ليست الحَربُ ظاهرةً عائدة من الماضي، بل واقعًا لم يُغادِر النظام الدولي يومًا. ما تغيّر اليوم ليس عدد الحروب، بل درجة وضوحها وتأثيرها العالمي، من أوكرانيا إلى غزة، ومن أفريقيا إلى ساحات النفوذ والمعلومات، حيث باتت الحروب تُخاضُ أمام أعيُنِنا وفي داخل مجتمعاتنا.
الحلقة الثالثة
عَودَةُ الحرب… أم عَودَتُنا إلى رُؤيَتِها؟
الدكتور سعود المولى*
بعد أن أرست الحلقتان السابقتان ملامح الانتقال من نظامٍ دولي اتسم بهيمنة قطبٍ واحد إلى مشهدٍ أكثر تشتّتًا وتنافسية، حيث تراجعت فاعلية القواعد والمؤسّسات أمام صعود منطق القوة والاصطفاف، تفرضُ الحربُ نفسها اليوم بوصفها السؤال المركزي التالي. ليس لأنها ظاهرة مستجدّة، بل لأنَّ موقعها في الإدراك السياسي العام تغيّر. من هنا يبرز الإلحاح على تفكيك فكرة “عودة الحرب”: هل نحن أمام انقطاعٍ انتهى وعاد، أم أمام إعادة اكتشاف لواقعٍ لم يغادر النظام الدولي أصلًا؟
من منظور العلاقات الدولية، لا تُعَدُّ الحربُ طارئًا استثنائيًا، بل مُكوِّنًا بنيويًا لنظامٍ يقوم، في جوهره، على غياب سلطة مركزية عابرة للدول. هذا ما أكدت عليه المدرسة الواقعية، التي ترى أنَّ الدول تتحرّك في بيئةٍ دولية فوضوية تحكمها اعتبارات المصلحة والقوة والبقاء. في هذا الإطار، لا تحتاج الحرب إلى مسوّغٍ أخلاقي أو سردية استثنائية؛ فهي تظلُّ إحدى أدوات السياسة حين تنسدّ القنوات الأخرى. وعليه، فإنَّ شيوعَ خطاب “عودة الحرب” يعكسُ في المقام الأول صدمة مجتمعات اعتادت الاستقرار النسبي، أكثر مما يعكس تحوُّلًا جذريًا في طبيعة النظام الدولي نفسه.
غير أنَّ هذه القراءة، على صلابتها، لا تكفي وحدها لتفسير الإحساس المتزايد بانكشاف العالم على المخاطر. فقد سادت، عقب نهاية الحرب الباردة، مقاربة ليبرالية ربطت بين تراجع الصراعات المسلحة وتوسُّع التجارة الدولية، وتعميق الاعتماد المتبادل، وتعزيز دور المؤسسات متعددة الأطراف. بدا وكأن العولمة قادرة على ترويض العنف، ونقل التنافس من ساحات القتال إلى الأسواق والقواعد القانونية. غير أنَّ هذا التصوُّر، وإن لم يكن وهميًا بالكامل، بقي جُزئيًا وانتقائيًا؛ فقد أسهم في ترسيخ الاستقرار في بعض المناطق، فيما تزامن مع استمرار، بل تكريس، صراعات مزمنة في مناطق أخرى، ما عمّق الفجوة بين عالمٍ ينعم بالأمن وآخر يعيش الحرب كواقعٍ يومي.
“عودة الحرب”
ضمن هذا السياق، يتّضحُ أنَّ ما يُقدَّم اليوم بوصفه “عودة للحرب” ليس سوى تحوُّلٍ في درجة ظهورها وحدّة حضورها في الفضاء العام. فالحرب لم تختفِ يومًا عن الساحة الدولية، بل رافقت التاريخ البشري منذ بداياته، ولا تزال تؤثّر بعمق في موازين القوة العالمية. الجديد ليس في وتيرة الصراعات بقدر ما هو في وضوحها، وفي حجم تداعياتها العابرة للحدود، سواء عبر الأسواق، أو الهجرة، أو الأمن، أو الفضاء الإعلامي.
بل إنَّ المقارنة التاريخية تُظهر أنَّ عدد الحروب النشطة التي تستوفي التعريف التقليدي للحرب –أي تلك التي تُخلّف أكثر من ألف قتيل سنويًا– أقل اليوم مما كان عليه في ثمانينيات القرن الماضي، ولا يتجاوز نحو عشرة صراعات. هذا المعطى لا يقلّل من فداحة العنف، لكنه يُذكّر بأنَّ الحرب ليست حالة استثنائية تعود بعد غياب، بل عنصرًا بُنيويًا في الحياة الدولية، تتغيّر أشكاله وسياقاته أكثر مما يتغيّر وجوده.
