إشكاليّةُ السلمِ والحربِ بين إيران والغرب

يشكّل تاريخ العلاقات الأميركية–الإيرانية أحد أكثر الملفات تعقيدًا وتشابكًا في السياسة الدولية الحديثة. فمنذ بداياتها في القرن التاسع عشر، مرورًا بحقبة النفوذ الأميركي المطلق في عهد الشاه، وصولًا إلى القطيعة الحادة بعد الثورة الإسلامية عام 1979 وما تلاها من صراعات، ظلّت هذه العلاقة تتأرجح بين الوعود والأوهام، وبين السلم المعلَّق والحرب المحتملة.

المسلسل الذي بين أيدينا يسعى إلى تتبّع مسار هذه العلاقة، من جذورها الثقافية والدينية والتاريخية. والحلقة الأولى تضيء على لحظةٍ فارقة في هذا التاريخ حيث تكشف حجم سوء التقدير الأميركي، وتضعُ إطارًا لفَهمِ كيف انقلبت علاقةٌ بدت يومًا متينة إلى مواجهةٍ مفتوحة لم تُحسَم بعد.

آخر سفراء الشاه في واشنطن أردشير زاهدي بين الرئيس ليندون جونسون وروبرت كينيدي: كلمته كانت مسموعة جدًا في أروقة البيت الأبيض.

(1)

“سدّادة قنِّينة الجغرافيا”!

 

سليمان الفرزلي*

عشية رأس السنة الميلادية، يوم 31 كانون الأول (ديسمبر) من العام 1977، أقام شاه إيران الراحل محمد رضا بهلوي، في قصره بطهران مأدبةَ عشاءٍ عامرة للرئيس الأميركي الراحل جيمي كارتر، الذي قام بزيارةٍ ملفتة إلى العاصمة الإيرانية، بعد أقل من سنة على دخوله إلى البيت الأبيض، وبعد شهرٍ واحدٍ فقط من زيارةٍ رسمية قام بها الشاه إلى واشنطن، حيث وافقَ الأميركيون على تزويده بكمّياتٍ ونوعيّات متقدّمة من السلاح، ليكون حارس المصالح الأميركية في الخليج والشرق الأوسط.

لم تَكُن تلك الزيارة مُقرَّرة أو مُخصَّصة لإيران، لكن كارتر أدخلها ضمن جولةٍ خارجية له، وهو في طريقه من بولندا إلى الهند.

في تلك المأدبة، أثارَ كارتر عجبَ العالم في خطابه الذي وصف فيه إيران الشاه بأنها “واحةٌ من السلام والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط”، في وقتٍ كانت الأرضُ تميدُ تحت الشاه وعرشه، مُؤذنةً بانتفاضةٍ شعبية، أشدّ قوة، وأوسع مدى، وأعمق جذورًا من أيِّ انتفاضةٍ سابقة، بقيادة الإمام روح الله الخميني من منفاه في النجف، بما فيها تلك التي أطاحته في مطلع خمسينيات القرن الماضي، بقيادة الدكتور محمد مصدق، ومباركة آية الله أبو القاسم الكاشاني من منفاه في بيروت.

قال كارتر في ذلك الخطاب كلامًا مُستَغرَبًا في إطراءِ الشاه، بينما الثورة الإسلامية تغلي تحت السطح: “إنَّ إيران بقيادة الشاه، هي واحةٌ من الاستقرار والسلام في منطقة من أكثر مناطق العالم اضطرابًا، وهذا فخرٌ عظيمٌ لكم يا صاحب الجلالة، ولقيادتكم الحكيمة، ولاحترام شعبكم وتقديره ومحبته لكم”.

وَجهُ العجب في ذلك المشهد، ليس فقط أنَّ كارتر، في موقفه الداعم للشاه على هذا النحو، نقضَ وعوده الانتخابية، خصوصًا تلك المتعلقة بالدفاع عن حقوق الإنسان في كلِّ مكان، ومنع انتشار الأسلحة، والسعي إلى إطفاء الحروب وإحلال السلام في العالم، بل في غفلة، أو تغافل، أجهزة الاستخبارات الأميركية عمّا كان يجري تحت السطح في إيران خلال تلك الفترة. والدليل على ذلك، التقرير السرّي الذي وضعته وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إي) في شهر آب (أغسطس) من العام 1977 حول نظرتها إلى إيران في الثمانينيات المقبلة، وجاء فيه ما يلي: “سيبقى الشاه مُشاركًا فاعلًا في الحياة الإيرانية لمدة طويلة في فترة الثمانينيات، ولن يكونَ هناك أيُّ تغييرٍ جذريٍّ في السلوك السياسي الإيراني للمستقبل القريب”!

