في عالمٍ يتفكّك فيه النظام الدولي، لم تَعُد الصراعات محصورة في جبهة واحدة، بل تتوزّع على ساحاتٍ مُتباعدة تحكمها الدينامية نفسها. من البحر الكاريبي، حيث تواجه فنزويلا تصعيدًا أميركيًا غير مسبوق، إلى شرق أوروبا، حيث تتحوّل دول البلطيق إلى خط ِّتماسٍ دائم مع روسيا، تتجلّى ملامح نظام عالمي تُدار فيه الأزمات بمنطق القوّة لا القواعد.
الحلقة الثانية
ساحاتُ الاشتباكِ المَفتوح: من فنزويلا إلى البلطيق في عالمٍ بلا قَواعِد
الدكتور سعود المولى*
لم تَعُد فنزويلا مجرّدَ ملفٍّ مُؤجَّلٍ في السياسة الأميركية، بل تحوّلت مع نهاية العام 2025 إلى ساحةِ اختبارٍ صريحة لسياسة القوة، حيثُ يتقاطعُ الحصار البحري، والتصعيد العسكري، والعمليات السرّية في مشهدٍ غير مسبوق منذ عقود. فما يجري في البحر الكاريبي يتجاوز بكثير خطاب “مكافحة تهريب المخدرات”، ليطرح أسئلة جوهرية حول أهداف واشنطن الحقيقية، وتوقيت هذا التحوّل الحاد، وحدود ما يمكن أن تؤول إليه المواجهة مع نظام الرئيس نيكولاس مادورو.
خلال شهري تشرين الثاني (نوفمبر) وكانون الأول (ديسمبر) 2025، شنّت الولايات المتحدة سلسلةً من الغارات الجوية استهدفت سفنًا يُشتبه باستخدامها في تهريب المخدرات في منطقة الكاريبي، وأسفرت عن سقوط عشرات القتلى. وكانت إدارة الرئيس دونالد ترامب قد أذنت، في أواخر تشرين الأول (أكتوبر)، بتنفيذ عملياتٍ سرّية لوكالة الاستخبارات المركزية داخل فنزويلا، بالتوازي مع إرسال أقوى حاملة طائرات أميركية، “جيرالد فورد”، إلى المنطقة دعمًا لهذا التصعيد.
وفي 16 كلنون الأول (ديسمبر)، أعلن ترامب إصدار أمر بفرض “حصار” على ناقلات النفط الخاضعة للعقوبات أثناء دخولها أو مغادرتها فنزويلا، في خطوةٍ رفعت منسوب التوتر إلى مستوى غير مسبوق. ولم يقتصر الأمر على ذلك، إذ نشرت الولايات المتحدة أسطولًا بحريًا ضخمًا يضم ثماني سفن حربية ونحو عشرة آلاف جندي قبالة السواحل الفنزويلية، في استعراض قوة واضح الرسائل.
لاحقًا، صادرت السلطات الأميركية ناقلتي نفط قرب السواحل الفنزويلية، إحداهما في 20 كانون الأول (ديسمبر)، فيما أعلن خفر السواحل الأميركي تنفيذ “ملاحقة نشطة” لسفينةٍ أخرى في المياه الدولية القريبة. وأوضح مسؤول أميركي أنَّ السفينة المُستَهدفة تابعة لأسطول خاضع للعقوبات، وترفع علمًا زائفًا، وتخضع لأمر مصادرة قضائي، معتبرًا العملية جُزءًا من “تهرُّب غير قانوني” تمارسه فنزويلا للالتفاف على العقوبات.