ورُغم ذلك، لا تزال جغرافيا الصراعات المعاصرة غير متكافئة في الحضور والاهتمام. فعدد كبير من الحروب الدائرة اليوم يجري بعيدًا من الأضواء، ولا سيما في أفريقيا، التي تبقى القارة الأكثر تضرُّرًا من النزاعات المسلحة، وغالبًا ما تتخذ فيها الصراعات شكل حروب أهلية طويلة الأمد. هذه الحروب، على الرغم من دمويتها، نادرًا ما تحظى بتغطية إعلامية واسعة أو باهتمامٍ دولي مستدام، ما لم تُهدِّدُ بشكل مباشر الاستقرار الإقليمي أو مصالح القوى الكبرى، وهو ما يعزّز الانطباع الخاطئ بأنَّ الحرب ظاهرة تعود وتختفي، بدل أن تُفهَمَ كواقعٍ مستمر تُسلّط عليه الأضواء بانتقائية.
تزايد وضوح سياقات ومسارات الحروب
ضمن هذا الفهم، لا يعود الإحساس المتزايد بأننا نعيش زمن “عودة الحرب” إلى تغيّر جوهري في عدد الصراعات، بل إلى تحوُّلٍ عميق في بيئة إدراكها. فقد أدّى الانتشار الكثيف للصور الحيّة، والتغطية المتواصلة عبر القنوات الإخبارية ومنصّات التواصل الاجتماعي، إلى جعل الحروب أكثر حضورًا في الحياة اليومية للمجتمعات البعيدة من ساحات القتال. لم تَعُد الحرب حدثًا يُختَزَل في تقارير دورية أو أرقام مجرّدة، بل باتت تجربة مرئية ومتداولة ومُسَيَّسة، تُناقَش لحظة بلحظة، وتُحمَّل بدلالات أخلاقية وهوياتية تتجاوز إطارها العسكري.
يكتسب هذا التحوّل بُعدًا خاصًا في الحالة الأوكرانية، حيث لم تَعُد الحرب تُقرَأُ كصراعٍ إقليمي محدود، بل كتهديدٍ مباشر للأمن الأوروبي. فالقرب الجغرافي، وتشابك المصالح الاقتصادية، والذاكرة التاريخية للنزاعات الكبرى، كلُّها عوامل جعلت الحرب في أوكرانيا حدثًا داخليًا في الوعي الأوروبي، لا أزمة خارجية تُدار عن بُعد. من هنا، تزايد حضور خطاب الحرب في النقاشات السياسية والإعلامية الأوروبية، بوصفه مسألة تمسّ الأمن والاستقرار ونمط العيش نفسه.
يُمثّلُ الغزو الروسي لأوكرانيا، في هذا السياق، لحظة فاصلة في مسار النظام الدولي. فقيام دولة نووية كبرى وعضو دائم في مجلس الأمن الدولي باستخدام القوة العسكرية ضد دولة ذات سيادة اعترفت باستقلالها، أعاد إلى الواجهة سؤال احترام القواعد الأساسية التي قامت عليها منظومة ما بعد الحرب العالمية الثانية. غير أنَّ أهمية هذا الحدث لا تكمن فقط في خرقِ مبدَإٍ قانوني، بل في تداعياته السياسية والاستراتيجية، وخصوصًا بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي، الذي وجد نفسه أمام اختبارٍ غير مسبوق لقدرته على الانتقال من فاعلٍ اقتصادي إلى فاعل أمني وجيوسياسي. إنَّ مآلات هذا الصراع ستترك أثرًا طويل الأمد، ليس فقط على مستقبل أوكرانيا، بل على مجمل بنية الأمن الأوروبي وتوازنات النظام الدولي.
في موازاة ذلك، تكشف الحروب المعاصرة عن تحوّل عميق في طبيعتها، حيث لم تَعُد تُدارُ حصريًا في الميدان العسكري، بل باتت تشمل ساحات موازية لا تقلُّ تأثيرًا، وعلى رأسها الفضاء الإعلامي والمجتمعي. فقد أصبحت معارك النفوذ والمعلومات جُزءًا لا يتجزّأ من الصراع، تُستخدَمُ فيها السرديات، والصور، والرموز، لتشكيل الرأي العام وتوجيه المواقف السياسية. وتُظهِرُ حرب غزة، على سبيل المثال، كيف يمكنُ لصراعٍ محلي أن يُحدِثَ ارتدادات واسعة داخل مجتمعات بعيدة جغرافيًا، وأن يُثيرَ انقساماتٍ سياسية وأخلاقية حادة، ما يجعل الحرب عامل توتر داخلي في دول لا تشارك فيها عسكريًا.
