بين التهديداتِ الإسرائيلية المُتصاعدة وضغوطِ الوسطاء الدوليين، يجد لبنان نفسه أمامَ مُفتَرَقٍ حاسم: إمّا الانزلاق إلى مواجهةٍ مدمّرة، وإمّا خوض معركة ديبلوماسية لا تقلّ صعوبة عن الحرب. وفي قلبِ هذا المشهد المُربِك، يقف “حزب الله” أمام اختبارٍ وجوديّ عنوانه: كيف تنتصر بلا سلاح؟
ملاك جعفر عبّاس*
لا يبدو أنَّ العاصفة السياسية والإعلامية التي تُثيرها التسريبات حولَ اقترابِ تصعيدٍ إسرائيلي واسع ضد “حزب الله” قد انحسرت بعد، بل إنَّ المؤشّرات الميدانية المُتراكمة —من ارتفاع وتيرة الغارات والاغتيالات إلى الحضور الكثيف للطيران الحربي والمُسَيَّرات في الأجواء اللبنانية— تُضفي على تلك التهديدات بُعدًا عمليًا يجعلها أقرب إلى مشهدٍ تمهيدي متكرّر لضربةٍ قاصمة تسعى إسرائيل إلى توجيهها، ليس ضد الحزب وحده هذه المرة، بل ضد الدولة اللبنانية بأكملها.
فالمناخُ التصعيدي لا يبدو ارتجاليًا أو ظرفيًا، بل مدروسًا بعنايةٍ ضمن استراتيجيةِ ضغطٍ مُتصاعدة تهدفُ إلى انتزاعِ تنازُلاتٍ سياسية من بيروت تحت مظلّة التفاوض. وإذا كان هذا الضغطُ قد نجح في شيءٍ حتى الآن، فهو في فتحِ كوّةٍ صغيرةٍ في الجدار السميك الفاصل بين تل أبيب وبيروت، بعد أن تَحوَّلَ “التفاوض” من خيارٍ مرفوض إلى خيارٍ مطروح —وربما وحيد— كما عبّر عنه رئيس الجمهورية جوزيف عون حين قال إنَّ “لا خيارَ أمام لبنان سوى التفاوض”، والذي يبدو أنه على توافُقٍ مع كلِّ من رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الحكومة نوّاف سلام في قرارِ تطعيم الوفد اللبناني في لجنة “الميكانيزم” المُكلّفة بمتابعة تنفيذ اتفاق وقف الأعمال العدائية بعناصر مدنية، في إشارةٍ إلى نيّةٍ سياسية لرَفعِ مستوى النقاش من التقني إلى السياسي.
في موازاة ذلك، نشطت قنواتُ وساطة إقليمية ودولية لتوفير مظلّةٍ تفاوضية غير مباشرة. فقد دخلت القاهرة على الخط عبر زيارة رئيس جهاز استخباراتها، حسن رشاد، إلى بيروت الأسبوع الماضي، حاملًا مجموعة أفكار أبرزها استعداد مصر للعب دور الوسيط بين لبنان وإسرائيل، على غرار تجربتها الناجحة في إدارة اتفاقات وقف إطلاق النار في غزة. كما إنَّ ألمانيا تستثمر في خبرتها في انجاز صفقة تبادل أسرى وتفاهمات بين الحزب وإسرائيل لعرض وساطة تُعيدها لاعبًا في مشهدٍ انكفأت عنه لفترة طويلة.
وحتى الآن، لم يتّضح ما إذا كان هناك توزيع أدوار بين هذه القنوات، بحيث يُترَكُ للجنة “الميكانيزم” معالجة القضايا التقنية —كترسيم الحدود البرية، والانسحاب الإسرائيلي من النقاط الخمس، واسترداد الأسرى اللبنانيين— بينما تتولّى مصر بلورةَ إطارٍ تفاوضي أوسع يُناقش ترتيبات العلاقة اللبنانية–الإسرائيلية في مرحلة ما بعد تثبيت الهدنة، أم أنَّ الرئاسات اللبنانية الثلاث تتّجه إلى توحيد المسار التفاوضي ضمن قناةٍ واحدة تُمسِكُ بالملف وتُجَزّئه إلى مراحل متتابعة.
في الحالتين، يبدو أنَّ لبنان دخل مرحلةً جديدة من التفاعُل الديبلوماسي تحت ضغطٍ ميداني غير مسبوق، حيث تُختَبَر قدرة الدولة على تحويل الضغوط إلى مساحةٍ تفاوضية تحفظ توازُنَ الردع دون الانزلاق إلى مواجهةٍ شاملة قد تُعيدُ رسم خرائط النفوذ في المنطقة من جديد.
