وَهمً الشَرقِ الأوسَطِ الجديد: إسرائيل بين انتصاراتِها الميدانية وانكشافِ ضُعفِها الحقيقي

بينما ترى إسرائيل نفسها القوة الصاعدة في الشرق الأوسط، تكشفُ الوقائع أنَّ تفوّقها العسكري لا يضمنُ لها قيادة إقليمية ولا أمنًا مستدامًا. فحملاتها الدموية في غزة، ورهانها المفرط على الدعم الأميركي، وصدامها مع حلفائها العرب، رسمت ملامح مرحلة جديدة تُهدد بتحويل “الانتصار” الإسرائيلي إلى بدايةِ عُزلةٍ غير مسبوقة.

ولدٌ فلسطيني في موقع غارة إسرائيلية ليلية في غزة، تشربن الأول/أكتوبر 2025

مارك لينش*

يتغيّرُ المشهدُ الإقليمي في الشرق الأوسط بسرعة، لكن ليس كما يتخيَّلُ ويريدُ كثيرون من المسؤولين الإسرائيليين والأميركيين. فقد نجحت جهود الرئيس الأميركي دونالد ترامب لإنهاء الحرب في غزة في إطلاقِ سراح جميع الرهائن الإسرائيليين الذين بقوا على قيد الحياة، ووَقفِ القتل والدمار المُستمرَّين اللذين شَوَّها صورة ومشهدَ القطاع. وقد بعث هذا التطوُّرُ الأملَ بإمكانيةِ حدوثِ تحوّلٍ إقليمي أوسع، حتى وإن ظلَّ المستقبلُ بعد وقف إطلاق النار الأوَّلي غامضًا للغاية. ويتحدّث ترامب نفسه عن “بزوغ فجر السلام في الشرق الأوسط”. وإذا تمكّنت خطته من منع طرد الفلسطينيين من غزة وضم الضفة الغربية، فقد يعودُ بعضُ الحكومات العربية إلى التفكيرِ مُجدَّدًا في تطبيع العلاقات مع إسرائيل. في الواقع، اعتبرَ الإسرائيليون أنَّ ضغطَ القادة العرب على حركة “حماس” لقبول صفقة ترامب مؤشّرًا إلى احتمال عودة المفاوضات حول مسار التطبيع.

ومع ذلك، حتى لو صمدَ اتفاقُ غزة، فلن تدومَ لحظة التقارُب بين واشنطن وتل أبيب طويلًا. فإسرائيل، التي تَعتقدُ خطأً أنها رسّخت تفوُّقًا استراتيجيًا دائمًا على خصومها، مُرَجَّحٌ أن تُقدِمَ على خطواتٍ استفزازية تتعارَضُ مع أهداف البيت الأبيض بشكلٍ مباشر. أما دولُ الخليج، التي تطمَحُ إسرائيل إلى ضمّها إلى دائرة التطبيع، فتزداد شكوكها في رغبة إسرائيل أو قدرتها على حماية مصالحها الأساسية. كما أصبحت هذه الدول أقل اهتمامًا بمواجهة إيران، وأقل اقتناعًا بأنَّ الطريقَ إلى واشنطن يمرُّ عبر تل أبيب. ويبدو أنَّ إسرائيل لم تُدرِك بعد مدى التقارُب المتزايد بين ترامب ودول الخليج.

هَيمَنَ هذا النوع من التفكير الحالم على الحكومة الإسرائيلية ومؤسّسة الأمن القومي، اللتين وجدتا في استعراض القوة فرصةً لإعادة تأكيد نفوذ البلاد في المنطقة. فبعد هجمات “حماس” في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، أطلقت إسرائيل سلسلةً من الغارات الجوية والتدخّلات العسكرية في أنحاء الشرق الأوسط، استهدفت فيها ليس “حماس” فقط، بل المحور الإيراني بأكمله. تجاوزت مرارًا الخطوط الحمراء التي حكمت حرب الظل الإقليمية لسنوات طويلة، فاغتالت قادةً كانوا يُعتبرون سابقًا من المحرّمات: زعيم “حزب الله” حسن نصر الله بقنبلة ضخمة في قلب بيروت، والزعيم السياسي لـ”حماس” إسماعيل هنية داخل ملاذ إيراني آمن، وعددًا من القادة العسكريين الإيرانيين في سوريا، إضافة إلى رئيس الوزراء الحوثي في اليمن. وبلغت ذروة هذا النهج حين قصفت إسرائيل مواقع نووية وعسكرية داخل إيران، في تجسيد واضح لرغبتها في ضرب قلب عدوها الأكبر.

