مُقرَّراتٌ دون المَطلوب!

الدكتور ڤيكتور الزمتر*

الحديثُ على مُقرَّرات القِمَم العربية والإسلامية، باتَ لُزومَ ما لا يلزمُ، لاجترارها مُقرَّراتٍ وبياناتٍ ختاميةٍ أشبه بفقّاعاتٍ صوتيةٍ، سئِمَ الرأيُ العامُ من تردادها، بعدما تأكَّدَ له، بالوجه الشرعي، أنَّها لا تُساوي ثمنَ المداد والقرطاس، اللذين صِيغت بهما.

أنهى زُعماءُ العرب والمُسلمين قمَّتَهم الإستثنائيةَ بمُقرَّراتٍ لا ترقى إلى مستوى الإستثناء، المُتمثِّل بقصف قادة “حماس” في قلب العاصمة القطرية. صحيحٌ إنَّ هجمةَ إسرائيل على الدوحة، التي توسَّطت لإطلاق أكثرَ من مئةٍ من مُحتجَزيها، هو عملٌ مُدانٌ وغيرُ مسبوقٍ، إلّا أنَّ الإستثناءَ المُلحَّ، الذي طالَ انتظارُه، يكمنُ في إدارة الظهر، طيلةَ ثلاثةٍ وعشرين شهرًا على إبادةٍ شعبٍ يُجاهرُ بها حُكّامُ إسرائيل على رؤوس الأشهاد، لاقتلاعه وابتلاع قطاعه، استكمالًا لاغتصابِ كاملِ أراضي فلسطين التاريخية!

اختُتِمَتُ القمَّةُ العربيةُ الإسلاميةُ الطارئةُ مُتوَّجةً ببيانٍ ختاميٍّ، تضمَّنَ خمسةً وعشرين بندًا من الإستذكار والإسترشاد والإستنكار والإدانة والشجب. ومع ذلك، لم يتَّسعْ البيانُ الفضفاضُ لفقَرَةٍ عمليَّةٍ واحدةٍ، يُستشفُّ منها عزمٌ صادقٌ على جديَّةٍ عربيةٍ-إسلاميةٍ، بمواجهة العدوانية الإسرائيلية، بفعالية لُغَة القُوَّة التي تُتْقِنُها.

فوسطَ استعصاء توحُّد العرب والمُسلمين على تحرُّكٍ بزيٍّ عسكريٍّ، كان حَريًّا بقِمَّتهم الطارئة، بعد استنفاذهم لِعبارات الشجب والندب والإدانة والإستنكار، أن يتَّفقوا على مخرجاتٍ عمليَّةٍ في مجالات الإقتصاد والطاقة والتجارة والثقافة، كتفعيل قرارات المُقاطعة الجديَّة للشركات المُتعاملة مع إسرائيل. وبدل الدعوة إلى “مُراجعة العلاقات الديبلوماسية”، كانَ أضعفَ الإيمان أنْ يُبادرَ المُطَبِّعون إلى تجميد علاقاتهم الديبلوماسية، حِفاظًا على ماء الوجه، إنْ تعذَّرَ قطعُ العلاقات الديبلوماسية، اتقاءً لغضب واشنطن.

ولمزيدٍ من الفعالية، كان يُمكنُ إيلاءُ العناية لتفعيل آلية المُقاطعة الإسلامية لخنق الإقتصاد الإسرائيلي، عبر تجميد وإلغاء اتفاقات التبادل التجاري، وإقفال المرافىء العربية والإسلامية أمام سفن الشحن إلى إسرائيل. وثمَّةَ خطوةٌ كانت جديرةً بالإعتماد، في سياق تفعيل المُقاطعة، تقضي بتكليف وفدٍ عربيٍّ-إسلاميٍّ، للقيام بجولةٍ على أهم الدول المُتعاونة سياسيًا واقتصاديًا مع إسرائيل، لإطلاع تلك الدول على عزم العالمَين العربي والإسلامي الجدي على تنفيذ قراراتهما بشأن المُقاطعة.

أمّا الدعوةُ لتفعيل الدفاع العربي والإسلامي المُشترك، فهذه تبدو ضربًا من أحلام اليقظة، بدليل تبعية غالبية الدول العربية الإسلامية لوصاية الدول الكبرى، لا سيَّما تلك الشريكة والحاضنة للكيان الإسرائيلي، مُنذ قيامه. وتبقى المُفارقة بانَّ “التضامُن الكلامي” مع قطر، لم يتركْ كبيرَ اهتمامٍ لمذبحة غزَّة وإبادة سكانها. فقد كانَ جمعُ شمل العائلتين، العربية والإسلامية، فُرصةً لا تُعوَّضُ لاتخاذ موقفٍ مُوحَّدٍ حازمٍ لوقف المقتلة الفلسطينية، إذ ما من أولويةٍ أكثرَ إلحاحًا من إنقاذ أكثر من مليونَي فلسطينيٍّ مُهدَّدين بالقتل العَمْد، إنْ لم يقضوا جوعًا وعطشًا وتشريدًا!

لدى العرب والمُسلمين كلُّ ما يعوزُه إنقاذُ، ليس فقط غزَّة، بل كامل فلسطين التاريخية، في ما لو ارتقوا إلى سموّ الإيمان بفضائل الوحدة والتراحُم والتضامن، وبمِنعة الثقة بالذات. فها هم يجتمعون من مُنطلق الإيمان بوحدتهم، وبأنَّ ما يُصيبُ العربَ يُصيبُ المُسلمين، والعكسُ صحيحٌ في الوجدان العربي والإسلامي. ومع ذلك، يتعذَّرُ تسييل ما لديهم  من عناصر القُوَّة لنجدة قضاياهم العليا. فلديهم العدد والتقاطعات الجغرافية والثروات والمال، ولا ينقُصُهم سوى غياب الوحدة الفعلية، الأمرُ الذي يستغلُّه أعداؤهم، فيستخفُّون بهم ما يُسهِّلُ استهدافهم دولةً دولةً.

