في أعلى سلطة تمثيلية. بعضهم اتهمه بالاستعلاء، لأنه أرفع من زملائه في الثقافة، ومنهم من قال إنه كان يعاني من حالة جسدية، خشي أن يهزأ به النواب السطحيون، ويجعلوه مضغةً في أفواه السوء.

هكذا ترك العمل السياسي الصامت في بلاد الإنكليز، وانتقل للعيش في سويسرا، حيث عكف على الكتابة، وعلى بناء مكتبته الخاصة، التي بيعت بعد وفاته بمليون جنيه إسترليني بعملة ذلك الزمان. وقيل إنَّ الشخص الذي اشتراها، ظنَّ أنَّ تلك المكتبة هي التي صنعت من غيبون كاتبًا ذائع الصيت، فحاول أن يقلده، ليكتشف، بثمن باهظ، أنَّ الكتابة ليست في المكتبة، بل في العقل الذي يصنع المكتبة!

وَضَعَ غيبون المجلّد الأول من كتابه باللغة الفرنسية، وأرسل نسخًا منه الى شخصيات فكرية مرموقة في أوروبا بغية استمزاج رأيهم فيه، وإبداء ملاحظات أو تصحيحات موثَّقة عليه، وكان من بين هؤلاء المفكر الأسكتلندي المعروف، السير دايفيد هيوم، وهو صاحب مؤلفات فلسفية رفيعة المستوى، بمضمونها، وأسلوب كتابتها، منها “بحث في الطبيعة البشرية “، و”استفسارات حول الفهم البشري” و”حوارات حول الديانة الطبيعية”، و “حول مبادىْ الأخلاق”. وقد وصلته تعليقات من بعضهم، لكن رسالة هيوم استوقفته وعمل بموجبها. في تلك الرسالة نصحه هيوم بأن يضع كتابه باللغة الإنكليزية، “لأن الولايات المتحدة الأميركية الوليدة، سوف يكون لها شأن عالمي كبير في المستقبل، هذا إذا كنت ترغب لكتابك أن ينتشر على أوسع نطاق، ويفعل فعله المرتجى من هذا الجهد الجبار”. طوى غيبون مخطوطه الفرنسي، وبدأ من جديد يكتب بالإنكليزية!

أكتب هذه المقدمة، للإضاءة على موضوعٍ حسَّاس يتعلق بالمؤرّخين العرب، من أجل أن تكون الحقيقة التاريخية، فوق أي اعتبار آخر. ذلك أنَّ إدوارد غيبون، وهو يُحضِّر المراجع اللازمة لكتابه عن الإمبراطورية الرومانية، كان عازمًا على درس اللغة العربية، ليقرأ كتابات المؤرخين العرب بلغتهم. لكن قبل أن يفعل ذلك، أراد أن يأخذَ فكرةً عن المواضيع التي كتبوا فيها، كما هي مترجمة، في زمانها إلى اليونانية واللاتينية، وكان يُتقنهما الى جانب الفرنسية والإنكليزية.

خاب ظنُّ غيبون، فصرف النظر عن إضاعة وقته في درس اللغة العربية، لأنه اكتشف أن غالبيتهم العظمى لم تكتب التاريخ كتابة نقديَّة أو موضوعية، معظمها كتابات من وجهة نظر الحكام والسلاطين، مُستثنيًا اثنين أو ثلاثة، هم: إبن الأثير (1160م–1233م)، وأشهر مؤلفاته “الكامل في التاريخ” –12 جزءًا- وأبو الفدا (“صاحب حماة” 1273م–1331م)، في كتابيه: “المختصر في أخبار البشر”، و”تقويم البلدان”، الذي قال فيه المستشرق الروسي إغناطيوس تراتشكوفسكي: “إنَّ كتابَين عربيَين فقط أثارا اهتمام الغربيين أكثر من كتاب “تقويم البلدان” لأبي الفداء هما: “القرآن الكريم”، وكتاب “ألف ليلة وليلة”!”، وشمس الدين المقدَّسي (945م–1000م)، في كتابه “أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم” وفيه انتقد كُتُب السابقين، واعتمد على ثلاثِ ركائز: على الملاحظة والمعاينة الميدانية، وعلى ما سمعه من الثقات، وبرجوعه الى أمهات الكتب المرجعية المصنَّفة.

