مايكل يونغ*
انتهى لبنان من الجولةِ الأخيرة من الانتخابات البلدية والاختيارية، التي جرت بين 4 و24 أيار (مايو) الفائت، ولم تَكُن الرسالة مُطَمئِنة. فقد حقّقت القوائم المدعومة من الأحزاب السياسية الطائفية في البلاد فوزًا ساحقًا. وهذا يُنبِئُ بفترةٍ من الاستقطابِ المُستَمِرِّ في وقتٍ يحتاجُ لبنان إلى التَوَحُّدِ حولَ مشروعٍ للاستفادة من الديناميكيات المُتَغَيِّرة في الشرق الأوسط.
في مقالٍ له في مجلة “إنترناشونال بوليسي دايجِست” الأميركية، عبّر خبير المحاطر المصرفية والباحث الاقتصادي في الجامعة الأميركية في بيروت، محمد فحيلي، عن مزاجٍ عام في لبنان حول المسار الذي تسلكه البلاد. وتعليقًا على جولة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأخيرة في الشرق الأوسط، أشار فحيلي إلى أنَّ “لبنان كان غائبًا بشكلٍ ملحوظ عن النقاش. فهو لم يُستَبعَد من جدول الأعمال فحسب، بل يبدو أنه اختفى منه تمامًا”.
إنَّ المزاجَ السائد بين الأحزاب الرئيسة داخل لبنان، كما يبدو، مُنفَصِلٌ تمامًا عن التحوُّلات الأوسع في المنطقة. فقد افتخرَ الحزب السياسي المسيحي الرئيس، “القوات اللبنانية”، بانتصاراته في مدينتَي جونيه وزحلة، بينما حقّق نتائج جيدة في معاقل مسيحية أخرى. ويرى زعيم الحزب، سمير جعجع، أنَّ هذا يُبشّرُ بالخير للانتخابات النيابية التي ستجري في العام المقبل، حيث يأمل حزب “القوات اللبنانية” في تشكيلِ كتلة نيابية أكبر من كتلته الحالية.
من الأمورِ المُلِحّة بشكلٍ خاص بالنسبة إلى جعجع ليس فقط تهميش “التيار الوطني الحر” بقيادة جبران باسيل، بل أيضًا التصدّي لأيِّ تحدٍّ انتخابي مُحتَمَل من قِبل مرشَّحين يدعمهم الرئيس جوزيف عون، الذي يعتبره جعجع، سرِّيًا، مُنافسًا له.
من ناحية أخرى، حقّقَ المرشَّحون المدعومون من الثُنائي الشيعي “حزب الله” وحركة “أمل” نتائجَ جيدة في الجنوب وفي منطقتي بعلبك والهرمل، لكن ذلك كان مُتَوَقَّعًا. فبعدَ الهزيمة العسكرية الأخيرة ل”حزب الله” على يد إسرائيل، لم يكن من المُرجّح أن يُعارِضَ الناخبون الحزب، لأنَّ ذلك سيُظهِرُ انقساماتٌ من شأنها أن تُفاقِمَ انتكاسات الطائفة الشيعية بسبب الحرب.
وبالمثل، في مناطق أخرى، حقّقَ المُرَشَّحون المدعومون من الطبقة السياسية نتائجَ جيدة. كان هذا أقل وضوحًا لدى الطائفة السنّية، نظرًا لامتناع سعد الحريري، ممثّل الطائفة المُهيمن، عن المشاركة في الانتخابات. ومع ذلك، فقد ساعد تجدُّد الاهتمام السعودي بلبنان، وإن كانَ بشكلٍ محدود، وسقوط حكومة بشار الأسد في سوريا، على إحياءِ طائفةٍ لطالما شعرت بالتهميش خلال سنوات هيمنة “حزب الله”.
ومع ذلك، إذا فُسِّرت الانتخابات إلى حدٍّ كبير من منظورٍ سياسي داخلي من قِبل الأحزاب السياسية الطائفية، فقد تأكدت شكوكُ فحيلي في ما يتعلق بالمنطقة. فبلدٌ مُجَزَّأ، تقوده أحزابٌ سياسية ذات مصالح ذاتية، تُركِّز على مكاسب قصيرة الأجل لضمان الهيمنة الطائفية، ليس بلدًا مُهَيَّأً على النحو الأمثل للتحوّلات الإقليمية.