إشكالية الوسطاء
الأُطُرُ المطروحة للتفاوض الآن تشوبها تعقيدات على مستويات متعددة تبدأ بهوية الوسطاء أنفسهم. فألمانيا التي غابت عن الملف اللبناني لسنوات تبدو اليوم أقلّ تأهيلًا للعب دورٍ فعّال، بعدما مالت مواقفها السياسية بوضوح نحو المعسكر الإسرائيلي في معظم قضايا المنطقة. وهي، رُغمَ ما تمتلكه من رصيدٍ ديبلوماسي وخبرةٍ تفاوضية، لا تُعدّ في نظر الفاعلين المحليين وسيطًا محايدًا، ولا تمتلك القدرة على حسم الملفات الحساسة في لحظاتها الحرجة من دون الاستناد إلى “العضلات الأميركية”.
الأمر نفسه، وإن بدرجاتٍ مختلفة، ينطبق على القاهرة، التي تبدو أكثر قبولًا في بيروت نظرًا لتوازن علاقاتها الإقليمية وقربها النسبي من المقاربة اللبنانية. غير أنَّ التجربة المصرية في مفاوضات غزة تُظهِرُ أنَّ نجاحها النسبي لم يكن ثمرة جهودها وحدها، بل نتيجة تلاقي عوامل متشابكة: إضعاف الجناح العسكري الموالي لإيران داخل القطاع، تقليص الدور القطري بعد ضربة الدوحة، ثم دخول تركيا بقوة على خط الوساطة مدعومة بموقفٍ أميركي حاسم فرض ضغوطًا غير مسبوقة على إسرائيل، ما أفضى إلى إغلاق الصفقة.
لكن المشهد اللبناني يختلف جذريًا عن النموذج الغزّي؛ فلا تتوافر فيه العوامل التي سهّلت التسوية هناك. فالموقف الأميركي في الحالة اللبنانية لا يوازي فقط الانحياز الإسرائيلي، بل يتجاوزه إلى مقاربة إيديولوجية تتناول الكيان اللبناني نفسه كمسألة قابلة لإعادة الصياغة. فكما عبّر المبعوث الرئاسي توم برّاك، يُنظر في بعض الدوائر الأميركية إلى لبنان كـ”كيانٍ مصطنع” رُسمت حدوده بخطٍّ على الخريطة حول قبائل وأعلام، وهو توصيف ينزع عنه صفة الدولة المتماسكة، ويُبرّر في المخيال الاستراتيجي الأميركي إمكانية إعادة تشكيله بما يخدم الأمن الإسرائيلي.
ووفق هذا المنظور، لا يُستبعَدُ اقتطاعُ أجزاءٍ من الجنوب والبقاع ضمن مفهوم “المنطقة الأمنية”، طالما أنَّ سكانها —وفق القراءة الأميركية— لا يُمثّلون هوية لبنانية موحّدة: فالمسيحيون في باريس، والسنّة متشظّون في محاور إقليمية أخرى، وما تبقّى هو “حزب الله” وبعض السوريين المقيمين. هكذا يتحوّل التفكير من معالجة الأزمة إلى إعادة تعريف الكيان نفسه.
ويذهب هذا التصوّر إلى حدّ طرح صيغٍ هجينة، كإنشاء منطقة اقتصادية منزوعة السلاح والسكان تُدار بإشراف مجلس لبناني–إسرائيلي مشترك، يُسوَّق لها باعتبارها “حلًا مزدوجًا” يُلبّي الحاجات الأمنية لتل أبيب، ويضخّ استثمارات كبرى في الجنوب. لكنّ الأسئلة الجوهرية تبقى معلّقة: هل ستُضَخُّ هذه الاستثمارات فعلًا في الاقتصاد اللبناني؟ أم في إسرائيل؟ أم أنَّ المنطقة المقترحة ستتحوّل إلى كيانٍ مستقلّ بذاته، بلا هوية وطنية واضحة؟
الأخطر في المقاربة الأميركية هو تجاهلها المتعمّد لضرورات التهدئة المسبقة، إذ لا ترى واشنطن مبرّرًا لممارسة أي ضغطٍ على حكومة نتنياهو لوقف الاغتيالات أو الانسحاب من المناطق المحتلة أو الإفراج عن الأسرى — وهي خطواتٌ بديهية تُشكّل “الألف باء” في أيِّ عملية تفاوض جدّية تهيّئ الأجواء لحوارٍ متكافئ يفتح آفاق المستقبل بدل تكريس منطق الإملاء والهيمنة.
