سوريا: الحِفاظُ على سلمِيَّةِ العمليّةِ الانتقالية أصبَحَ أكثرَ تَعقِيدًا

لطالما كان توحيد سوريا مهمّةً شاقة، وكثيرًا ما أظهر الرئيس المؤقت أحمد الشرع براغماتيته منذ توليه السلطة في كانون الأول (ديسمبر) الفائت. لكن القتل العشوائي للمدنيين العلويين على أيدي الجماعات المسلحة المتحالفة مع حكومته قد حطّمَ مصداقيته كباني دولة يعمل لصالح جميع السوريين.

الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع يصافح مظلوم عبدي، قائد “قسد” بعد توقيعهما الإتفاق، 10 آذار (مارس) 2025.

دمشق – فرانسيسكو سيرانو*

تُمثّلُ تداعياتُ أعمالِ العُنفِ الأخيرة في المنطقة الساحلية السورية تهديدًا كبيرًا لعملية الانتقال السياسي في البلاد بعد سقوط الرئيس السابق بشار الأسد في كانون الأول (ديسمبر) الفائت. إنَّ مدى فعالية الحكومة المؤقتة في دمشق الآن في إعادةِ إرساءِ الأمن مع الحدِّ من تصفية الحسابات الطائفية سوف يقطع شوطًا طويلًا نحو تحديد ما إذا كانت إعادةُ تَوحيدِ سوريا سلميًا أمرًا مُمكِنًا بعد عقودٍ من الديكتاتورية والحرب الأهلية الوحشية.

بدأت الحادثة في 6 آذار (مارس) الجاري، عندما نصبت ميليشيات موالية للأسد كمينًا وقتلت 15 عنصرًا من قوات الأمن التابعة للحكومة المؤقتة في مدينة جبلة ومناطق أخرى من محافظة اللاذقية الساحلية. ردّت الحكومة بإرسالِ تعزيزات، بما في ذلك دبابات ودعم جوي، وسرعان ما امتدَّ القتال إلى الساحل والمناطق الجبلية المُحيطة به – المعاقل التقليدية للطائفة العلوية التي شكّلَ أعضاؤها قاعدة الدعم الرئيسة لنظام الأسد. مع اتِّساعِ رقعة القتال، انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو للمذبحة، أظهر أحدها أفرادًا من الجيش السوري الجديد يُلقون براميل متفجّرة من طائرة هليكوبتر.

هذه البراميل المعدنية المملوءة بالمتفجّرات كانت تُستَخدَم بكثرة من قِبل قوات الأسد على الأحياء المدنية خلال الحرب الأهلية. وبسبب فجاجتها وعدم دقّتها، فقد تسبّبت في سقوط آلاف الضحايا المدنيين على مدار 14 عامًا من القتال بين النظام السابق والمعارضة.

إلّا أَّنَّ الصورَ الأكثر بشاعةً التي ظهرت من القتال الساحلي كانت صُوَرَ عمليات القتل الجماعي التي طالت مدنيين، معظمهم من العلويين، على أيدي ميليشياتٍ مسلحة. ففي أماكن مثل اللاذقية وطرطوس وحماة، أُعدِمَت عائلاتٌ بأكملها، غالبًا في منازلها. كما تمَّ حرقُ ونهبُ منازل ومتاجر تابعة للعلويين.

بعد ثلاثة أيام على بدء القتال، أفاد المرصد السوري لحقوق الإنسان عن مقتل ما لا يقل عن 973 مدنيًا في 39 مجزرة وإعدامات فردية، مع أنَّ الأعدادَ مُرَشَّحة للزيادة مع استمرارِ التحقيق في أعمال العنف.

ووفقًا لتقارير إخبارية ونشطاءٍ محلّيين وبعثةِ تقصّي حقائق تابعة للأمم المتحدة، فإنَّ العديد من هذه المجازر ارتكبتها ميليشيات سنّية تعمل تحت مظلّة الحكومة المؤقتة. كما أسفر القتال عن مقتل 231 عنصرًا من قوات الأمن السورية، بالإضافة إلى 250 مسلحًا متحالفًا مع النظام السابق.

بحلول 10 آذار (مارس)، أعلنت السلطات السورية انتهاء العملية العسكرية على الساحل، مُعلنةً استعادة النظام. في اليوم التالي، كان آلاف السوريين من المنطقة لا يزالون يفرّون عبر الحدود إلى لبنان هربًا من العنف الطائفي. وقد وعد أحمد الشرع، الرئيس السوري المؤقت، بمحاسبةِ أيِّ عضوٍ من ائتلافه متورّطٍ في قتل المدنيين. مع ذلك، ليس من الواضح إلى أيِّ مدى سيذهب في معاقبة المسؤولين عن الفظائع الأخيرة.