غير أنَّ هجومًا واحدًا في الخليج مثّلَ نقطة تحوّل مفاجئة. فقد شكّلت محاولة إسرائيل اغتيال قادة “حماس” المجتمعين في مفاوضات الدوحة، التي كانت تُجرى بوساطة أميركية في أيلول (سبتمبر)، تصعيدًا دراميًا في سعيها إلى إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط بالقوة الجوية. هذا النوع من العمليات لا يُقدِمُ عليه إلّا َمن يظنُّ نفسه بمنأى عن العواقب. لكن هذه المرة، قرّر ترامب أنَّ إسرائيل قد تجاوزت الخط الأحمر. وانتشرت صورةً لا تُنسى له وهو يحدّق بوجهٍ عابس بينما يقرأ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو اعتذارًا مكتوبًا في مكالمةٍ هاتفية مع أمير قطر الشيخ تميم بن حمد— مشهدٌ أصبح رمزًا للحظة الجيوسياسية المتبدّلة التي مهّدت لوقف إطلاق النار الأوّلي في غزة.

ومع أنَّ غضب ترامب من إسرائيل قد لا يقود إلى تغييراتٍ جذرية تتجاوز وقف إطلاق النار، فإنَّ الأحداث الأخيرة أظهرت حدود القوة الإسرائيلية. فقد استأنف الجيش الإسرائيلي قصف مناطق من قطاع غزة هذا الأسبوع، بحجّة الرد على هجمات “حماس” في الجنوب. إلّا أنَّ من مصلحة إسرائيل أن تتراجعَ عن حافة الهاوية وتستغلَّ فرصة وقف إطلاق النار لتقليص مغامراتها العسكرية، والسعي نحو نظامٍ إقليمي أكثر استقرارًا لا يمكن تحقيقه إلّا عبر تحرُّكٍ جاد نحو إقامة دولة فلسطينية. لقد كشفَ الصراعُ الطويل في غزة عن نقاط ضعف إسرائيل: دفاعاتها الصاروخية ليست منيعة، واقتصادها لا يتحمّل حربًا بلا نهاية، ومشهدها السياسي الداخلي يزداد اضطرابًا، وجيشها لا يزال يعتمد اعتمادًا كبيرًا على أميركا. أما الدمار الهائل في غزة فقد أضعف مكانتها الدولية، وتركها في عُزلةٍ ووحدة متزايدتَين.

لا يُمكِنُ لإسرائيل أن تقصفَ الشرق الأوسط لتُعيد تشكيله في صورة نظام جديد ومستقر. فالقيادة الإقليمية لا تقومُ على التفوّق العسكري وحده، بل تتطلّب أيضًا قدرًا من القبول والتعاون من القوى الإقليمية الأخرى. ومع ذلك، لا توجد دولةٌ في المنطقة ترغب في أن تتبع قيادة إسرائيل، بل إنَّ الجميع باتوا يخشون بشكلٍ متزايد من قوتها المنفلتة. وفي واشنطن، يرحّب بعض المسؤولين بإمكانية أن تُلحِقَ إسرائيل، وهي تتصرّف بلا قيود، أضرارًا جسيمة بخصوم الولايات المتحدة. لكن هؤلاء قد لا يُدرِكون أنهم يلعبون بالنار؛ فمصالح إسرائيل تختلف عن مصالح واشنطن، وإسرائيل تُصدر التزاماتٍ باهظة الثمن قد لا تكون الولايات المتحدة راغبة أو قادرة على الوفاء بها.