هذا يعني، باختصار، أنَّ الكتب التاريخية العربية التي صدرت بعد الإسلام، لا يُركَنُ إليها لغرض التحليل التاريخي الصحيح لحوادث جرت قبل مئات السنين، للاعتبارات التي جعلت إدوارد غيبون يصرف النظر عن درس اللغة العربية لأغراض البحث التاريخي، ويعتمد على المراجع اليونانية واللاتينية، وعلى تحليله الخاص للمواد التي جمعها من المصادر الموثوقة، ومن الوثائق الرسميَّة المدوَّنة.

*****

من غير المألوف في كتابة التاريخ، أن تبدأ باليقين الافتراضي، بل الأدق أن تبدأ بطرح الأسئلة، واستكشاف الأجوبة عنها، من طريق المُقارنة بين المراجع المُصنَّفة، ودرس الظروف الموضوعية التي نشأت فيها الحوادث المكتوب عنها. وإلاَّ كيف تبوَّأ إدوارد غيبون على عرش الكتابة التاريخية منذ أكثر من 250 سنة حتى الآن؟

أولُ سؤال يتبادر الى الذهن، يتعلق بما سمِّيَ “الفتح الإسلامي” لبلاد الشام. فالشواهد التي استعرضها غيبون، تُفيدُ بأنَّ الدخول العربي الإسلامي إلى بلاد الشام، تمَّ بالتفاهم المبدئي بين الإمبراطور البيزنطي هرقل، عند دخوله إلى مدينة القدس، بعد الهزيمة التي أنزلها بالجيش الفارسي بقيادة كسرى الثاني (أبرويز) في العام 628م، وبين زعيم قريش، صخر بن حرب الأموي، المعروف بلقبه “أبو سفيان”.

فالمراجع الغربية الأساسية تُجمع على أنَّ لقاءً في القدس تمَّ بين هرقل و”أبي سفيان”، الذي حمل معه هديَّةً رمزية إلى الإمبراطور البيزنطي المنتصر على الفرس. فاللقاء بينهما قد تم، بصرف النظر عمّا إذا كانت تلك المبادرة جاءت بدعوةٍ من هرقل، أو بزيارة تهنئة تقليدية من زعيم عربي الى قائد غربي منتصر، كما شاهدنا في هذه الأيام، بالصوت والصورة، التهافت العربي على الرئيس الأميركي دونالد ترامب في قمة شرم الشيخ!

قبل طرح الأسئلة حول حقيقة ما جرى بين الإمبراطور البيزنطي، وبين الزعيم العربي القرشي، لا بدَّ من استعراض الأوضاع العامة في الدولة البيزنطية آنذاك، وأوضاع الجزيرة العربية في ذلك الوقت، من منظور هرقل، المعني الأول بالشأن السوري والمصري، حيث رأى أنَّ الدولة البيزنطية، بشق النفس، وبالكاد، استطاعت أن تُقيمَ جيشًا مُقاتلًا للدفاع عن سوريا، وهو أمرٌ سوف يكون شبه مستحيل من بعده، ما يعني أنَّ تلك الدولة سوف تخسر سوريا وما بعدها إلى الأبد. ورأى أنَّ القوة الوحيدة المائلة إلى البيزنطيين هي الجزيرة العربية الفتية، التي تتمخَّضُ فيها خلال أيامه تلك، ولادة قوة دفع عقائدية تعوّض عن النقص العسكري (وهذه نقطة صحيحة لأنها مؤكدة في القرآن الكريم في “سورة الروم”، كما مرَّ في حلقة سابقة)، لكنها في حينه كانت في حالة حرب أهلية بين المسلمين والمشركين من العرب، ولكي يتم التسلم والتسليم بين العرب والروم، لا بدَّ من أن يوحّد العرب صفوفهم، لكي يخرجوا من “الحالة البيزنطية” الاستنزافية، قبل الانتقال من التفاهم المبدئي الى التعاهد الرسمي.