هذا التمدّد المجتمعي للحرب يُغذّي بدوره مخاوف متكرّرة من انزلاق العالم نحو مواجهة كبرى بين القوى العظمى. غير أنَّ هذه المخاوف، على الرُغم من مشروعيتها، تصطدم بواقعٍ استراتيجي مختلف عمّا كان عليه القرن العشرون. فالردع النووي لا يزال يشكّل قيدًا قويًا على المواجهة المباشرة بين القوى الكبرى، ويجعل كلفة الحرب الشاملة مرتفعة إلى حدّ الردع الذاتي. صحيح أن خطر التصعيد لا يختفي بالكامل، لكن احتمالية اندلاع حرب عالمية ثالثة تبقى، في الظروف الراهنة، أقل بكثير مما كانت عليه خلال ذروة الحرب الباردة، حين كان التوازن الدولي أكثر هشاشة وأقرب إلى حافة الانفجار.
الموارد، أقل مركزية في الحروب من ذي قبل
في هذا الإطار المُتحوِّل، تتراجع أيضًا مركزية الموارد الطبيعية بوصفها محرّكًا مباشرًا للحروب بين الدول، مقارنة بما كانت عليه في القرنين التاسع عشر والعشرين. فالحروب الإمبراطورية والصناعية كانت تقوم، في جوهرها، على منطق السيطرة والاستحواذ، حيث كان الاستيلاء على الأرض والمواد الخام شرطًا للقوة. أما في عالم اليوم، حيث تتشابك الأسواق وسلاسل الإمداد، فقد بات الوصول إلى الموارد عبر التجارة أقل كلفة، وأقل مخاطرة، من انتزاعها بالقوة العسكرية. هذا التحوّل لا يلغي أهمية الموارد، لكنه يُغيّر موقعها في معادلة الصراع.
مع ذلك، لا يزال هذا المنطق يحتفظ بفاعليته في سياقات محدّدة، ولا سيما في الدول الهشّة التي تشهد حروبًا أهلية طويلة الأمد، خصوصًا في أفريقيا. ففي هذه الحالات، تتحوّل وفرة الموارد –مثل المعادن النادرة أو الثروات الطبيعية القابلة للنهب– من عامل تنمية محتمل إلى مصدر تمويل للصراع، وأداة بيد الفاعلين المسلّحين لتعزيز نفوذهم الداخلي. هنا، لا تكون الموارد سببَ الحرب بقدر ما تصبح وقودها، في ظل غياب الدولة وضعف المؤسسات وانقسام الشرعية السياسية.
الأمرُ نفسه ينطبق على التغيُّر المناخي، الذي يُستدعى غالبًا بوصفه سببًا وشيكًا لحروب المستقبل. غير أنَّ الربط السببي المباشر بين المناخ والنزاع لا يزال افتراضيًا، ويستدعي حذرًا تحليليًا بالغًا. فسيناريوهات “حروب المياه” أو الصراعات الشاملة على الموارد البيئية، رُغمَ ما تحمله من طابعٍ إنذاري، لم تتحقق بعد على نطاقٍ واسع. التغيُّر المناخي، في حدّ ذاته، لا يُنتجُ الحروب تلقائيًا، لكنه يعمل كمُضاعِف للضغوط، يُفاقم الأزمات القائمة بدل أن يخلقها من العدم.
في هذا السياق، يكمن الخطر الحقيقي في الآثار غير المباشرة للتغيُّر المناخي، ولا سيما الهجرات الجماعية، وتآكل سُبُل العيش، والضغط المتزايد على الدول الهشّة. حين تتقاطع هذه العوامل مع ضعف الحكم، وتفكّك العقد الاجتماعي، وتنافس النخب المحلية، تصبح النزاعات الأهلية أو التوترات الإقليمية أكثر احتمالًا. المناخ هنا ليس سببًا، بل عامل تسريع في بيئاتٍ تُعاني أصلًا من اختلالاتٍ بُنيوية.