وسط هذا التصعيد المتسارع، يبرز السؤال المركزي: هل تهدف واشنطن فعلًا إلى مكافحة تهريب المخدرات، أم أنَّ ما يجري يُمهّدُ لمحاولة إسقاط حكومة مادورو بالقوة؟
فعلى مدى العقد الماضي، تمكّن مادورو من البقاء في السلطة رُغم الانهيار الاقتصادي العميق، وموجات الاحتجاج الواسعة، والعقوبات الأميركية المشددة، ومحاولات متكررة من المعارضة لإزاحته، بل وحتى محاولة اغتيال. غير أّنَّ ما يواجهه اليوم يبدو مختلفًا: احتمال عملية عسكرية أميركية شاملة، في ظلِّ توجُّه إدارة ترامب، وخصوصًا وزير الخارجية ماركو روبيو ومستشار الأمن الداخلي ستيفن ميلر، نحو سياسة “الضغط الأقصى” على فنزويلا.
هذا التحوّل المفاجئ في المقاربة الترامبية —من مسارٍ تقارُبي نسبي في بداية الولاية الثانية إلى الوقوف على حافة الحرب— أربك معظم المراقبين. وتُنشر يوميًا تحليلات تتكهّنُ بالأسباب التي دفعت ترامب إلى إعلان نهاية مرحلة الوفاق، والاستعداد لغزو فنزويلا أو لخوض حرب يُرجَّحُ أن تكون طويلة الأمد، مُكلفة، وغير شعبية. حتى اليسار الفنزويلي والأميركي يجدُ صعوبةً في تفسير هذا الانعطاف، إذ إن التفسير التقليدي القائل بأنَّ ترامب يسعى ببساطة إلى السيطرة على موارد فنزويلا النفطية والمعدنية لا يبدو كافيًا. السؤال الأكثر إلحاحًا يبقى: لماذا الآن؟
بالنسبة إلى الفنزويليين، يشكّل أي غزو أميركي محتمل كارثة وطنية لا يمكن تصوّر تداعياتها، خصوصًا إذا أدى إلى انهيار الدولة. ومع ذلك، وعلى الرُغم من هذا التهديد الداهم، لا يسود داخل صفوف المعارضة اليسارية لمادورو موقف واضح برفض الغزو، بل تطغى حالة من التكهنات والسيناريوهات. ويبدو أنَّ العودة إلى إجماعٍ وطني عريض، تشارك فيه مختلف أطياف اليسار وقاعدته الشعبية للدفاع عن الدولة، باتت صعبة، إن لم تكن مستحيلة، في ظل تصاعد النزعة الاستبدادية في الحكم، وتفاقم السخط الشعبي، واستمرار الأزمة الاقتصادية.
في هذا السياق، وفي حال وقوع تدخُّل عسكري أميركي، ستواجه فنزويلا أدنى مستويات التعبئة الشعبية والالتفاف حول الدولة في تاريخها الحديث، وهو ما قد يفسّر جُزئيًا اختيار إدارة ترامب هذا التوقيت لمحاولة الإطاحة بمادورو.
السيناريوهات المحتملة في أزمة فنزويلا
السيناريو الأول: تشنُّ الولايات المتحدة غزوًا تقليديًا قصير المدى (أقل من ثلاثة أشهر). إنَّ أعداد الأفراد العسكريين المتاحة حاليًا غير كافية لمثل هذه العملية في بلد ذي تضاريس وعرة وحدود واسعة وإمكانية وجود مقاومة منظّمة. ستكون هذه العملية طويلة الأمد، وستُربك حكومة ترامب، وتُثيرُ ردود فعل عنيفة في أميركا اللاتينية والولايات المتحدة. سيكون احتمال هزيمة الولايات المتحدة مرتفعًا للغاية، مما يجعل هذا السيناريو مُستَبعَدًا جدًا. لكن من يدري مع شخص مثل ترامب؟
السيناريو الثاني: تشنُّ الولايات المتحدة هجومًا جويًا على البنية التحتية للطاقة في فنزويلا، بحجة دعمها تهريب المخدرات. سيشمل ذلك مهاجمة بعض المنشآت العسكرية. سيكون هدفها ترويع السكان، وبث الفرقة داخل القوات المسلحة، وإحداث تغيير داخلي في النظام السياسي، مما يسهّلُ انتقالًا تفاوضيًا تُشرِفُ عليه الولايات المتحدة سياسيًا وعسكريًا. سيكون دور زعماء المعارضة ماريا ماتشادو وإدموندو غونزاليس في هذا السيناريو انتقاليًا فقط. يتمثل الهدف النهائي في إنشاء قواعد عسكرية في فنزويلا، والسيطرة العسكرية على إنتاج النفط والذهب والمعادن النادرة في البلاد، وإقامة وجود عسكري أميركي في هذا الجُزء من جنوب البحر الكاريبي. هذا السيناريو مستبعد للغاية، لأنَّ نظام مادورو يتمتع بهيكل قيادي متماسك ومُوحَّد بمصالح مشتركة؛ وأيُّ انقسام سيؤدي إلى سقوطهم الجماعي.
