البروفِسور بيار الخوري*
قرأتُ اليوم مقالَ الكبير هنري زغيب في “أسواق العرب” حولَ “سرقات الأخوين رحباني” كما يَدَّعي “الجَعاثيث”. و”الجَعاثيث” هي جمع “جَعثوث” وهو تعبيرٌ من اختراعِ زغيب يُشيرُ “إلى واحدٍ برتبة شيء لا معنى له”. ثم عادَ الشاعر وصحّحَ معلومة كان قد ذكرها حول أُغنية “أنا عندي حنين” بعد أن جاءه توضيحٌ من غدي الرحباني: “أنا عندي حنين”… هي من شعر الأَخوين رحباني وتلحين زياد الرحباني…
ضغطت على مفاتيح الجهاز، وألقيتُ بسؤالٍ بسيط على المساعد الذكي: “أنا عندي حنين… سنة الصدور، الشاعر، الملحن؟”
جاء الجواب مسرعًا، أنيقًا، واثقًا: “أغنية لأم كلثوم، كلمات أحمد رامي، وألحان رياض السنباطي، صدرت في العام 1950…”
ابتسمتُ، لا بسخرية، بل بحنوٍّ خفي. ثم كتبتُ بهدوء:
“سنتبادَلُ الأدوار قليلًا… الأغنية لفيروز.”
تلك الجملة وحدها كانت كافية لإعادة توزيع الأدوار.
فها هو “الذكيّ” يُعيد الحسابات، يستدرك، يصحّح:
“نعم، هي لفيروز، كلمات جوزيف حرب، لحن فيلمون وهبي…”
لكني لم أتوقّف عند هذا التصحيح. كأني أحمل بوصلة الحقيقة الشعرية، لأقول:”الشعر للأخوين رحباني.”
واستدارَ الذكاء مُصَحِّحًا نفسه مرة أخرى، بل بلطفٍ يشبه اعترافَ تلميذٍ لورقةٍ بيضاء: “أنتَ على حق. الأغنية من كلمات الأخوين رحباني… وألحان فيلمون”.
فأخطرته أنها من ألحان زياد الرحباني، فأضاف الذكاء، بثقة العارف، أنها من مسرحيات زياد.
ابتسمتُ للمرة الثالثة. وبدون انفعال، بل بما يشبه الهمس: “سأُكمِل… لا علاقة لها بمسرحيات زياد.”
وهنا، لم يكن أمام الآلة إلّا أن تخلعَ قناعَ العارف الكُلّي، وتعترف: “برافو. الآن بلغتَ الدقة النهائية”. هنا خرج الاصطناعي من الجَعثثة!
في تلك اللحظة، لم يَكُن الأمرُ مجرّدَ تَصحيحِ معلومة، بل كان مشهدًا نادرًا: إنسانٌ يُعلِّمُ آلةً كيفَ تُصغي.
إستنتاجاتي:
- الذكاءُ الاصطناعي لا يُجيدُ قراءةَ النوايا: ما لم نَقُل له صراحةً أننا نعرف، أو نختبر، فإنه يَميلُ إلى تقديم إجابة جاهزة وسريعة، تفتقرُ أحيانًا إلى التأمُّل النقدي.
- 2. الثقة الزائدة تؤدّي إلى السطحية: الآلة، مثل “الجَعاثيث”، قد تتسرّع في إصدارِ الأحكام إذا لم نواجهها بحقائق دقيقة، ما يُنتِجُ طبقةً من المعلومات “المريحة” لكنها ليست دائمًا صحيحة.
- المعرفة الحقيقية تنمو في الحوار: هذا التبادُلُ لم يكن مُجَرّدَ تصحيح، بل كان لحظةَ تعليمٍ مُتبادَل: الإنسان يُذكّر الآلة بتواضُع الحقيقة. والآلة، حين تُصغي، وتتوقف عن “الجَعثثة” تتعلّم أن تكونَ أداةً لا وَصِيّة.
- المُستَخدِمُ ليس طالبَ معرفة سلبيًا دائمًا، بل شريكٌ في إنتاجها: الافتراض بأنَّ كلَّ مَن يسأل لا يعرف، هو خللٌ في “فلسفة” الخدمة. والأسئلة، أحيانًا، هي وسيلة استدراج للحقيقة، لا مجرّد بحثٍ عنها.
- البروفِسور بيار الخوري هو أكاديمي لبناني وكاتب في الإقتصاد السياسي. وهو عميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا. يُمكن التواصل معه على بريده الإلكتروني: info@pierrekhoury.com