تُفضي هذه القراءة إلى خلاصة تتجاوز ثُنائية السلم والحرب. فالحرب لم تختفِ يومًا عن النظام الدولي، لكنها تُغيِّرُ وجهها وأدواتها وحدودها. أصبحت أكثر وضوحًا بفعل الثورة الإعلامية، وأكثر اختراقًا للمجتمعات بفعل تشابك تداعياتها السياسية والاقتصادية والثقافية. كما باتت النزاعات الكبرى، كالحرب في أوكرانيا أو الحرب في غزة، تُسهم في إعادة تشكيل النظام الدولي بما يتجاوز بكثير نطاق ساحاتها العسكرية المباشرة.
ومع ذلك، فإنَّ هذا الواقع لا يُبرّرُ الانزلاق إلى خطاب التهويل. فرُغمَ تعدُّد بؤر الصراع، لا تزال احتمالية اندلاع حرب عالمية شاملة محدودة، في ظل الدور المستقر الذي يلعبه الردع النووي في كبح المواجهة المباشرة بين القوى الكبرى. أما حروب الموارد والمناخ، فرُغمَ ما تستدعيه من يقظةٍ واستشراف، لم تتحوّل بعد إلى السمة الغالبة للنظام الدولي. وبين الاستمرارية والتحوّل، تبقى الحرب عنصرًا بنيويًا في العلاقات الدولية، لكن فهمها اليوم يتطلّب مقاربة أكثر تعقيدًا، تُميّز بين ما تغيّر فعلًا، وما لم يتغيّر سوى في وعينا به.
الوجود الفرنسي في أفريقيا
ضمن التحوّل الأوسع في طبيعة الصراعات وأدوات النفوذ، يندرج ما تشهده أفريقيا اليوم من إعادة تشكيل عميقة لحضور القوى الخارجية، وفي مقدمتها فرنسا. فالتراجع الفرنسي في منطقة الساحل لا يُمكِن فهمه كحدثٍ معزول أو كنتيجةٍ عسكرية فحسب، بل بوصفه تعبيرًا عن اختلالٍ أوسع في العلاقة بين القوة التقليدية وبيئات الصراع المتحوّلة. فقد أدّى فشل التدخُّل الفرنسي، بشقّيه العسكري والمدني، إلى إنهاء وجود طالما اعتُبر مركزيًا في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وإلى إغلاق برامج تنموية شكّلت لعقود أحد أعمدة النفوذ الفرنسي، وعلى رأسها أنشطة الوكالة الفرنسية للتنمية.
هذا الانسحاب لم يُنهِ الوجود الفرنسي بالكامل، لكنه أعاد حصره في نطاقٍ أضيق وأكثر هشاشة: قواعد محدودة، أبرزها جيبوتي كمركز محوري، مع بقاء قوات في الغابون، وانتشار عسكري متقطّع في ساحل العاج والسنغال وتشاد. غير أنَّ جوهرَ التحوُّل لا يكمن في الجغرافيا العسكرية وحدها، بل في السياق السياسي الذي رافقها. فقد تبلورت في دول الساحل حركات سيادية وقومية صاعدة، تشكّك في فعالية فرنسا وشرعيتها، وتعيد تعريف مفهوم الشراكة الخارجية من منظورٍ أقل تسامحًا مع الوصاية أو الامتداد ما بعد الاستعماري.
في هذا الفراغ النسبي، برزت روسيا كلاعبٍ بديل، وإن بملامح مختلفة عن القوى الغربية التقليدية. عودة موسكو إلى أفريقيا لم تكن شاملة أو مُتجانسة، بل انتقائية، تجمع بين استعادة مواقع نفوذ رمزية –كما في مالي– وبين تمدّد غير مسبوق في دولٍ مثل جمهورية أفريقيا الوسطى. غير أنَّ الأداَء العسكري الروسي، وخصوصًا عبر مجموعات “فاغنر”، أظهر تبايُنًا واضحًا في نتائجه: انتكاسات في موزمبيق، تأثير محدود في ليبيا والسودان، وإخفاقات ميدانية، من بينها ما حدث في منطقة تين-زاويتين على الحدود الجزائرية–المالية، حتى بعد استعادة كيدال في شمال مالي.