النظام الحالي والمستقبلي

لقد تجاوزت جهود إسرائيل لإعادة رسم خريطة المنطقة توقّعات الكثيرين، لكنها تسيرُ عكسَ اتجاه التاريخ الإقليمي. فعلى الرُغم من كلِّ الاضطرابات والعنف الظاهر، حافظ النظام الإقليمي في الشرق الأوسط على قدرٍ ملحوظ من الثبات خلال العقود الثلاثة ونصف الماضية. فالهيكل الأساسي للسياسة الإقليمية لم يشهد سوى لحظات محدودة من التغيير الحقيقي، سرعان ما تلاشت. يقوم هذا الهيكل على هيمنة أميركية متوترة وغير شعبية على نطاق واسع، وعلى انقسامٍ واضح للمنطقة إلى كتلتين متنافستين.

نشأ هذا النظام عقب انهيار الاتحاد السوفياتي، عندما أصبحت الهيمنة الأميركية العالمية حقيقة لا جدال فيها. فخلال الحرب الباردة، كانت دول المنطقة قادرة على اللعب على التوازن بين القوّتين العُظميين —واشنطن وموسكو— إذ كانتا تخشيان فقدان حلفائهما المحليين. لكن بعد العام 1991، أصبحت كل الطرق تمرُّ عبر واشنطن. وأصبح السؤال المركزي هو ما إذا كانت الدولة “داخل” النظام الذي تقوده الولايات المتحدة أم “خارجه”.

الدول التي كانت داخل النظام —مثل إسرائيل ومعظم الدول العربية— تمتعت بضمانات أمنية، وبوصولٍ إلى التمويل والمؤسسات الدولية، وبحماية ديبلوماسية واسعة. أما الدول التي بقيت خارجه —كإيران والعراق وليبيا وسوريا— فواجهت العقوبات، والغارات، والتدخلات السرية، وحملات الشيطنة السياسية والإعلامية. لذلك، لم يكن مفاجئًا أن تقضي ليبيا وسوريا معظم تسعينيات القرن الماضي وبداية الألفية الجديدة تحاولان العودة إلى “النعمة الأميركية” والانضمام مجددًا إلى النظام الإقليمي الذي تقوده واشنطن.

لقد تراجَعَ التفوُّق الأميركي الذي كان يومًا ما ركيزة النظام الإقليمي في الشرق الأوسط، بعد أن أضعفته كارثة الغزو الأميركي للعراق والأزمة المالية العالمية لعام 2008، فلم يَعُد يبدو راسخًا كما كان في العقود السابقة. ومع ذلك، فإنَّ عالمًا متعدّد الأقطاب لا يزال احتمالًا بعيد المنال. فروسيا لم يكن لها سوى حليفٍ واحد في المنطقة، هو نظام الرئيس بشار الأسد الضعيف في سوريا، ومع سقوط الأسد في العام 2024، فقدت موسكو آخر موطئ قدم لها هناك. أما الصين، فرُغم صعودها الاقتصادي المستمر وتوقيعها سلسلة من الاتفاقيات الاستراتيجية مع قوى إقليمية مختلفة، فإنَّ هذا الصعود لم يتحوّل إلى تحدٍ حقيقي للنظام الذي تقوده الولايات المتحدة.

في حرب غزة، بدت بكين غائبة تمامًا، إذ اكتفت بإدانة القصف الإسرائيلي والأميركي لإيران بدون أيِّ تحرُّكٍ ملموس. لا تمتلك الصين سوى قاعدة بحرية صغيرة في جيبوتي تُستخدَمُ لمهام مكافحة القرصنة في خليج عدن، ولم تفعل شيئًا عندما قام الحوثيون بمحاصرة السفن في البحر الأحمر انتقامًا من حملة إسرائيل في غزة. ويبدو أنَّ بكين راضيةٌ حاليًا بالاستفادة المجانية من المظلة العسكرية الأميركية في الخليج، رُغم اعتمادها الكبير على نفط وغاز الشرق الأوسط. ورُغم محاولات دول المنطقة تنويع شراكاتها العسكرية والاقتصادية وعقد صفقات أكثر توازنًا مع واشنطن، فإنَّ أيَّ بديلٍ حقيقي للهيمنة الأميركية لم يظهر بعد.