***

كان واضحًا لأيِّ مُراقبٍ عادي، أنَّ هناكَ شيئًا غير عادي يجري في داخل إيران، يبدو أنَّ الأجهزة الأميركية أرادت أن تتجاهله، لأنه من الصعب تصديق القول بأنهم لم يعلموا، أو يستشعروا به.

أنا بنفسي لمستُ غرابةَ المشهد الإيراني في تلك الفترة تحديدًا، من خلالِ رحلةٍ جوية لي من الكويت، عبر القاهرة، إلى باريس، حيث كنتُ أقيم حينها. فقد اقتضت تلك الرحلة أن أطيرَ إلى القاهرة ومنها إلى باريس بطائرةٍ فرنسية. لكن الطائرة الكويتية تأخَّرَ إقلاعها قرابة الساعة، ففاتني الانتقال إلى باريس بالطائرة الفرنسية. وخلال البحث عن وسيلةٍ أخرى، أفادوني في مطار القاهرة بأنَّ هناك طائرة إيرانية مُتَّجِهة إلى نيويورك عبر باريس يمكنك أن تسافرَ فيها، فوافقت.

وَصفتُ رحلتي إلى باريس في تلك الطائرة الإيرانية، في كتابي “علامات الدرب”، كما يلي:

“كان المشهد في تلك الطائرة الإيرانية، مطلع صيف 1977، أول مؤشّر رأيته إلى الوضع السائد في إيران يومئذٍ، قبل أشهرٍ قليلة من انطلاق الثورة الخمينية.

“كانت طائرة ضخمة جدًا، لكنها خالية من الركاب تقريبًا، باستثناءِ عددٍ قليلٍ من الأجانب، ربما كانوا في غالبيتهم من الأميركيين، لا يتجاوز عددهم العشرة أفراد، بمن فيهم عائلة أو عائلتان، بحيثُ كان عدد طاقم الطائرة أكبر من عدد الركاب… ومع أنني لا أخافُ من الطيران، فإنني لا أدري لماذا ساورني القلق خلال تلك الرحلة التي شعرتُ بأنها طالت أكثر من اللزوم، وأيقنت منذ تلك اللحظة أنَّ الوضعَ في إيران غير عادي، وأنَّ المشهدَ داخل الطائرة الإيرانية يدلُّ على شيءٍ ما مختلف أو غير طبيعي، وكتبتُ في مفكرتي يومها أنني سافرت من القاهرة إلى باريس بطائرةٍ إيرانية أشبه ما تكون بطائرة مخطوفة”!

فإذا كان هذا مجرَّدَ انطباعٍ عابرٍ لمُلاحظٍ من بعيد مثلي، فهل من المعقول أنَّ أجهزة استخبارات دول كبرى كانت غافلة عما كان يجري، أو يغلي، داخل إيران؟

هناك رأيٌ مُتداوَل في الأوساط الإعلامية الأميركية، بأنَّ أجهزة الاستخبارات الغربية لا تُبالي بما يجري في البلدان الأخرى من تحركات شعبية، أو نقابية، وما الى ذلك، بل تُركّزُ اهتماماتها على مراكز القوى الحاكمة، السياسية، والعسكرية، والأمنية، والاقتصادية، وفي مدارٍ أدنى على النُخَب المؤثِّرة سياسيًا وفكريًا، وتعتبر أنَّ هذه الفئة، وغالبيتها في الأوساط الأكاديمية، والثقافية، والعلمية، هي الميزان الأدق لقياس تحوّلات الرأي العام والمزاج السائد في البلاد.