*****

السؤال الأول الذي يطرح نفسه، هو كيف أنَّ أكبرَ خصمٍ للرسول العربي ورسالته في جزيرة العرب، عاد الى مكة من القدس بنفس تصالحي مع خصمه، وكيف أنَّ الرسول عاد إلى مكة من مهجره فاتحًا ذراعيه له، بعد صراع ومعارك مريرة، وجعل بيته مساويًا في الحرمة لبيت الله الحرام، بقوله لخصومه: “من دخل بيت الله الحرام كان آمنًا، ومن دخل بيت أبي سفيان كان آمناً”. ما هو ذلك الشيء الذي قلب أوضاع الجزيرة العربية، والشرق، والعالم، رأسًا على عقب، وبصورة مفاجئة؟

إنَّ بيت أبي سفيان ذاك في مكة، هو نفسه بيت هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان، التي وصفها بعضهم في مكة بأنها “هند آكلة الكبود”، زاعمين أنها بقرت بطن حمزة عمَّ النبي بعد سقوطه في “معركة أحد”، ومضغت كبده تشفّيًا، وهي رواية غير مؤكدة، ولم ترد على ألسنة الثقات، فكيف نال بيتها تلك الحرمة من الرسول العربي؟

الجواب الاستنتاجي من مجريات الأمور في سوريا وقتئذٍ، بعد انهزام الفرس منها، أنَّ أبا سفيان حمل إلى النبي عرضًا من هرقل، يستحقُّ المصالحة، ويرفعُ شأن العرب، ويعطيهم مفتاح التاريخ العالمي في سوريا من غير قتال أو كلفة.

بعدما قام هرقل بتقويم نتائج الحرب مع كسرى، وتقويم أوضاع دولته المتهالكة، قرَّر أن يعقد معاهدة مع المسلمين في الجزيرة العربية، يتولون فيها السلطة في سوريا، والدفاع عنها لقاء حصة للقسطنطينية من خراجها. وقد نشر إدوارد غيبون في كتابه، نقلًا عن المدوّنات اليونانية، مضمون تلك المعاهدة، التي وافق عليها أعيان قريش في اجتماعٍ لهم في دمشق، قبل التسلم والتسليم، في العام 630م، بما يقلُّ عن سنتين من تاريخ وفاة الرسول العربي.

من ذلك يتضح، أنَّ وصول السلطة في سوريا إلى يد الأمويين، وتحديدًا إلى سلالة أبي سفيان، لم يكن عَرَضًا أو بالمصادفة. وإلّاَ كيف يمكن تفسير المدفوعات من خراج سوريا إلى البيزنطيين، وهي موثّقة في السجلّات اليونانية؟ وتؤكد المراجع التي استند إليها غيبون، أنَّ بنود تلك المعاهدة تعدَّلت مرة واحدة، فرفعت قيمتها، وطريقة احتسابها (مع عرض له لأوزان ومكاييل الأموال والغلال المنقولة من دمشق الأموية إلى القسطنطينية، واحتسابها بقيمة العملات تلك في أواخر القرن الثامن عشر). فقد قضى التعديل إلى حسبة كميات الغلال، والمبالغ النقدية، والخيول وغيرها، بالمعدل اليومي على مدار السنة الشمسية (365 يومًا)، كما يلي: (عبدٌ واحد، وحصانٌ واحد، وألف قطعة نقد ذهبية عن كل يوم، بينما كانت قبل ذلك بمقادير مقطوعة سنويًا). فإذا كانت سوريا قد أخذها العرب بالفتح عنوةً، فكيف يمكن تفسير هذه المدفوعات من المُنتَصِر الى المهزوم؟