والأهم من ذلك، أنَّ مذبحةَ المدنيين العلويين، والقصفَ العشوائي للبلدات، ونَهبَ منازل المدنيين، كلُّها تطوُّرات مُثيرة للقلق تُمثّلُ نقطةَ تحوُّلٍ مُحتَمَلة في الانتقال السياسي في البلاد. ولو أنَّ أحداث أوائل آذار (مارس) أدّت إلى صراعٍ واسعِ النطاق واستمرار العنف ضد العلويين وغيرهم من الطوائف، فمن شبه المؤكد أن ذلك كان سيُدمّرُ فُرَصَ الانفتاح السياسي والاجتماعي الذي كان يأمله العديد من السوريين بعد انهيارِ نظام الأسد.

نقطةُ تحوُّلٍ كان من المُمكن تجنُّبها

كان من المفاجئ للكثير من السوريين أنَّ المقاتلين الذين تمَّ دمجهم في الجيش السوري الجديد، والذين رُحِّبَ بهم كمُحرِّرين قبل بضعة أشهر فقط، كانوا مُستَعدّين لاستخدامِ أساليب العنف العشوائي نفسها التي استخدمها النظام السابق. على أقل تقدير، يشير هذا إلى أنَّ سيطرة الشرع على بعضِ العناصر، التي اعتمد عليها للوصول إلى السلطة، محدودة.

وهذا أمرٌ مفهوم من نواحٍ عديدة. وكما صرّح لي الباحث السوري منهل باريش، فإنَّ الجيشَ السوري الآن يتألف أساسًا من مختلف الفصائل المسلحة التي كانت تُشكّل سابقًا معارضة الأسد. ويضيف: “قام الشرع بترقية بعض قادتها ومنحهم رتبًا عسكرية بعد أيام قليلة من وصوله إلى دمشق”، في إشارة إلى دخول الرئيس المؤقت المنتصر إلى العاصمة بعد سقوط الأسد في كانون الأول (ديسمبر).

منذُ أن استولى مقاتلو ميليشيا “هيئة تحرير الشام”، التابعة للشرع، على دمشق في 8 كانون الأول (ديسمبر)، أمضى الرئيس المؤقت وقتًا طويلًا في إقناع السوريين والشخصيات الأجنبية بأنه وجماعته قد تخلّصا من ماضيهما الإسلامي العنيف، وأنَّ قيادته ومناوراته التكتيكية كافية لفتح صفحة جديدة في سوريا. لكن كلا الافتراضَين أصبحا الآن مَوضِعَ شك.

منذ الاشتباكات التي اندلعت في وقتٍ سابقٍ من هذا الشهر، أصبح من المعتاد سماع السوريين والمراقبين الخارجيين يُرددون أنَّ العنف الذي اجتاح المحافظات الساحلية السورية كان حتميًا. إنَّ وحشية ديكتاتورية الأسد، التي أعقبها انهيارها شبه الدموي في كانون الأول (ديسمبر) الماضي، تركت مجالًا لتصفية الحسابات. لكنَّ القولَ بأنَّ مذبحة المدنيين العُزّل كانت أمرًا لا مفرَّ منه، يُغفل العديد من الأخطاء التي ارتكبها حكّام سوريا الجدد خلال فترة حكمهم القصيرة.

في بعضِ النواحي، كانت المواجهة المسلّحة مع أنصار النظام السابق مسألة وقت فقط. في عهد الأسد، كان ما يُقدر بنحو 80% من المناصب العليا في الجيش وقوات الأمن، بالإضافة إلى معظم المناصب في أجهزة المخابرات، من العلويين. ولم يحصل معظم هؤلاء المسؤولين السابقين في النظام على مقعد على متن الطائرة التي نقلت الأسد وعائلته وحاشيته إلى منفاه الآمن في موسكو مع دخول قوات المتمرّدين إلى دمشق.

تورّطت نسبةٌ كبيرة من أعضاء جهاز مخابرات الأسد، تحديدًا، في عمليات قمعٍ وتعذيبٍ وقتلٍ واسعةِ النطاق ارتُكِبَت ضد سوريين خلال الحرب الأهلية، بل وقبلها أيضًا. وقال لي باريش: “لم يسعَ الكثير منهم إلى اتفاقيات مصالحة، على عكس أفراد الجيش، الذين كانوا أكثر ميلًا إلى ذلك”.