***

إنَّ العواملَ الثلاثة الأهم التي جعلت واشنطن، في مرحلةِ ما بَعدَ رئاسة جون كنيدي، تعتمد سياسة تعزيز وتقوية إيران الشاه على رقعة الشطرنج العالمية، هي التالية:

أوّلًا: الانسحابُ البريطاني من شرق السويس في العام 1968، فلم تعد هناك قوةٌ قادرة على حماية المصالح النفطية الغربية في الخليج، سوى إيران، فاعتمدت واشنطن شاه إيران وكيلًا عنها في تلك المنطقة الحيوية، وحارسًا لمصالحها هناك. ولهذا الاعتبار قرَّر الرئيس ريتشارد نيكسون زيادة تسليح إيران، وبمعزلٍ عن رقابة الكونغرس. واستمرت هذه السياسة، وعلى نطاق أوسع وأكثر تطورًّا، في عهد الرئيس كارتر من بدايته، بحيث أصبحت إيران السوق الأولى للسلاح الأميركي، فبلغت النسبة قبل انتصار الثورة الإسلامية نحو 60 في المئة من مجموع مبيعات السلاح الأميركي حول العالم. على أنَّ الهدف الاستراتيجي الأساس وراء خطة التسليح هذه، محاولة سدِّ الطريق أمام الاتحاد السوفياتي لمنعه من الوصول الى آسيا والشرق الأوسط، وهو ما أطلق عليه بعضهم، من باب توصيف دور إيران في تلك اللعبة، “سدّادة قنينة الجغرافيا” لمنع التدفّق السوفياتي باتجاه منابع النفط في الشرق الأوسط.

ثانيًا: النظرة الأميركية إلى العجز السعودي عن القيام بمثل هذه المهمة في حينه، حيث كانت المملكة العربية السعودية ضعيفة عسكريًا، وغير مستقرة سياسيًا.

ثالثًا، اشتباكُ إسرائيل مع جيرانها من الدول العربية، الأمر الذي حرمها من أن تلعبَ دورًا فاعلًا ومقبولًا في منطقة الخليج.

هذه العوامل، حسب تحليل إدارة كارتر، جعلت إيران الحليف الأوثق، والشريك الأقوى للولايات المتحدة في المنطقة.

الملفت في الأمر، أنَّ الأدبيات السياسية والإعلامية تحدّثت مطوَّلًا عن التسليح الأميركي لشاه إيران، حتى من باب حنث كارتر بوعوده الانتخابية، إلّاَ أنها لم تذكر سوى القليل وبالتلميح فقط عن موافقته على بيع طائرات “أواكس” للإنذار المبكر إلى إيران.

طلب الشاه تزويده بأسطولٍ من عشرِ طائرات “أواكس”، لكن كارتر وافقَ على سبع طائرات، فتحرَّكَ الكونغرس لمناقشة الصفقة، وبالنتيجة وافق على عدد أقل وبشروطٍ مُشدَّدة، لكن الاضطرابات الإيرانية تسارعت فطُويت الصفقة مع سقوط الشاه. وهناكَ روايةٌ أخرى تُفيدُ بأنَّ كارتر هو الذي أحالَ الموضوع إلى الكونغرس، الذي أبدى تحفّظات جديَّة على الصفقة، بدعوى أنه من غير الممكن ضمان أمن أدوات إلكترونية متقدِّمة في بلدٍ مثل إيران. واحتجَّ آخرون بأنه من الممكن أن تتسرَّبَ أسرار “الأواكس” إما بالتجسّس التقليدي، أو بمحاولة خطف طائرة منها، على غرار محاولة خطف طائرة “ميراج” الفرنسية من لبنان!

الباحثان الأبرز في هذا الموضوع، كريستيان آمري ولوقا ترنتا، لم يتطرّقا الى صفقة “الأواكس” إلّاَ بأقل من فقرة واحدة، الأول في كتابه الصادر في العام 2013 بعنوان: “السياسة الخارجية الأميركية والثورة الإيرانية”، والثاني في بحثه بعنوان: “بطل حقوق الإنسان يقابل ملك الملوك: جيمي كارتر والشاه، والأوهام الإيرانية الغاضبة”. لكن بعد أن وضعَ الكونغرس يده عليها لمناقشتها وإقرارها، بعد تغييبه عن الموضوع في عهد نيكسون، كان قد تأخر الوقت لبحثها في العمق بسبب الثورة الإسلامية وسقوط الشاه. وقد صدر في منتصف هذا الشهر، آب (أغسطس) 2025، كتابٌ للصحافي سكوت أندرسون، الكاتب في مجلة “نيويورك تايمز” بعنوان “ملك الملوك: سقوط الشاه وثورة 1979 وتفكيك الشرق الأوسط الحديث”، لم أقرأه بعد لإسناد هذا الموضوع. والمعروف أن “مجلة نيويورك تايمز” خصّصت عددًا كاملًا لأول مرة في تاريخها الطويل عن تغطيات سكوت أندرسون للشرق الأوسط في العام 2016.