منذ العام 1991، حافظت جميع دول الشرق الأوسط على موقعها داخل نظامٍ إقليمي ثُنائي القطب: كتلة بقيادة الولايات المتحدة تضم إسرائيل ومعظم الدول العربية وتركيا، في مواجهة كتلة أخرى تقودها إيران وحلفاؤها الإقليميون. يشعر قادة الخليج براحة تجاه نهج ترامب القائم على الصفقات، وبخاصة ميله إلى الاتفاقات التي تتناسب مع قدرات الدول النفطية الغنية. أما اتفاقيات أبراهام، التي طبّعت بموجبها أربع دول عربية علاقاتها مع إسرائيل في العام 2020 بطلب من ترامب، فلم تُحدِث سوى تغييرٍ شكلي في المشهد، إذ كانت تلك الدول تحتفظ أصلًا بعلاقاتٍ استراتيجية سرية غير معلنة مع إسرائيل في مواجهة إيران.

ورُغمَ كلِّ الأزمات، أثبت هذا النظام الذي تقوده الولايات المتحدة صلابته اللافتة. فلم تُضعِف انهياراتُ عملية السلام الفلسطينية-الإسرائيلية في العام 2001، ولا الانتفاضة الثانية، ولا هجمات 11 أيلول (سبتمبر)، ولا الغزو الكارثي للعراق، هذا الترتيب الإقليمي الراسخ. بل إنَّ هذه الأحداث عززت موقع الكتلة الإيرانية، التي بدت لسنواتٍ وكأنها في صعودٍ مستمر، مع تمكُّن حلفائها من ترسيخ نفوذهم في بغداد وبيروت وصنعاء، وتمسُّك نظام الأسد بالسلطة في دمشق، وامتلاك “حماس” و”حزب الله” ترسانات ضخمة من الصواريخ والأسلحة جعلت منهما قوتين لا يمكن تجاهلهما في المعادلة الإقليمية.

خلال الاضطرابات الكبرى التي رافقت حقبة الانتفاضات العربية بعد العام 2011، تحوّلت الثُنائية القطبية في الشرق الأوسط إلى ما يشبه نظامًا ثُلاثيّ الأقطاب. فـ”محور المقاومة” بقيادة إيران حافظ على تماسكه بدرجةٍ كبيرة، لكنَّ التغيُّرات السياسية العميقة التي اجتاحت المنطقة أطلقت سباقًا حادًا على النفوذ بين القوى الإقليمية. وقد أدت تلك المنافسة إلى انقسامٍ داخل المعسكر الذي تقوده الولايات المتحدة، حيث تموضعت قطر وتركيا في جهة، مقابل السعودية والإمارات والبحرين في الجهة الأخرى، بينما وجدت واشنطن نفسها تكافح للمحافظة على تنسيق الأهداف بين حلفائها المتنافرين.

وقد زاد الحصار الذي فرضته السعودية والإمارات والبحرين ومصر على قطر بين العامين 2017 و2021 من تفكُّك هذا التحالف وأضعفَ الجهود الرامية لتشكيل جبهة موحَّدة ضد إيران. لكن هذا الخلاف سرعان ما طُوي مع وصول الرئيس الأميركي جو بايدن إلى السلطة، حيث استعادت الأطراف المتنازعة علاقاتها بسرعة، وعاد النظام التقليدي ليعمل كما كان، رُغمَ فشلِ محاولات إدارة بايدن الأحادية لدفع الرياض نحو اتفاق تطبيع رسمي مع إسرائيل.