قد تكون هناك استثناءاتٌ لهذا. وكما أشارت زميلتي مها يحيى من مركز كارنيغي، فإنَّ قرارَ ترامب برَفعِ العقوبات عن سوريا قد تكونُ له تداعياتٌ إيجابية على جماعات الضغط المصرفية في لبنان، التي عرقلت الإصلاحات المالية بشكلٍ منهجي، خوفًا من إجبار البنوك على تحمُّلِ العبء الأكبر من الخسائر الناجمة عن الانهيار المالي في 2019-2020.
اليوم، إذا استُؤنِفَت إعادةُ الإعمار في سوريا، يَتَوَقّعُ القطاع المصرفي اللبناني أن يلعبَ دورًا رئيسًا في هذه العملية. ومع ذلك، لا يمكن أن يحدث هذا إلّا إذا وافق على إعادة الهيكلة، ما يسمح للبنوك بإعادة تعويم نفسها. حتى الآن، كانت هناك مقاومة في القطاع، وذلك لعدمِ وجودِ اتفاقٍ حول مَن -البنوك، الدولة، أو البنك المركزي- سيُغطّي الحصة الأكبر من الخسائر، ولأن إعادةَ الهيكلة قد تقضي على العديد من البنوك.
الحقيقةُ هي أنَّ دولًا عدة تبدو أنها قد فقدت صبرها تجاه لبنان، الذي أحبَطَ على مرِّ السنين العديد من الجهود لإصلاح اقتصاده. إنَّ البلادَ أصبحت مقبرةً للأساليب والنُهُجِ الجديدة، حيث تظلُّ تحت سيطرة “الكارتِلات” السياسية والمالية والتجارية التي تعملُ بلا كللٍ على إسقاطِ معظم الأفكار التي تهدُفُ إلى كسرِ الجمودِ المُنهِك.
ومع ذلك، كانت رسالة زيارة ترامب للمنطقة واضحةً إلى حدٍّ ما. فهو يسعى إلى عالمٍ تسودُ فيه العلاقات الاقتصادية والمصالح الذاتية، ويبدو أيضًا أنه عالَمٌ حيثُ لكلٍّ من الصين وروسيا والولايات المتحدة مناطق نفوذ. إذا كانت هذه هي رؤيته، فسيظلُّ الشرق الأوسط ساحةً للتنافس بين الولايات المتحدة والصين، ما يعني أنَّ دولَ المنطقة ستجني الكثير من المكاسب من خلال تموضعها بين القوى العظمى المتنافسة.
لكن لبنان، الذي كان في السابق بلدًا وسيطًا بامتياز، أصبح بلا أفكار، ويُعاني من وضعٍ جيوسياسي كارثي. لقد تحوَّلت استراتيجية إسرائيل الإقليمية إلى تعزيز أمنها عبر تفتيت جيرانها العرب، والتصرُّف، أو التخطيط للتصرُّف، بدون عقاب داخل أراضيهم. وهذا الأمرُ قد يكون كارثيًا على لبنان.
في ضوءِ ذلك، يجب على لبنان المضي قُدُمًا في حواره مع “حزب الله” لضمان نزع سلاحه. عندها فقط سيتمكّن من تحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي وتطبيع الوضع بما يكفي للتفكير استراتيجيًا في مكانته الإقليمية. من شأنِ هذا أن يُطَمئنَ الدول الخارجية بأنه يتقدّمُ بما يكفي لجذب استثماراتٍ أجنبية حيوية.
ولكن حتى هذا قد لا يكون كافيًا إذا لم يتغلّبُ لبنان على فئويته الطائفية المُعيقة. ما لم يحدث هذا ويَتَّحِدُ اللبنانيون لصياغةِ رؤيةٍ مشتركة للمستقبل، سيبقى البلد مُجرّدَ فكرةٍ ثانوية – مكانًا يستنزفُ شبابه لصالح مجتمعاتٍ أكثر حيوية. كالزهرة اليابسة، سيكون جميلًا وميتًا في آنٍ واحد.
- مايكل يونغ هو مُحرّرٌ كبير في مركز مالكولم كير كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، حيثُ يرأس تحرير مدوّنة “ديوان” التابعة للمركز. وهو كاتب رأي في الشؤون اللبنانية في صحيفة ذا ناشيونال، ومؤلف كتاب “أشباح ساحة الشهداء: رواية شاهد عيان عن كفاح لبنان في الحياة” (دار سايمون وشوستر، 2010)، الذي اختارته صحيفة وول ستريت جورنال كواحد من الكتب العشرة البارزة لعام 2010. يُمكن متابعته عبر منصة (X) على: @BeirutCalling
- كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.