ومع ذلك، فإنَّ تقييم الحضور الروسي من زاوية عسكرية صِرفة يُغفل أحد أهم عناصر قوته. فموسكو تفوّقت، إلى حدّ بعيد، في معركة النفوذ غير العسكري، ولا سيما في مجال المعلومات والسرديات. فقد استثمرت بكثافة في أدوات البث السمعي البصري، مثل قناتَي “آر تي” ( RT) و”سبوتنيك” (Sputnik)، وفي شبكاتٍ إذاعية محلية تبث باللغات الوطنية، إضافةً إلى اختراق فضاءات المجتمع المدني، وصياغة روايات سياسية تتقاطع مع المزاج الشعبي السائد. هذه المنظومة المتكاملة من أدوات التأثير غالبًا ما قلّلت باريس من شأنها، أو تعاملت معها باعتبارها هامشية، قبل أن تتحوّلَ إلى عاملٍ حاسم في إعادة تشكيل الرأي العام.
غير أنَّ تراجُع النفوذ الفرنسي لا يمكن اختزاله في “هجومٍ روسي” ناجح فحسب. فالاستياء الشعبي سبقَ هذا التحوُّل، وتغذّى من تراكمات طويلة: نتائج عسكرية اعتُبِرَت غير كافية في مواجهة الجماعات المسلحة، خطابٌ أخلاقي ووَعظي صادر عن الشركاء الدوليين بدا مُنفَصِلًا عن الواقع المحلي، وسياسات تواصل وإعلام عانت من التقليل الممنهج من قدرات الخصم ومن تعقيد المشهد الميداني. في هذا السياق المشحون، وجدت نظريات المؤامرة أرضًا خصبة للازدهار، من رواياتٍ عبثية حول “افتراس الماشية” إلى سرديات أوسع تُشكِّكُ في نوايا “الفاعلين التقليديين”، وتُعيدُ تفسير الفشل والاضطراب بوصفهما نتاج مؤامرات خارجية.
تكشف هذه الديناميات مجتمعة أنَّ الصراع في أفريقيا لم يَعُد يُدار فقط عبر السلاح أو المساعدات، بل عبر القدرة على التأثير في الإدراك، وتشكيل التصوّرات، واحتلال الفضاء الرمزي. وهو ما ينسجم، في العمق، مع التحوُّل العام الذي تشهده الحروب المعاصرة: تراجُع الحسم العسكري، وصعود معارك النفوذ، حيث تصبح الشرعية والسردية لا يقلّان أهمية عن السيطرة الميدانية.
قوى راسخة ووسطاء جدد
إذا كانَ تراجُع الحضور الفرنسي وصعود الفاعلين غير الغربيين يعكسان تحوّلًا في موازين القوة، فإنَّ الشرق الأوسط يبرز بوصفه أحد أهم مصادر هذا النفوذ المتعدّد الأشكال في أفريقيا. فالقوى الإقليمية في المنطقة لم تدخل القارة السمراء من بوابةٍ عسكرية صِرفة، بل عبر مساراتٍ تراكُمية طويلة، تجمع بين الدين، والاقتصاد، والديبلوماسية، والعمل الإنساني. لطالما اعتمدت المملكة العربية السعودية على شبكاتٍ دينية وتعليمية وإنسانية، راكمت من خلالها حضورًا هادئًا لكنه عميقُ الأثر. في المقابل، عزّزت قطر نفوذها عبر أدواتٍ اقتصادية وديبلوماسية نشطة، مُستثمرةً في الوساطة السياسية، من الحوار التشادي إلى التوسُّط بين الكونغو الديموقراطية ورواندا، فضلًا عن رعاية الفعاليات الإقليمية.
أما إيران، فتعتمدُ مُقاربةً مختلفة، ترتكز بصورةٍ أساسية على شبكاتها العابرة للحدود، ولا سيما الجالية اللبنانية في أفريقيا، مع تركيزٍ خاص على المُكوّن الشيعي، بما يسمح لها بالحفاظ على نفوذ منخفض الكلفة وعالي الرمزية. في حين تجمع تركيا بين النشاط الاقتصادي والانخراط الأمني، مستخدمة أدوات جديدة مثل “ديبلوماسية المسيّرات”، التي أتاحت لها بناء شراكات سريعة وفعّالة مع عدد من الدول الأفريقية. وفي السياق ذاته، تعمل إسرائيل على إعادة تنشيط علاقاتها مع القارة، سعيًا إلى دورٍ أكبر في المحافل الأفريقية، مُستفيدةً من تقاطُع المصالح الأمنية والتكنولوجية.
القاسم المشترك بين هذه القوى لا يكمن في فرضِ أجنداتٍ جاهزة، بل في قدرتها على التداخل مع الديناميات المحلية، والتكيُّف مع أولويات النخب الحاكمة والسياقات الوطنية. هذا التكيّف يمنحها مرونةً تفتقرُ إليها القوى التقليدية، ويجعل حضورها أقل عرضة للرفض الفوري، حتى وإن كان موضع جدل في المدى الأطول.