غير أنَّ الحرب في غزة قلبت المشهد مجددًا، إذ أعادت الأنظمة العربية اكتشاف اهتمامها بالقضية الفلسطينية. فخوفها العميق من موجة جديدة من الانتفاضات الشعبية، وحرصها على منع أي شرارة قد تؤجج احتجاجات داخلية، جعلاها تدرك تمامًا عمق الغضب الشعبي من مشاهد الدمار والتطهير العرقي في غزة. وقد برز هذا التحوُّل بوضوح في الموقف السعودي الذي أعاد التأكيد على مبادرة السلام العربية، والتي تشترط إقامة دولة فلسطينية كمدخلٍ لأيِّ سلام مع إسرائيل. وانعكس هذا الموقف أيضًا في شروط وقف إطلاق النار في غزة، التي استبعدت كليًا طرد الفلسطينيين أو ضم إسرائيل للقطاع — وهي شروط تعكس توجّهات دول الخليج ومصالحها أكثر مما تعكس أولويات إسرائيل.

لحظة إسرائيل الضائعة

ومع ذلك، يبدو أنَّ هذا التحوُّلَ الإقليمي لم يُدركه القادة الإسرائيليون. فبدلًا من قراءة المشهد الجديد، يُركّزون على ما يرونه إنجازًا استراتيجيًا حققته حملتهم ضد إيران وحلفائها، مُعتقدين أنها قلبت موازين القوى في المنطقة لصالحهم. فاغتيال قيادة “حزب الله” وتدمير جُزءٍ كبير من ترسانته الصاروخية أزال، برأيهم، أحد أهم الأذرع العسكرية الإيرانية. كما إنَّ سقوطَ نظام الأسد حرم طهران من ممرٍّ أساسي لإعادة بناء نفوذها في لبنان، في حين دمّرت إسرائيل بشكلٍ منهجي القدرات العسكرية السورية، وهاجمت المواقع الإيرانية داخل البلاد، وفرضت سيطرة شبه فعلية على أجزاء واسعة من جنوب سوريا.

يرى صنّاع القرار ومحلّلو الأمن القومي في إسرائيل أنَّ كلَّ تصعيدٍ عسكري أثبتَ صوابَ نهجهم، معتبرين أنَّ تحذيرات المنتقدين كانت مبالغًا فيها. وهم الآن مقتنعون بأن الخطأ قبل السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023 كان في التساهل مع التهديدات بدلًا من سحقها، مهما كانت الكلفة. تقوم مقامرتهم الجديدة على الاعتقاد بأنَّ النظام الإقليمي يمكن فرضه بالقوة الجوية، وأنَّ القادة العرب إمّا خائفون جدًا أو ضعفاء جدًا بحيث لن يجرؤوا على الرد. وبالنسبة إلى إسرائيل، لا تبدو الاعتبارات الأخلاقية أو القانونية ذات أهمية تُذكَر؛ فالشرعية، من وجهة نظرها، مسألة نسبية تُحدَّدُ بالنتائج لا بالمبادئ. وقد ترى أنَّ القادة العرب قد يعبّرون عن استيائهم، لكنهم في النهاية سينحنون أمام الأمر الواقع الذي تفرضه القوة الإسرائيلية المتصاعدة.

لطالما تباهت إسرائيل بكونها الأكثر “واقعية” بين قوى المنطقة، مُفضلةً شرق أوسط تحكمه القوة لا القواعد، حيث لا تُضحّي أيُّ دولة بمصالحها من أجل الفلسطينيين، وحيث يُنظَرُ إلى القانون الدولي كمجرّد أداةٍ سياسية لا التزام حقيقي. لكنها تتجاهل حقيقة أنَّ التفوُّق العسكري وحده لا يبني نظامًا مستدامًا. فقيادة إقليمية راسخة تتطلّب من الدول الأخرى أن تشاركها إما شعورًا بالهدف أو إحساسًا مشتركًا بالتهديد — وهذان العنصران معًا تَقَوَّضا بسبب سلوك إسرائيل ذاته.