السيناريو الثالث: تجمع الولايات المتحدة بين العمليات النفسية والتلاعب الإعلامي والعمليات العسكرية المُوَجَّهة لإحداث انتفاضة شعبية ضد مادورو، مُبرّرةً بذلك عملية عسكرية أميركية واسعة النطاق “لدعم الديموقراطية”. على سبيل المثال، قد تدّعي أنَّ مادورو نقل مركز قيادته إلى حيٍّ فقير من أحياء الطبقة العاملة (بيتاري، لا فيغا، إل فالي، إلخ)، ثم تشنُّ عمليات عسكرية مُوَجَّهة هناك، مما يتسبب في سقوط ضحايا مدنيين. الهدف هو أن يخرج الشعب -الذي ضاق ذرعًا بالوضع الاقتصادي، وهشاشة نظام الرعاية الصحية، وأزمة الأجور، وتأثير الهجرة الجماعية على الأُسَر- إلى الشوارع مُطالبًا باستقالة مادورو، رافعًا شعار: “لقد عانينا بما فيه الكفاية، والآن يقتلوننا بسببك: استقِل!”. سيخدم استمرار الفوضى مصالح الولايات المتحدة (كما في نموذج هايتي)، حيث ستكون عملية الانتقال الديموقراطي بقيادة ماتشادو-غونزاليس مجرد ذريعة، وستكون مدتها قصيرة الأجل بسبب غياب الحكم الرشيد. سيبقى الهدف النهائي كما هو: إنشاء قواعد عسكرية على الأراضي الفنزويلية، والسيطرة المباشرة على إنتاج النفط، والحفاظ على وجود عسكري استراتيجي في جنوب البحر الكاريبي. هذا السيناريو ذو احتمالية متوسطة.
السيناريو الرابع: هجمات أميركية على أهدافٍ عسكرية وسياسية في فنزويلا مُحدَّدة، على غرار هجماتها الأخيرة على إيران. يهدف هذا إلى القضاء على جُزءٍ من قيادة مادورو وإجبار تحالفه المدني-العسكري-الأمني على الاستسلام أو بدء انتقال قصير الأجل. قد يُؤدي هذا إلى ردود فعل سلبية من الرأي العام الأميركي والعالمي، فضلًا عن الخسائر البشرية، واحتمالية عدم استسلام النظام. وسيسبق هذا الانتقال نشر القوات الأميركية (التي ستبدأ بإنشاء قواعد عسكرية) بذريعة ضمان عودة الديموقراطية. أما الهدف الحقيقي فهو السيطرة على الوصول إلى الموارد الطبيعية الفنزويلية (النفط والذهب والعناصر الأرضية النادرة) واستخدامها، وتوطيد وجود جيوسياسي في جنوب البحر الكاريبي. احتمالية حدوث ذلك على المدى القريب (خلال ثلاثة أشهر) متوسطة؛ وإذا حدث بعد أكثر من ثلاثة أشهر، فسيتطلب على الأرجح تصويتًا سياسيًا موحداً في الكونغرس الأميركي، وهو أمر مستبعد حاليًا.
