لبنان: طهران تُخاطِبُ العالمَ من بيروت

محمّد قوَّاص*

تدافعت الأوراقُ على بيروت. تَراكَمَت لوائحُ ما هو مطلوب حتى يتمّ الاعترافُ بلبنان دولةً “طبيعية” قابلة للتداول بين الدول. تتحلّقُ حول البلد عواصمُ كبرى وأساسية تَعِدُ بالبحبوحة والازدهار وضخِّ سيولةٍ انقطعت بفعلِ فاعل. كان ذلك الخارجُ يتعاملُ بشكلٍ “طبيعي” مع لبنان خلال عقود نشأته حتى قرّرَ لأسبابه، وليس لأسبابِ تَغَيُّرٍ في طبيعةِ البلد وطبائعه، أن يُوقِفَ ذلك التعامُل إلى أن يُصبحَ البلدُ طبيعيًا.
تعاملَ العالمُ سابقًا مع لبنان بلدًا تتقاطَعُ داخله مساراتُ الفساد الدولي وشبكاته المخابراتية، معطوفةً على منظمّاتِ الجهاد والمقاومة والإرهاب، المُتعايشة مع جماعاتِ اليسار واليمين وما يتوسّطهما. تعامَلَ الخارجُ مع البلد حين كانت تفتُكُ به الحروب الأهلية والإقليمية والدولية، وواصلَ “عشقَ” البلد حتى حين تناوبت الوصايات عليه وفتكت به تحت عين ورعاية الغرف الكبرى. لكنَّ العالمَ قد تَغَيَّر.
توقَّفَ تعامُلُ الخارج مع البلد بسببِ قراره وقف التعامل مع الحالة الإيرانية ومتفرّعاتها في عهد بشّار الأسد في سوريا وتمدُّد “المحور” ما بين طهران وبيروت. خرجت شوارع لبنان في “ثورة” على نظامٍ محلّي في العام 2019. قرأ المُستَهدَفون سرَّ الحراك. أطلقوا أصحاب الشعار الشهير “شيعة شيعة شيعة”، حاملين رسائل مباشرة من جمهورية الوَليّ الفقيه للدفاع عن حصونها المُطِلّة مباشرةً على شرق البحر المتوسط ومخزوناته الغازية، وعلى إسرائيل من حدود لبنان الجنوبية.
لم يَجِد الخارجُ مشكلةً في الحَرَدِ من لبنان إلى حدِّ الانهيار مقاطعةً للحالة الإيرانية فيه المسكوت عنها منذ عقود. لا يتحمّلُ لبنان وزرَ تلك الحالة وحده. فحين فَجَّرَت أيادٍ متمدّدة من إيران السفارة الأميركية ومقرَّيّ المارينز والقوة الفرنسية في بيروت في العام 1983، غادرت قوات الولايات المتحدة وفرنسا، القوتان العظميان النوويتان، لبنان تاركةً اللبنانيين لمصيرهم. فأما وأنَّ كبارَ هذا العالم ارتضوا بالقدر “الثوري” الذي تفاهم معه باراك أوباما وأبرم معه صفقةً في العام 2015، فإنَّ لبنان دفع ثمنًا دفعه سابقًا حين تمّ تسليمه لوصاية دمشق في عهد حافظ الأسد عن سابق تصوُّرٍ وتصميم.
نفّذت بيروت الثلاثاء الماضي ما هو مطلوبٌ من دولةٍ أن تفعله. تأخّرت كثيرًا. استغرقَ الأمرُ عقودًا سوداء. أصغت الحكومة الشرعية لنبضٍ داخل البلد باتَ يدفعُ بغالبيته باتجاه استرجاعِ منطقِ الدولة بديلًا من الدويلات التي خَبِرها لبنان مند بدء احترابه الأهلي على الأقل. أصغت أيضًا لتحذيراتٍ من الخارج لم تَكُن حكوماتٌ سابقة مكتومة الإرادة تؤمن بجدّيتها. تقولُ التحذيرات أنَّ لا تعاملَ “طبيعيًا” واعدًا وازنًا مع لبنان من دونِ استرجاعِ قرارِ دولته واحتكارها للسلاح كما تتطلّبُ بديهيات وجودِ أيِّ دولة.
بات بالإمكان لبيروت أن تُخاطِبَ العالمَ القريب والبعيد بأنها مارست ما يجب أن يُمارِس، وأنها تَسيرُ على مسار إيفاء عهود “خطاب القسم” و “البيان الوزاري”. ولئن استخدمَ لبنان وسائله البيتية، فإنَّ ما توفّرَ من معطيات بشأن المُعاندة المُعلَنة من قبل “حزب الله” برفضُ “نقاش” مسألة السلاح قبل شروطٍ لا يوفّرها إلّا هذا الخارج، يوحي بأنَّ إيران تطلُّ من بيروت لتقترح ما تقترحه من طهران على العالم للعودة إلى طاولة المفاوضات.
خطورةُ الشقاق بين حكومة لبنان والحزب تكمن في أنَّ إجهاضَ المعالجة البيتية، يُشرّعُ الأبوابَ أمام أخرى تتولّاها إسرائيل بنسخاتٍ سبقَ أن عرفَ البلد مآسيها. ولئن يدفعُ الحزب بهذا القدر، ويَعِدُ عبر أمينه العام، الشيخ نعيم قاسم، باستدراجه، فإنَّ طهران لن يضيرها أن يصيبَ لبنان قدر من شأنه إنعاش زمان كان فيه الخارج يتعب من حروب لبنان فيَحرَدُ ويغادر ليترك البلد من جديد لمصيره. بقي أن ذلك الرهان بات مُتقادمًا لأنَّ العالم قد تغيّرَ جدًا منذ أن قرر أن يجعل من التحوّل في سوريا نهائيًا، حتى لو كان في لبنان من تستهويه تمارين الإنكار وفنونه.

Exit mobile version