لكن ما شجَّع كارتر على السير في مشروع تسليح إيران، دراسة أعدَّها مجلس الأمن القومي، خلاصتها أنَّ إيران هي المنطقة المحتمل أن تنفجر فيها “أزمة مواجهة” مع الاتحاد السوفياتي.

أما الأمر الأهم الذي لفّهُ الصمت المُطبَق هو اللقاء الذي جرى بعد خمسة أيام فقط من دخول كارتر إلى البيت الأبيض، في 25 كانون الثاني (يناير) 1977، بين سفير الشاه في واشنطن أرداشير زاهدي ومستشار كارتر للأمن القومي زبيغنيو بريجنسكي، حيث فاتحه السفير الإيراني برغبة الشاه في إقامة برنامج نووي للأغراض السلمية، وهو مشروعٌ رفضه الرئيس جيرالد فورد، خلف نيكسون، وسلف كارتر. ويؤكّدُ بعض المراقبين لتلك المرحلة أنَّ الرئيس كارتر وافقَ على هذه الفكرة من غير تردُّد!

ما يُثبِتُ مَيل كارتر الى النظر بإيجابية بشأن البرنامج النووي الإيراني المُقترَح من زاهدي، أنَّ نائبَ وزير الخارجية الأميركي في حينه، وارن كريستوفر، أصدر مذكرة بمواضيع البحث بين كارتر والشاه قبل وصول الرئيس الأميركي إلى طهران، تتضمن خمس قضايا: السلاح، الطاقة، المخاوف النفطية، التعاون النووي، واستقرار الأوضاع في الشرق الأوسط.

***

كثيرون أنحوا باللائمة على الرئيس كارتر لتدهور العلاقات الإيرانية–الأميركية. لكن كارتر ليس الرئيس الأميركي الوحيد الذي أخطأ التقدير في هذه المسألة. فقد سبقه بعض أسلافه على هذا الطريق، أبرزهم الرئيس ريتشارد نيكسون. لكن ما ميَّزَ كارتر عن أسلافه، أنَّ سوءَ تقديره كان فاقعًا، ومن بداية رئاسته اليتيمة، واستمرَّ حتى تخلّيه عن الشاه في اللحظة الأخيرة.

مع ذلك، فإنَّ كارتر لم يشذّ عن السياق التاريخي للعلاقات الأميركية–الإيرانية خلال قرن من الزمن، كما وصفها المؤرخ والديبلوماسي الأميركي السابق جايمس بيل في كتابه “الأسد والنسر: مأساة العلاقات الأميركية–الإيرانية (مطبعة جامعة ييل 1988)، بقوله: “قلة من العلاقات الدولية انطلقت من مُنطلقٍ إيجابي مثل الاتصالات التي تميّزت بها الاتصالات الإيرانية–الأميركية”.

يمكن تصنيف العلاقات التاريخية بين الولايات المتحدة وإيران في ثلاث مراحل:

الأولى، من 1830 الى 1940 هي مرحلة استكشافية غير رسمية، قامت على محاولةٍ من المؤسسات البروتستانتية للتبشير في أوساط مُعَيَّنة من الإيرانيين، استهدفت في الدرجة الأولى الطائفة المسيحية النسطورية (الأشورية)، واستهدفت أيضًا تحويل الطائفة الزرادشتية، وهي أقلية في المجتمع الإيراني، لتحويلها إلى المسيحية، وهذه البداية نجحت قليلًا بين النساطرة ولم تنجح قط بين الزرادشتية. هي أشبه بمحاولة الإرساليات الأميركية الأولى إلى لبنان لتحويل الدروز إلى مذهبها، وفشلت.

قامت البعثة البروتستانتية الأولى إلى إيران على مُبشّرين مرموقين كان لأحدهما تأثيرٌ ثقافي عميق في لبنان تاليًا، هو الدكتور إيلي سميث، الذي كان يُتقِنُ اللغة العربية شفاهًا وكتابةً، وهو من أدخل أول مطبعة بالحروف العربية إلى سوريا في العام 1834. أما الثاني فهو هاريسون غراي أوتيس دوايت، وقد قطعا معاً مسافة 2500 ميل من أرمينيا، الى جورجيا، الى شمال غرب إيران (أذربيجان).