السيناريو الخامس: زعزعة الاستقرار الداخلي عبر تفعيل الاستخبارات الأميركية داخل الأراضي الفنزويلية، والعمل على نشر الفوضى مما يؤدي إلى تأجيج الغضب والاحتجاج. وهذا من شأنه أن يُبرّرَ تدخُّلًا عسكريًا مباشرًا لاحقًا تحت ستار استعادة الديموقراطية. والهدف النهائي: إقامة وجود عسكري دائم في فنزويلا. تكمن مشكلة هذا السيناريو في أنَّ تحالف مادورو بين المدنيين والعسكريين والشرطة قد بنى جهازًا وشبكة فعّالة للسيطرة الاجتماعية والقمع، مما بثّ الخوف في نفوس السكان وقلّل من رغبتهم في النزول إلى الشوارع. علاوة على ذلك، فإنَّ أكثر فئات المعارضة تمرُّدًا والشباب، الذين كان من المتوقع أن يحتجوا في الشوارع، يقيمون حاليًا خارج البلاد. من المستحيل التنبؤ بفعالية هذا السيناريو، مما يعني أن احتمالية حدوثه ضئيلة.
السيناريو السادس: مفاوضات ناجحة بين حكومتي ترامب ومادورو، تمنع أي عمل عسكري على الأراضي الفنزويلية. في هذا السيناريو، يُجيز مادورو إنشاء قواعد عسكرية أميركية في فنزويلا، تحت ستار مذكرة تفاهم للحرب المشتركة ضد تهريب المخدرات، مع التزامه في الوقت نفسه بانتقالٍ ديموقراطي منظَّم. وهذا الاحتمال وارد جدًا نظرًا لما نعرفه عن الرجلين ترامب ومادورو.
السيناريو السابع: مزيج من السيناريوهات السابقة، يؤدّي إلى تغيير النظام السياسي في العام 2026. يتطلب هذا السيناريو ثلاثة أشهر على الأقل من التحضير، لذا سيبدأ تنفيذه في شباط (فبراير) أو أذار (مارس). الوقت الأمثل لهذا السيناريو هو بعد الانتخابات الكولومبية (في أذار/مارس 2026)، حيث تسعى الولايات المتحدة إلى إزاحة الحركة التقدُّمية من السلطة، مما يُهيِّئ الظروف لإنشاء قوة متعددة الجنسيات قادرة على التدخُّل من الحدود الكولومبية بدعمٍ جوي وصاروخي أميركي. الهدف النهائي هو إقامة وجود عسكري أميركي دائم على الأراضي الفنزويلية. احتمالية هذا السيناريو، في المدى القصير، منخفضة إلى متوسطة.
السيناريو الثامن: هجومٌ مُفبرك ضد أهداف عسكرية أو مدنية أميركية، يُوَحِّد الطبقة السياسية الأميركية خلف شنِّ عمليات مُستهدفة في المدى القصير. في هذا السيناريو، يكون الهدف هو إسقاط نظام مادورو سريعًا، لكسب الوقت لتهيئة الظروف لتدخُّل متعدد الجنسيات في المدى المتوسط. احتمالية هذا السيناريو متوسطة.
السيناريو التاسع: استمرار الحصار العسكري للأشهر الثلاثة المقبلة، مع تصعيد الحرب النفسية والتكنولوجية، لإضعاف نظام مادورو وبدء انتقال سلمي للسلطة، يشمل نشر قوات عسكرية على الأراضي الفنزويلية. هذا السيناريو ذو احتمالية متوسطة.
السيناريو العاشر: الإبقاء على الوضع الراهن لبضعة أشهر أخرى، بهدف تهيئة الظروف السياسية (توافق في الكونغرس الأميركي)، والظروف العسكرية (تشكيل قوة متعددة الجنسيات)، والظروف الاقتصادية (شلّ الاقتصاد الفنزويلي بالكامل)، التي من شأنها تمكين تنفيذ عمليات متعددة المستويات لإزاحة مادورو من السلطة. ستلعب ماتشادو، الحائزة على جائزة نوبل للسلام، دورًا محوريًا في عملية الانتقال في هذا السيناريو، على الرغم من إمكانية استبدالها في المدى المتوسط. هذا سيناريو ذو احتمالية عالية جدًا.