لقد أدّى تدمير غزة وخطط ضم الضفة الغربية إلى تبديد ما تبقّى من ادعاء بأنَّ إسرائيل منفتحة على تسويةٍ عادلة للقضية الفلسطينية. بل إنَّ السعودية ودول الخليج كانت تتجه أصلًا نحو تقاربٍ تدريجي مع إيران حتى قبل أن تُضعِفَ الهجمات الإسرائيلية القدرات العسكرية الإيرانية. وبعد حادثة الدوحة ومحاولات إسرائيل التهديد بتهجير الفلسطينيين إلى مصر والأردن، أصبحت إسرائيل تُرى اليوم من قبل العديد من الأنظمة العربية كـتهديدٍ مباشر لاستقرارها الداخلي، لا يختلف كثيرًا عن إيران التي فقدت الكثير من نفوذها. ومع تراجع الخطر الإيراني، لن تجدَ إسرائيل في العالم العربي الحماسة نفسها لتقبل تحالفٍ قائمٍ على الخوف منها أو معها.

إنَّ القوة الجامحة حين تَقترنُ بالطموحِ المُفرِط لا تفضي إلّا إلى مأساة. فقد أثبتت إسرائيل بوضوحٍ عدم استعدادها لبناءِ أيِّ شعورٍ مشترك بالهدف الإقليمي يُمكن أن يُترجِمَ نجاحها العسكري إلى قيادةٍ سياسية مستقرة. لا يزال الإسرائيليون يعيشون تحت وطأة صدمة هجوم 7 تشرين الأول (أكتوبر)، وغالبية كبيرة من الرأي العام ترفض الاعتراف بالاتهامات الدولية المُوَجَّهة لبلادهم بارتكاب جرائم حرب في غزة، أو تصديق التقارير التي تتحدّث عن مجاعة وخسائر فادحة بين المدنيين. أما رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، فيبدو منشغلًا أكثر بالحفاظ على تماسُك ائتلافه اليميني المتطرّف الضيِّق من مواجهة الانتقادات الدولية أو إحياء فكرة الدولة الفلسطينية التي يعتبرها حلفاؤه في الحكومة خطرًا وجوديًا.

ورُغم أنَّ وقفَ إطلاقِ النار في غزة وَفّرَ لإسرائيل فرصةً لتصحيح المسار، فإنَّ استمرار المناوشات، وعرقلة وصول المساعدات الإنسانية، وتصاعُد عنف المستوطنين في الضفة الغربية، كلُّها مؤشّرات لا تُنذِرُ بخير.

وما يزيد المشهد سوءًا هو مبالغة إسرائيل في تقدير قوّتها العسكرية. فبرُغم تفوّقها الجوي الواضح وقدرتها على تنفيذ ضربات مباغتة واغتيالات دقيقة، فإنها لا تمتلك جيشًا قادرًا على احتلال أراضٍ إضافية تتجاوز تلك التي سيطرت عليها قبل أكثر من خمسة عقود في فلسطين وسوريا. لقد نجحت في تحقيق أهدافٍ تكتيكية محدودة، لكنها فشلت في بلوغ أهدافها الاستراتيجية الكبرى: فما زالت “حماس” القوة المهيمنة في غزة، و”حزب الله” يرفضُ نزع سلاحه رُغم خسائره الكبيرة، كما إنَّ الحملة العسكرية الضخمة التي استمرت 12 يومًا ضد إيران لم تنجح في إنهاء برنامجها النووي أو إثارة انتفاضة داخلية ضد النظام الإيراني.

إنَّ هيمنة إسرائيل العسكرية حقيقية لكنها محدودة ومشروطة. فهي لم تتمكّن من مواصلة حربها على غزة إلّا بفضل إمدادات الذخيرة الأميركية المستمرة. ومع اشتداد الصراع، تراجعت قدرة منظومة “القبة الحديدية” على التصدّي للصواريخ الإيرانية بشكلٍ خطير بسبب نقص الصواريخ الاعتراضية، قبل أن تتدخّل واشنطن لفرض وقف إطلاق النار في حرب الاثني عشر يومًا.