ظلّت المعاهدة سارية، كما اتُّفِقَ عليها، حتى عهد عبد الملك ابن مروان (685م–705م)، الذي أمر بإقامة دارٍ لسك العملة الذهبية العربية في دمشق لأول مرة في التاريخ العربي. وفي حين تفيد المصادر العربية بأنَّ عبد الملك أمر بذلك في العام 695م، أي بعد عشر سنوات من حكمه، وقبل عشر سنين من وفاته، وأنه لم يكن هناك شخصٌ واحدٌ مسؤول عن السك، بل كانت العملية مركزية بإشراف الخليفة نفسه، يسمي إدوارد غيبون، في حاشية النص حول الموضوع، المدعو “سميور اليهودي” أمينًا مسؤولًا عن إدارة السك. وقبل ذلك بقيت العملات البيزنطية، والفارسية (التي سكها كسرى الثاني أثناء احتلاله لسوريا مطلع القرن السابع الميلادي) سارية قانونيًا تحت الحكم الأموي. وكذلك لغة التدوين الحكومية، حيث بقيت الدواوين على حالها، باللغة اليونانية، كما كانت تحت الحكم البيزنطي في سوريا، ولم تتغير إلى العربية حتى عهد الوليد بن عبد الملك (705م–715م).

النقود الذهبية العربية التي سكها عبد الملك ابن مروان، خلت من الصور، خلافًا للعملات البيزنطية والفارسية، التي كانت تحمل على وجهٍ من وَجهَيها صورة الإمبراطور أو الملك الذي سكَّها، فكان وجهٌ من العملة العربية الجديدة يحمل قيمتها، ويحمل الوجه الآخر كتابة عربية منقوشة، في الغالب ذات مدلول ديني، ولذلك كان الدينار العربي الأول يسمونه في الكلام الدارج “المرقوش”. وبعد تداوله في التجارة، وصل إلى الديار الأوروبية حيث لفظوه “ماركوس”، ومنها اشتقت تاليًا كلمة “مارك” للعملة الألمانية.

*****

حتى خلافة عبد الملك ابن مروان، اقتصر الفتح العربي الإسلامي على بلاد فارس، لكن بعد إلغائه لتعهدات المعاهدة مع القسطنطينية، استأنف الفتح في شمال أفريقيا، حيث اجتثَّ الكنيسة المسيحية هناك من جذورها. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن، بمجرّد المقارنة، هو لماذا بقيت المسيحية في المشرق وفي مصر والعراق، بكنائسها وصلبانها، وأساقفتها، ورهبانها، ومؤسّساتها، وأتباعها، مُصانة ومحترمة ومتوارثة إلى اليوم، بينما لم يبق لها أيَّ أثر في شمال أفريقيا، مع العلم أنَّ الكنيسة الأفريقية، أنجبت نخبة من الأساقفة اللاهوتيين اللامعين في الزمن الروماني، منهم على سبيل المثال: ترتوليان (155م–220م)، وهو قرطاجي، كان أول مؤلف مسيحي وضع أدبيات مستفيضة باللغة اللاتينية، فاعتبر “مؤسس اللاهوت الغربي”، فنال لقب “أبُ المسيحية اللاتينية”.

منهم أيضًا القديس الشهيد سيبريان (210م–258م)، أسقف قرطاجة، وتلميذ ترتوليان، وقد كان بارعًا في مواعظه وخطاباته باللاتينية، وأبرز كتَّاب اللاتينية في المسيحية الغربية.

ثالثهم، وأشهرهم، القديس أوغوسطين مطران عنابة في الجزائر، الذي اعتنق المسيحية متأخّرًا (وهو في الثلاثينات من عمره)، وكان من أرفع المثقفين في زمانه، واشتهر بكتابيه المميزين “مدينة الله”، و”اعترافات”، فقيل عنه: “أنه أسَّس من جديد الدين القديم”. أما كتابه “اعترافات”، فيعتبر من النصوص التأسيسية لفن كتابة السيرة الذاتية. وقد اشتهر أوغوسطين بنظريته حول “الحرب العادلة” التي أثارت جدلًا واسعًا في الكنيسة الغربية وخارجها، لأنَّ المسيحية الأولى، خلال القرون الثلاثة السابقة، كانت ترفض الحرب بالمطلق، ولا يشارك أتباعها في أيِّ حرب كجنود مقاتلين.