في المقابل، تبدو الولايات المتحدة أقل انخراطًا هيكليًا في أفريقيا، حيث لا تزال القارة تحتل موقعًا مُتأخِّرًا في سلّمِ أولوياتها الاستراتيجية. صحيح أنَّ فترات اهتمام متزايد شهدتها السياسة الأميركية، كما في عهد بيل كلينتون مع إطلاق قانون النمو والفرص في أفريقيا (AGOA)، إلّا أنَّ هذا الاهتمام ظلّ متقطّعًا وغير مُستدام. خلال إدارة دونالد ترامب، اتسم الخطاب تجاه أفريقيا بالتقلّب والجدل، كما في حالة جنوب أفريقيا، لكنه تخلله في الوقت نفسه انخراط انتقائي في بعض الملفات الأمنية والوساطات السياسية.
إلى جانب هذا الحضور الرسمي المحدود، تُواصلُ قوى ناعمة أميركية ذات طابع ديني عملها بعيدًا من الأضواء، من خلال الشبكات الإنجيلية والتيارات الكاثوليكية المحافظة، التي تستثمر في التعليم والعمل الاجتماعي والتأثير القيمي طويل الأمد. هذا النوع من النفوذ، وإن بدا غير سياسي، يُسهِمُ في إعادة تشكيل البنى الاجتماعية والمرجعيات الثقافية، بما يتجاوز الحسابات الديبلوماسية المباشرة.
غير أنَّ التركيز على تنافس القوى الخارجية لا يكتمل بدون إعادة وضع المجتمعات الأفريقية في موقعها الصحيح: في مركز التحوّلات لا على هامشها. فالنخب الأفريقية والرأي العام المحلي باتا فاعلَين حاسمَين في تحديد شكل الشراكات الخارجية وحدودها. يبرز في هذا السياق تيار وطني–سيادي مُتنامٍ، غالبًا ما يتّسم بالمحافظة في القضايا الاجتماعية، ويُعيدُ النظر في المعايير “الليبرالية” التي روّج لها الشركاء الغربيون لعقود. هذا التيار لا يرفض الانخراط الخارجي بحد ذاته، بل يطالب بإعادة تعريفه وفق أولويات محلية، وبشروط أقل إملاءً وأكثر براغماتية.
في كثيرٍ من الحالات، لا تفرض القوى الخارجية نفوذها بقدر ما تُستدعى أو تُستَغَل من قبل تحالفاتٍ محلية تبحث عن تعزيز موقعها الداخلي، أو موازنة خصومها. هذا الواقع يُبرز محدودية المقاربات التي تتجاهل الديناميات الداخلية، ويُظهر أنَّ النفوذ الخارجي يظل، في نهاية المطاف، رهينة التفاعلات المحلية أكثر مما هو نتاج إرادة خارجية صِرفة.
ينعكسُ هذا التشرذم أيضًا على مستوى التمثيل الأفريقي في النظام الدولي. فغياب مقعدٍ دائم للقارة في مجلس الأمن الدولي لا يعود أساسًا إلى رفض القوى الكبرى، بقدر ما يعكس تنافسًا داخليًا بين الدول الأفريقية نفسها، ولا سيما جنوب أفريقيا ونيجيريا والجزائر ومصر، إضافةً إلى الخلاف حول ما إذا كان التمثيل ينبغي أن يكون وطنيًا أم عبر الاتحاد الأفريقي. هذا الانقسام يُضعف القدرة التفاوضية للقارة، ويحدّ من إمكان تعزيز مكانتها المؤسسية في نظام دولي يشهد أصلًا اهتزازًا في قواعده وتوازناته.
بهذا المعنى، لا تُختَزَل التحوّلات الجارية في أفريقيا في تبدّل أسماء الفاعلين الخارجيين، بل تعبّر عن انتقالٍ أعمق نحو مشهد تتداخل فيه الحرب، والنفوذ، والسرديات، والسيادة، في إطار عالم لم يعد يُدار من مركز واحد، ولا وفق قواعد ثابتة.
وإلى اللقاء يوم غد في الحلقة الرابعة والأخيرة.
- الدكتور سعود المولى هو باحث وكاتب ومترجم وأستاذ جامعي لبناني متقاعد، وهو زميل أول زائر في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية في قطر.