وتُظهر نداءات الطوارئ المتكررة التي وجهتها إسرائيل إلى الولايات المتحدة خلال العامين الماضيين مدى اعتمادها البنيوي على الدعم الأميركي. ومن المؤكد أنَّ القوى الإقليمية لاحظت هذا الضعف الكامن، إدراكًا منها أنَّ استمرار أي صراع طويل سيكشف حدود القوة الإسرائيلية مهما بدت في ظاهرها طاغية.

لطالما أتقن بنيامين نتنياهو فنَّ اللعب في دهاليز السياسة الأميركية، ونجح على مدى عقود في توظيفها لخدمة مصالح إسرائيل، ما منحه ثقةً راسخة بأنَّ نفوذَ بلاده في واشنطن سيستمر إلى ما لا نهاية، رُغمَ ما تشهده الساحة الأميركية من اضطرابٍ وانقسام. لكن بوادر الخطر بدأت تلوح بوضوح. فاحتضان نتنياهو العلني للحزب الجمهوري، وسلوك إسرائيل الدموي في غزة، أدّيا إلى تآكل الإجماع الحزبي التقليدي المؤيد لإسرائيل داخل الولايات المتحدة. باتت غالبية الديموقراطيين اليوم تتعاطف مع الفلسطينيين أكثر من الإسرائيليين، وبدأ عدد متزايد من السياسيين الديموقراطيين يشكّك في جدوى استمرار المساعدات العسكرية لإسرائيل.

أما الجمهوريون، فرُغمَ استمرار دعمهم القوي، فإنَّ تيار “أميركا أوّلًا” القومي داخل الحزب بات أقل استعدادًا لوضع مصالح إسرائيل فوق مصالح الولايات المتحدة. وترامب نفسه، رُغمَ تمسُّكه بخطابِ الدعم لإسرائيل، مُتقدِّمٌ في السن، متقلّب المزاج، وغير مُتَوَقَّع السلوك، وله علاقات شخصية ومالية وثيقة مع أنظمة الخليج قد تدفعه إلى قرارات لا تصبُّ بالضرورة في مصلحة تل أبيب. أما خلفاؤه الجمهوريون المحتملون، مثل نائب الرئيس جي دي فانس، فلا يُظهرون أيَّ التزامٍ خاص تجاه إسرائيل. وبدون “شيك على بياض” أميركي كما كان في العقود الماضية، قد تكتشف إسرائيل أنَّ هامشَ سيادتها يتبخّر أسرع مما تتوقّع.

ورُغمَ أنَّ إسرائيل تنظرُ إلى نفسها اليوم بوصفها القوة المهيمنة الجديدة في الشرق الأوسط، فإنها في الواقع جعلت نفسها أقل ضرورة وأقل موثوقية في نظر شركائها الإقليميين. فبعد الهجوم على قطر، من غير المرجح أن تُواصِلَ دول الخليج توجيه أنظمتها الدفاعية نحو إيران واليمن وحدهما؛ فإسرائيل أصبحت في نظرهم عاملَ تهديدٍ مُحتمل لا ضمانَ أمن. ربما تغاضى بعض القادة العرب عن دمار غزة باعتباره مأساة بعيدة، لكن تحوُّل إسرائيل إلى قوة متهوِّرة وغير مُنضَبِطة جعلهم يعيدون النظر في مدى الاعتماد عليها.

لقد غذّى إفلاتُ إسرائيل من أيِّ عقوبة حتى الآن شعورًا داخليًا خطيرًا بأنّها مُحصّنة من العواقب — شعورٌ يذكّر بأوهامها السابقة بعد حرب 1967 حين افترضت أنَّ العرب لن يجرؤوا على مهاجمتها مُجَددًا، قبل أن تصحو على صدمة حرب 1973. وهو الوهم ذاته الذي جعلها تعتقد قبل هجوم 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 أنَّ “حماس” ستبقى محصورة وضعيفة إلى الأبد داخل غزة. لكن كما أثبت التاريخ مرارًا، فإنَّ الغرور الاستراتيجي في الشرق الأوسط لا يدوم طويلًا.

Exit mobile version