عالج موضوع نظرية القديس أوغوسطين في “الحرب العادلة”، الكاتب الأميركي مايكل سلاتاري، في أطروحته بعنوان: “المسيح المحارب: المنظور التاريخي المسيحي، ومشكلات أخلاقية الحرب، وإحلال السلام”، الصادر عن مطبعة جامعة ماركيت، الكاثوليكية اليسوعية، بولاية وسكونسن، مطلع العام 2007.

استشهد القديس أوغوسطين على يد الغزاة الفاندال الذين احتلوا شمال إفريقيا لمئة سنة، إلى أن أخرجهم منها الجنرال البيزنطي بيلازاريوس في عهد الإمبراطور يوستنيانوس الكبير، في أواسط القرن السادس الميلادي، كما مرَّ في حلقة سابقة بعنوان “معاهدة السلام الأبدي”.

هكذا بقيت المسيحية متجذّرة في مصر وسوريا وسائر المشرق، إلى اليوم، بينما استؤصلت بالكامل في شمال أفريقيا، ولم يبقَ لها أي أثر أو أتباع.

*****

القادة العرب المسلمون الذين كانوا أول الداخلين إلى دمشق، ثلاثة، يتقدمهم يزيد بن أبي سفيان، ثم أبو عبيدة ابن الجراح، وخالد بن الوليد. وبعد أيام قليلة، عقد أبو عبيدة اجتماعًا مع أساقفة المدينة في الكنيسة المريمية التي ما زالت مقرًّا للبطريركية الأرثوذكسية الأنطاكية إلى اليوم. وفي ذلك الاجتماع تم الاتفاق على منهجية التسلم والتسليم، وعلى ترحيل الرعايا اليونانيين الراغبين في العودة الى القسطنطينية خلال فترة زمنية محددة.

في تلك الأثناء طلب الإمبراطور هرقل من رعاياه اليونانيين في الشام عدم السفر برَّا، لأنه غير مأمون، وأوصاهم بالقدوم الى الساحل اللبناني حيث أرسل إليهم عددًا من السفن لنقلهم بحرًا. لكن بعد مضي ساعتين على انتهاء موعد الانتقال، بقي عدد منهم متأخّرًا في مسيرته باتجاه لبنان، فلحق بهم خالد بن الوليد على رأس قوة عسكرية وقتل بعض أولئك المتأخّرين، فكان ذلك أول خرقٍ للمعاهدة تحت اسم “حرفية تنفيذ الاتفاق”. وقد حدث ذلك بعد اجتيازهم مدينة بعلبك باتجاه الساحل اللبناني الشمالي.

ثم حدث في تلك الأثناء أن أُقيمَ عرسٌ كبير لابنة أمير طرابلس الشام، حضره أكثر من عشرة آلاف مدعو، في “دير أبي القدوس”، على مقربة من الأراضي اللبنانية لجهة بعلبك، فداهمهم أيضًا خالد بن الوليد، فقُتل منهم كثيرون. وكان ذلك الخرق الثاني الذي استهدف اليونانيين، مع أنَّ الطرابلسيين في حينه لم يكونوا بعد تابعين للخلافة الإسلامية.

أما الخرق الثالث الذي أدَّى إلى عزل خالد بن الوليد من مناصبه، فهو “معركة اليرموك” المشهورة، التي كانت معركة من طرف واحد، فيما كانت القوة البيزنطية تنسحب من مواقعها، للتوجه الى قيصرية البحر على الساحل الفلسطيني، لنقلها بالسفن الى بلادها. وقد وصفت المراجع الغربية وضعية الجيش البيزنطي في الجنوب السوري آنذاك، بأنها “وضعيةُ انسحابٍ منظَّم”. ولهذا، رفض البطريرك اليوناني صفرونيوس في القدس أن يفتح أبواب مدينته للقوات العربية المتقدمة نحوها إلّاَ للخليفة عمر بن الخطاب، الذي قدم بنفسه الى القدس ليلتقي صفرونيوس في “كنيسة القيامة”، ويتسلم منه المدينة المقدسة. وعندما حان وقت الصلاة، طلب منه البطريرك أن يؤدي الصلاة في الكنيسة، لكنه اعتذر وخرج الى مكان يبعد مسافة عن الكنيسة، “حتى لا يتخذ المسلمون من بعده، صلاته في الكنيسة حجةً للاستيلاء عليها”.