هذه السيناريوهات افتراضية، ومبنية على معلومات متعددة المصادر. قد تتطوَّر العوامل في اتجاهات مختلفة، مما يُغير احتمالات كل سيناريو. يجب رصد هذه السيناريوهات واحتمالاتها يوميًا.
حالة دول البلطيق في النظام العالمي
لطالما اعتُبرت دول البلطيق – إستونيا ولاتفيا وليتوانيا – أطرافًا جغرافية وسياسية لأوروبا، لكنها اليوم تحتل مكانة مركزية في النقاش الاستراتيجي الأوروبي. فبعد عقود من الاحتلال السوفياتي، شكّل استقلالها المُستَعاد في العام 1991، ثم انضمامها إلى حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي في العام 2004، نقطة تحوّل تاريخية. وفي ظلّ تدهور العلاقات مع روسيا، باتت هذه الدول تُشكّل حلقةً أساسيةً في الأمن الأوروبي.
الاحتلال السوفياتي المُبرمج
فقدت دول البلطيق استقلالها عام 1940 في أعقاب اتفاقية مولوتوف-ريبنتروب، التي قسّمت أوروبا بين ألمانيا النازية والاتحاد السوفياتي. بعد احتلالها من قبل السوفيات، ثم لفترة وجيزة من قبل النازيين، عانت دول البلطيق من هيمنة سوفياتية ثانية من العام 1945 إلى العام 1991. وقد تحققت الهيمنة السوفياتية عبر وسائل عدة:
- القضاء على النخب المحلية (الترحيل، والتطهير، والقمع)؛
- الهندسة الاجتماعية، من خلال توطين العمال الناطقين بالروسية لتغيير التركيبة العرقية؛
- مشاريع البنية التحتية الضخمة المفروضة، والتي أشعلت في نهاية المطاف احتجاجات بيئية واحتجاجات قائمة على الهوية في ثمانينيات القرن العشرين. ومن المفارقات، أن هذه السياسات غذّت صحوة وطنية وثقافية مهدت الطريق للعودة إلى الاستقلال.
الاندماج الأوروبي الأطلسي: هدف مزدوج
بعد العام 1991، رأت دول البلطيق في الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) والاتحاد الأوروبي ضمانًا للأمن والازدهار. وفي العام 2004، انضمت أولًا إلى “الناتو”، ثم إلى الاتحاد الأوروبي بعد شهر.
كان هذا الانضمام المتزامن جُزءًا من استراتيجية إعادة الاندماج في المجتمع الأوروبي الأطلسي:
- حلف “الناتو” يؤمِّن لها الأمن العسكري ضد روسيا.
- الاتحاد الأوروبي يؤمّن تحوُّلًا هيكليًا عميقًا: الدمقرطة، واقتصاد السوق، وإعادة بناء المجتمع المدني. كان هذا الجهد الثلاثي (السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي) أكثر صعوبة نظرًا لاختفاء دول البلطيق من خريطة أوروبا خلال الحرب الباردة (1947-1990)، على عكس بولندا أو المجر.
مسألة الأقليات الناطقة بالروسية
شكّلت لاتفيا وإستونيا تحدّيًا خاصًا، حيث تراوحت نسبة الناطقين بالروسية بين 20 و25% من السكان. لم يحصل هؤلاء السكان، الذين وصلوا خلال الحقبة السوفياتية، على الجنسية تلقائيًا بعد العام 1991. أعادت دول البلطيق الجنسية التي كانت سارية قبل الحرب، مما ترك العديد من هؤلاء السكان بلا جنسية، على الرغم من بقائهم تحت حماية الدولة المضيفة. وهذه المجتمعات لا تُعرّف نفسها بالضرورة بأنها “روسية”، بل في المقام الأول بأنها ناطقة بالروسية، وغالبًا ما تكون مندمجة وموالية لدولتها المضيفة.