إشكالية المفاوضين
تبدو إسرائيل حتى الآن غير معنية بكلِّ الضجيج الدائر حول المفاوضات المُحتَملة مع لبنان. فهي لم تُبدِ أيَّ تجاوبٍ مع الأفكار الواردة في ورقة المبعوث الأميركي توم برّاك، ولم تُصدِر سوى إشاراتٍ سلبية تُترجَمُ ميدانيًا بمزيدٍ من التهديدات المُوَجّهة إلى رئاسة الجمهورية والحكومة اللبنانية، وبمزيدٍ من التصعيد العسكري على الأرض وفي الأجواء.
المُعضِلة التي تُواجه المفاوض الإسرائيلي تكمُنُ في مأزقه الداخلي الناتج عن اتفاق غزة، حيث وجد بنيامين نتنياهو نفسه محشورًا بين مطرقة الضغوط الأميركية وسندان تحالفاته الهشّة. فقد وضع الأميركيون الدعم السياسي والعسكري لإسرائيل في كفّة، ومشروع ضمّ الضفة الغربية في كفّة أخرى، ما خلق حالة من التناقض الداخلي داخل الائتلاف الحاكم تُهدّدُ بانفجاره في أيِّ لحظة.
وتتزايد الضغوط الفكرية والسياسية على نتنياهو من جانب التيار اليميني الأميركي المرتبط بدونالد ترامب، الذي يرى —كما عبّر عنه مستشار ترامب السابق ستيف بانون— أنَّ إسرائيل ليست دولة ذات سيادة كاملة، بل “محمية أميركية” (Vassal State) لا يمكن تركها لتدير شؤونها بمعزل عن توجيهات واشنطن. هذه النظرةُ المُهينة نسبيًا لإسرائيل تُشكّل جرحًا في كبرياء نتنياهو الذي روّجَ لنفسه منذ بداية الحرب باعتباره “ملك إسرائيل” المنتصر على سبع جبهات، وصاحب مشروع إعادة تشكيل الشرق الأوسط. ومن هنا، ربما يسعى الرجل إلى استعادة “هيبته” عبر مغامرةٍ عسكرية جديدة ضد “حزب الله”، تُكرّر نموذج الحرب الثانية على غزة بعد انهيار الهدنة الأولى، مُتذرّعًا هذه المرة بضرورة منع الحزب من إعادة بناء قدراته، بانتظار لحظةٍ يراها “مواتية” قد تتزامن مع نهاية المهلة الأميركية الممنوحة للبنان لسحب السلاح من الجنوب أواخر العام الجاري.
أما المفاوض اللبناني، فمهمّته لا تقلّ تعقيدًا — بل ربما هي الأصعب. فبرغم ما يُتَداول عن توافقٍ بين الرئاسات الثلاث على مبدَإِ الانخراط في المفاوضات عبر لجنة “الميكانيزم”، وعن ضوءٍ أصفر صادر من حارة حريك (مقر “حزب الله”) يتيح للدولة التحرُّك ديبلوماسيًا، إلّا أنَّ الطريق أمامه مليء بالألغام. فالمفاوض اللبناني —إن تجاوز اختبار الثقة والانقسامات الطائفية في عامٍ انتخابي مشحون— سيجد نفسه أقرب إلى دور الوسيط منه إلى المفاوض الحقيقي، لأنه لا يملك قرار السلاح ولا قرار تفكيك المنظومة العسكرية والأمنية ل”حزب الله”.
فالحزب لم يُبدِ بعد أي استعدادٍ جدّي لمناقشة مصير سلاحه شمال الليطاني، بل إنَّ وتيرة القصف والعمليات في الجنوب توحي بحركةٍ ميدانية مستقلة لعناصره قد لا تمرّ دومًا عبر قرارٍ مركزي من القيادة. ومن ثمّ، فإن أي حديثٍ عن تسليم السلاح أو تجميده يبقى خارج صلاحيات المفاوض المدني اللبناني، الذي لا ينتمي إلى المجلس الجهادي للحزب. وحتى لو قَبِل المجلس بذلك مبدئيًا، فإنَّ القرار النهائي يبقى بيد طهران، وتحديدًا بيد المرشد الأعلى علي خامنئي، نظرًا للطبيعة العقائدية والتنظيمية التي تربط “حزب الله” بالمؤسسة الدينية والسياسية في إيران — وهي معادلة لم تكن مطروحة في حالة التفاوض مع “حماس”، رُغمَ انتمائها إلى محور المقاومة والممانعة.