في القدس أيضًا، أطلق عمر بن الخطاب “عهدته بحفظ كنائس المسيحيين، وأديرتهم، وصلبانهم، وأجراسهم، وحياتهم، وممتلكاتهم”، وهي المعروفة باسم “عهدة عمر”، بينما هي في الحقيقة تأكيد للمعاهدة الأصلية مع أبي سفيان. وهي أيضاً تأكيدٌ للسبب الذي أوجب على الخليفة عمر عزل خالد بن الوليد.

*****

في مصر كانت الحكاية مختلفة قليلًا عنها في سوريا، والتعريب المصري، ثقافيًا ودينيًا ومجتمعيًا، كان متدرّجًا واستغرق قرونًا عدة. الطبقة الحاكمة الجديدة، التي حلَّت محل الحكام البيزنطيين، كانت كلها عربية في البداية، خصوصًا في السنوات الثلاث الأولى (639م–642م). وبقيت الأحوال العامة في مصر كما كانت من قبل زمنًا طويلًا نسبيًا، فكان انتشار الإسلام هناك بطيئًا ومتدرّجًا، ومع الوقت بدأ ينتشر ويتّسع بوتيرةٍ أعلى مع توسع انتشار اللغة العربية، لتحل بالتالي، مخلَّ اللغتين السائدتين في الماضي، وهما اليونانية والقبطية.

بقيت اليونانية تُستخدَم في الكنائس الأرثوذكسية، حتى بعد تعريب الليتورجيا الكنسية، في سوريا ومصر، والسريانية في سوريا والعراق ولبنان. وهذ النمط ما زال مستمرًّا إلى اليوم في الكنائس المسيحية الشرقية.

أمّا في سوريا، خلافًا لمصر، فقد كان التعريب سريعًا على جميع المستويات الثقافية والدينية والمجتمعية، لوجود احتكاك سابق لبلاد الشام مع الجزيرة العربية قبل الإسلام، خصوصًا في مجال التجارة. وقد أخذ التعريب المصري، شكل التدرُّج على شكل دوائر: الدائرة الأولى، من خلال التعاطي مع الحكومة في تسيير أمور الناس. والدائرة الثانية، التعاطي التجاري في الأسواق، والدائرة الثالثة، هي الشؤون الدينية، حيث وجوب التعريب المقترن بلغة القرآن الكريم، وأخيرًا دائرة الشؤون الثقافية واليومية بين الناس بعضهم مع بعض.

من هذه الناحية اختلف الوضع المصري والسوري، مع الإسلام واللغة العربية، عما جرى في الفتح العربي الإسلامي لبلاد فارس، تبعًا لاختلاف طريقة الدخول الإسلامي إليها. فالحكم الإسلامي في سوريا ومصر لم يقم بالقوة، كما مرَّ سابقًا. أما بلاد فارس فقد أخذها المسلمون العرب بالحرب (ساعدهم على ذلك، نشوب حرب أهلية في بلاد فارس بعد مقتل كسرى الثاني على يد ابنه، كما مرَّ في حلقة سابقة). لذلك فإنَّ إيران، على الرُغم من اعتناقها الإسلام، فإنها لم تستعرب، بل احتفظت بلغتها، وبهويتها الثقافية المميَّزة. وهذا شيءٌ منطقي، لأنَّ اللغة المحكية سابقًا في سوريا ومصر، أي اليونانية، هي لغة وافدة وليست أصيلة، فكان من الأسهل التخلي عنها، تماشيًا مع النظام الجديد، أما اللغة الفارسية وثقافتها، فهي أصيلة وليست دخيلة على المجتمع الإيراني وثقافته السائدة قبل الإسلام.

لكنَّ الوضع الإيراني شهد تحوّلًا نوعيًّا خلال حكم الشاه إسماعيل الصفوي، باتخاذ قرار فرض التشيُّع.

(الحلقة المقبلة، والأخيرة، يوم الأربعاء المقبل بعنوان “الوطن الشيعي”).

Exit mobile version