لم تنجح الإرساليات الأولى إلى إيران بالتبشير، فانتقلَ سميث إلى بلدة عبيه في لبنان، حيث راح يُصدر شتى أنواع الكتب باللغة العربية، ثم عكف على ترجمة “الكتاب المقدس” (العهد القديم، والعهد الجديد، وأعمال الرسل) إلى اللغة العربية، لكنه توفي قبل أن يُنجِزَ هذه الترجمة، فتولّى إكمالها مُبشّرٌ بروتستانتي آخر هو الدكتور كرنيليوس فان دايك، الذي عمل أستاذًا في الكلية الإنجيلية التي أصبحت تاليًا “الجامعة الأميركية في بيروت”. لكنَّ الإرساليات البروتستانتية التالية، وإن لم تنجح في التبشير المسيحي، فقد نجحت نجاحًا باهرًا في إنشاء المدارس والكليات العصرية، بما فيها مدارس البنات. وحقّقت نجاحًا باهرًا في الحقل الطبي، حيث أقامت مستشفيات حديثة في معظم المدن الإيرانية الكبرى، وكلية لتدريس الطب الحديث، فاستقطبت تلك المؤسّسات التعليمية والصحّية كثيرين من النخب الذين صار لهم شأنٌ بعد تخرُّجهم منها في الحياة السياسية، والثقافية، والاقتصادية. وكان هذا التوجُّه أنجح وأنسب للحكومة الأميركية من تحويل بعض الإيرانيين الى المسيحية البروتستانتية.

الثانية، من 1945 إلى 1979، وهي حقبةٌ تقرّرت فيها التوجُّهات السياسية لإيران الحديثة، بعد جلاء الجيوش السوفياتية والبريطانية من إيران في أعقاب الحرب العالمية الثانية، فحلَّ النفوذُ الأميركي، لأسبابٍ جيو استراتيجية تتعلّقُ بالحرب الباردة بين موسكو وواشنطن، ولكون إيران مصدرًا عالميًا مهمًّا من مصادر الطاقة النفطية، وعلى مقربة من حقول النفط العربية في الخليج التي تديرها الشركات الأميركية والبريطانية بالدرجة الأولى.

كانَ النفوذ الأميركي في إيران خلال هذه المرحة (مرحلة الحرب الباردة) شبه مطلق، بالرغم من وجود حزب شيوعي، هو الأقوى في منطقة الشرق الأوسط (حزب توده)، وبالرُغم من وجودِ حوزاتٍ دينية شيعية نافذة في الأوساط الشعبية. وعندما نجحت الحركة الوطنية الإيرانية، بقيادة محمد مصدق، في عزل الشاه مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، قامت الولايات المتحدة، من خلال وكالة الاستخبارات المركزية، بترتيبِ انقلابٍ على الانقلاب، وأعادت تنصيب الشاه المخلوع على “عرش الطاووس”، ومعه ضمانات واسعة للمصالح النفطية الأميركية والبريطانية. ولخلع الشاه، وإعادة تنصيبه بوصاية خارجية، نظير في التاريخ الإيراني القديم سوف نتناولها في حلقة مقبلة.

الثالثة، من 1979 إلى اليوم، وهي ما يمكن وصفه، حتى الآن، بأنها “مرحلة الفراق”. ذلك أنَّ الحربَ الأميركية–الإسرائيلية الأخيرة ضد إيران، ما زالت غامضة، حتى في هدفها المُعلَن، وهو تعطيل البرنامج النووي الإيراني. هذا الهدفُ المُعلَن يبدو مجرّدَ حجّةٍ تخفي هدفًا آخر غير مُعلن، لأنَّ إدارة كارتر قبل تخلّيها عن الشاه في اللحظة الأخيرة، كانت تنظرُ بإيجابية الى مطلب الشاه، الذي أفصح به سفيره في واشنطن إلى المستشار بريجنسكي (كما مرَّ)، بالمساعدة على إقامة برنامج نووي للأغراض السلمية.

نتائج هذه المرحلة، لا يمكن البحث فيها بالتكهّنات، لأنها ما زالت جارية، وقد تطول المدة الزمنية لجلائها، لكنها ستكون، متى انجلت، مرحلة حاسمة في التاريخ الإيراني الحديث.

(الحلقة المقبلة: “آية الله والشيطان”)

Exit mobile version