وعليه، يُرجّح أن يجد المفاوض اللبناني نفسه يدور في حلقةٍ بيروقراطية مغلقة بين بعبدا ورياض الصلح وعين التينة وحارة حريك، منتظرًا الضوء الأخضر الذي قد يأتي من طهران لا من بيروت. ولهذا، كان الأجدى بالمبعوث براك —بدل اقتراحه اتصالًا بين رئيس الجمهورية اللبنانية ورئيس الوزراء الإسرائيلي— أن يُفكّرَ بواقعيةٍ أكثر في كيفية جمع مَن يمتلكون القرار الفعلي: النائب محمد رعد من جهة، ومستشار نتنياهو الأقرب رون ديرمر من جهةٍ أخرى، على طريقة اللقاءات غير المباشرة التي نظّمها العُمانيون بين ستبف ويتكوف وعباس عراقجي في المفاوضات النووية.
قد لا يلقى هذا الطرح ترحيبًا لدى الدولة اللبنانية التي ستراه انتقاصًا من سيادتها، كما سيرفضه خصوم “حزب الله” باعتباره تكريسًا لشرعيته الدولية ومنحه مكاسب سياسية داخلية تُعزّزُ هيمنته على مؤسسات الحكم. حتى الحزب نفسه قد يعارض مثل هذا المسار، سواء لغياب التكليف الشرعي أو لانشغاله بالمعركة الانتخابية الحامية التي تستدعي الحفاظ على “نقاء الصورة”.
ومع ذلك، تبقى الحقيقة الصلبة أنَّ لا مفاوضات جدّية ولا نتائج قابلة للتطبيق من دون جلوس الطرفين القادرين على الحسم إلى الطاولة. فالدولة اللبنانية، التي جرّبت من قبل التفاوض عبر مؤسساتها الرسمية في اتفاق وقف الأعمال العدائية، عادت اليوم لتجرّب المُجَرَّب، وإن بثوبٍ جديد لا يضمن تغيير النتائج.
قد تكون الجولة الأولى من المفاوضات، أيًا كانت طبيعتها وشكلها، محطةً ضرورية لكسر الحاجز النفسي الذي طالما أحاط بالنقاش حول مفهوم التفاوض ذاته، ولإدخال المقاربات الديبلوماسية في صلب النقاش العام بوصفها أحد أدوات حماية الوطن لا نقيضًا لها. غير أنّ المعطيات السابقة تشيرُ بوضوح إلى أنّ هذه الجولة لن تكونَ حاسمة، بل تمهيدية لمسارٍ أطول وأكثر تعقيدًا.
وعليه، قد يكون على الدوائر العاقلة داخل “حزب الله” أن تُعيدَ النظر في أدوات المواجهة وأن تُفكّرَ في معنى “الانتصار” خارج ميادين القتال هذه المرة — انتصارٍ ديبلوماسي يتطلّب تضحياتٍ من نوعٍ مختلف: لا بالدماء، بل بالتخلّي عن بعض الأوهام وبكبح جماح الأنا الجماعية المتضخّمة، صونًا لتراب الوطن وحفاظًا على جوهره.
إنّ على قيادة الحزب أن تتهيّأ ومعها جمهورها لجملة قرارات مصيرية تتصل بعلاقة لبنان بإيران وبإسرائيل على السواء، وأن تبحث عن مقارباتٍ أوسع تُعيدُ وصلَ لبنان بعمقه العربي والإسلامي تحت شعارٍ جامع: إنقاذ لبنان.
فمهما بلغت التعقيدات أو طال الانقسام، يبقى لبنان —بكل ما فيه من هشاشة وجمال وتناقُض— الوطن الوحيد الذي نملكه، والمصير الذي لا خيار لنا سواه.
- ملاك جعفر عبّاس هي كاتبة سياسية وإعلامية لبنانية حاورت شخصيات عربية وعالمية عدة خلال عملها في شبكة “بي بي سي نيوز عربي”. وقد تخصّصت في دراسة مكافحة الإرهاب والجماعات المسلحة في جامعة كينغز كولدج لندن. يمكن التواصل معها عبر منصة “ Linkedin“ على: linkedin.com/in/malakjaafar