دليلٌ آخرٌ على العُقم العربي والإسلامي، تجاه سطوة الخارج، عندما صارَ الخضوعُ لبيانٍ صحافيٍّ، صادرٍ عن مجلس الأمن، تنديدًا بالهجوم على العاصمة القطرية، في وقتٍ كان العملُ جارٍ لاستصدار قرارٍ يُجرِّمُ إسرائيل. وما زادَ في التخاذُل خُلوُّ البيان من ذكر إسرائيل بالإسم!

من قِمَّة الرباط، في العام 1969، على أثَر حرق المسجد الأقصى على يد أحد المُتطرِّفين، حيثُ تأسَّست “مُنظَّمة المؤتمر الإسلامي”، قبل أنْ تتحوَّلَ إلى “مُنظَّمة التعاون الإسلامي”، مُرورًا بقِمَّة الدوحة الطارئة، في العام 2000، في أعقاب اندلاع الإنتفاضة الفلسطينية الثانية، وقِمَّة إسطنبول الطارئة، في العام 2017، ردًّا على الإعتراف الأميركي بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها، وقِمَّة الرياض، في العام 2023، ردًّا على اجتياح قطاع غزَّة، بعد عملية “طوفان الأقصى”، وصولًا إلى قِمَّة الدوحة الطارئة، قِممٌ لطالما صدحَت في أرجاء صالاتها خُطَبُ التضامُن الرنّانة، بدونِ أنْ تُحدث للقضيةَ الفلسطينيةَ قيدَ أنمُلةٍ من التقدُّم. بل على العكس، تراجعت قضيةُ فلسطين إلى حدٍّ لم يتوقَّفْ حُكّامُ إسرائيل على المُجاهرة بدفن حُلْم الدولة الفلسطينية إلى الأبد.

لقد كانت واشنطن الغائبةَ الحاضرةَ في قمَّة الدوحة الطارئة، مع مُفارقة تَوَرُّع غالبية رؤساء الوفود عن الإشارة، بالبنان، إلى مسؤوليتها عن الرعونة الإسرائيلية، المُتغوِّلة في سبع جبهاتٍ عربيةٍ وإسلاميةٍ. والأنكى من ذلك، أنَّ المؤتمرين تنادوا للتضامن مع قطر، بُعَيْدَ مُهاجمة قادة “حماس” في الدوحة، بضوءٍ أخضرٍ أميركيٍّ مُسلَّمٍ به.

إنَّه تسليمٌ مُطلق بالعجز عن مُواجهة الوصاية الغربية، وتحديدًا مسؤولية واشنطن في مُعاناة العرب والمُسلمين. وقد لفتني، في هذا السياق، تصريحٌ لوزير خارجية دولةٍ عربيةٍ بارزة، عبَّرَ فيه، مُواربةً، عن العجز الجماعي تجاه فلسطين، حيث قال أنَّ بلادَه “تُراهنُ على الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي يُقدِّمُ نفسَه كرجل سلامٍ، في رفع الظُلم التاريخيّ عن الشعب الفلسطيني”!

وبين آمال وطموحات الرأي العام، العربي والإسلامي،  وأولويات حكّامه في الإلتصاق بكرسي السلطة، يبقى الرهانُ على يقظةٍ تُبْعَثُ من رحم المُعاناة والإحتقان، من شأنها أن تُبرزَ قامةً تثأرُ من خُمول العقل واضمحلال المُروءة، وتقلبُ الطاولةَ على القيادات المُتخاذلة، أملاً بإحداث كُرة ثلجٍ تجرفُ طبقةَ الموالي، علَّها تُحدِثَ ربيعًا عربيًا بالفعل، لا استمرارًا بالإستقالة من المسؤولية!

إنَّ الوقتَ لم يَفُتْ تمامًا بعد، وإنْ أصبحَ ضاغطًا ومتأخِّرًا. فمقابل الإنتصارات، التي حقَّقتها إسرائيل في الميدان، هناك خسارةٌ إسرائيليةٌ فادحةٌ، تمثَّلَت بانكشاف عُدوانيتها، لدى فضاءات التعاطُف الدولي معها، بعدما تدثَّرت بثوب الحمل، الذي لطالما استدرَّت به تعاطُفَ العالم. إنَّ ما شهدته ساحاتُ العالم من تضامنٍ جارفٍ مع الظُلم اللّاحق بالفلسطينيين، ترسَّخَ في وُجدان جميع الفئات العُمرية، لاسيَّما في أوساط الطلبة الشباب، يُنتظرُ أن يكونَ له مردودٌ وازنٌ في نُصرة الحقِّ الفلسطيني، في المدى المنظور.

مشهدٌ سورياليٌّ بامتياز، مُشاهدةُ ممثِّلين عن مليارَين من المُسلمين، يتنادون للشكوى من ظلامة سبعة ملايين من المُستعمِرين، غالبيتُهم من المهاجرين، اقتلعوا سكانَ البلاد الأصليين وحلّوا مكانهم! إنَّه مِثالٌ حيٌّ برسم العرب والمُسلمين، مفادُه أنَّ منطقَ العدد باتَ من الماضي، بعد أن أصبحَت اليدُ الطُولى بيد من يتربَّعَ على ناصية العِلم.

Exit mobile version