من الهامش إلى مركز النقاش الاستراتيجي
بين العامين 2004 و2014، نبّهت دول البلطيق الاتحاد الأوروبي إلى التهديد الروسي المستمر، ولكن غالبًا من دون جدوى. وقد أكّد الغزو الروسي لجورجيا (2008)، ولا سيما غزو شبه جزيرة القرم (2014)، مخاوفها. ومنذ العام 2014، أصبحت المنطقة محورًا رئيسًا للانتشار العسكري لحلف “الناتو”:
- الانتشار الدوري للقوات المتحالفة: المملكة المتحدة في إستونيا، وكندا في لاتفيا، وألمانيا في ليتوانيا، والولايات المتحدة في بولندا؛
- تطوير استراتيجيات دفاعية معمَّقة تهدف إلى حماية ليس فقط الحدود، بل أيضًا المجتمعات والمؤسسات والديموقراطية.
المرونة الديموقراطية: سلاحٌ استراتيجي
تكمن قوة دول البلطيق في مرونة مجتمعاتها. تجمع إستونيا، على وجه الخصوص، بين مستوى عالٍ من حرية الصحافة وسياسة تعليمية لمكافحة التضليل والتلاعب بالمعلومات. ويستند هذا النهج الاستباقي إلى فكرة بسيطة: أنَّ حماية المجتمع تعتمد أيضًا على التعليم والتماسُك المدني ومشاركة المواطنين في الحياة الديموقراطية. وعلى الرغم من وجود أقليات ناطقة بالروسية، لم تظهر أي حركة انفصالية كبيرة منذ العام 2022، وقد أبدى الكثيرون تضامنهم مع أوكرانيا.
عهد استراتيجي جديد منذ العام 2022
أعادت الحرب في أوكرانيا وعودة دونالد ترامب إلى السلطة في كانون الثاني (يناير) 2025 إحياء المخاوف. لا تزال دول البلطيق ملتزمة بالتحالف مع الولايات المتحدة، لكنها تستثمر الآن بشكل أكبر في الدفاع الأوروبي:
- الممثلة العليا للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية هي كايا كالاس، رئيسة وزراء إستونيا السابقة؛
- المفوض الأوروبي للدفاع هو أندريوس كوبيليوس، من ليتوانيا.
وبذلك، أصبحت دول البلطيق لاعبًا رئيسًا في بناء دفاع أوروبي متكامل. أصبحت منطقتها الآن محور جهود مشتركة بين حلف “الناتو” والاتحاد الأوروبي، لا سيما من خلال “جدار الطائرات المسيّرة” وخط الدفاع البلطيقي (Baltic Defense Line)، وهما رمزان لأوروبا تدافع عن نفسها بشكل جماعي.
الخلاصة
بعدما كانت دول البلطيق تُعتَبَرُ هامشية لفترة طويلة، أصبحت اليوم القلب الرمزي والاستراتيجي للأمن الأوروبي. وتجربتها التاريخية – من فقدان الاستقلال، إلى التماهي مع النظام السوفياتي، ثم إلى الصمود الديموقراطي – تجعلها نماذج يُحتذى بها في التكيف واليقظة. إنَّ قوتها لا تكمن فقط في قوتها العسكرية، بل أيضًا في متانة ديموقراطيتها، وتماسُك مجتمعها، وترسُّخها الأوروبي. اليوم، تجسِّد دول البلطيق أوروبا واضحة الرؤية، موحَّدة، وعازمة في مواجهة التحديات الهجينة والتهديدات الاستبدادية الآتية من الشرق.
وإلى اللقاء يوم غد في الحلقة الثالثة.
- الدكتور سعود المولى هو باحث وكاتب ومترجم وأستاذ جامعي لبناني متقاعد، وهو زميل أول زائر في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية في قطر.