والنتيجة، تُرِكَ الكثيرون من عناصر النظام السابق ليتدبّروا أمورهم بأنفسهم. أما مَن لم يهرب إلى لبنان أو دبي، فقد لجأ إلى المناطق ذات الأغلبية العلوية في طرطوس واللاذقية، وكذلك في ريف حمص. يقول باريش: “شكّلَ هذا ضغطًا هائلًا على قوات الأمن الحكومية. وأدى إلى كمائن ليلية تستهدف قوات الأمن، إلى جانب هجمات متفرّقة على نقاط التفتيش، والتي أصبحت حدثًا شبه يومي قبل أحداث 6 آذار (مارس)، وأسفرت عن سقوط ضحايا متكررة”.

كان من المتوقَّع أن تُقاتلَ فلولُ النظام السابق، المتورّطة بشدة في قتل سوريين أبرياء لعقود، ضد السلطات الجديدة. لكن أن يؤدي هذا القتال إلى قتل مدنيين علويين على نطاقٍ واسع على أيدي بعض المقاتلين الموالين للحكومة الذين ساعدوا على إسقاط نظام الأسد، كان أمرًا فظيعًا وكان من الممكن تجنّبه. لقد عَرّضَ هذا الأمر الآن العملية الانتقالية الناشئة للخطر، وقضى، على الأقل بين بعض شرائح السكان، على الكثير من حسن النية الذي اكتسبه هؤلاء المقاتلون أنفسهم بإسقاط النظام الديكتاتوري السابق.

منذ تولّيه منصب الحاكم الفعلي لسوريا، أمضى الشرع وقتًا طويلًا في مغازلة المجتمع الدولي. وكانت هذه الجهود الرامية إلى ترسيخ شرعيته الدولية بالغة الأهمية لنجاح المرحلة الانتقالية السورية. فعلى سبيل المثال، يعتمد رفع العقوبات، وهو أمرٌ لا يزال بالغ الأهمية لإعادة إحياء الاقتصاد، على الدعم الدولي.

إلّا أنَّ الأزمة الحالية تُبرِزُ مدى قلة اهتمام الشرع بتأمين الدعم الداخلي. ففي مناسباتٍ عديدة خلال الأشهر الثلاثة الماضية، أضاعَ الرئيس السوري المؤقت فُرَصًا كبيرة لاستقطابِ شرائح أوسع من المجتمع. فعلى سبيل المثال، لم يُبدِ ريادةً في معالجة القضية الملحّة المتمثّلة في مئات الآلاف من السوريين الذين اختفوا على أيدي النظام السابق، ولم يلتقِ بالعائلات الثكلى إلّا بعد أسابيع من الاحتجاجات الشعبية.

ونظرًا للخطر الواضح المتمثّل في تصاعُدِ المرحلة الانتقالية إلى صراع طائفي متجدّد، وخصوصًا ضد الطوائف العلوية التي شكّلت العمود الفقري لقاعدة دعم النظام السابق، كان ينبغي على الشرع أن يُولي اهتمامًا أكبر لملف العدالة والمساءلة. ومن بين تصريحاته النادرة حول حماية السوريين وتجنُّب عمليات القتل الانتقامية، كان ينبغي عليه أن يؤكد التزامه بحماية أولئك الذين لم تتلطّخ أيديهم بالدماء في الطائفة العلوية وغيرها من الطوائف.

كان بإمكانه بسهولة أن يشرحَ للسوريين ما كانت تفعله قواته الأمنية للقبض على مسلّحين من أنصار النظام السابق، وأن يُميّزَ بوضوح بينهم وبين عموم الطائفة العلوية. وأخيرًا، كان عليه أن يشرحَ كيف تسعى حكومته إلى إنشاءِ آلياتٍ قضائية لضمان محاسبتهم ومحاكمتهم.

ألقى الشرع باللوم على جهاتٍ خارجية في التصعيد العسكري للقوات الموالية للأسد ضد قوات الأمن السورية. وحتى لو ثبتَ في النهاية أنَّ حلفاءَ الأسد، مثل إيران أو روسيا أو “حزب الله”، قد قدّموا دعمًا ماديًا لهجمات 6 آذار (مارس) ضد قوات الأمن، كانَ على الرئيس السوري المؤقت بذل المزيد من الجهود لتجنُّب الوقوع في أيِّ فخاخٍ نصبتها الجهات الخارجية التي خسرت المعركة مع إزاحة الأسد.

من غير المرجّح أن تكونَ هذه هي المرة الأخيرة التي تشنُّ فيها جماعاتٌ مسلّحة مرتبطة بالنظام السابق هجومًا على قوات الحكومة الجديدة. ومع ذلك، فإنَّ أيَّ قتالٍ مستقبلي في المناطق العلوية الساحلية في سوريا لن يكونَ سوى أحد التحدّيات الأمنية قصيرة المدى التي يواجهها الشرع.

التحدّيات المباشرة

يبقى أن نرى، على وجه الخصوص، كيفَ ستؤثّر أحداث الساحل في محاولات توحيد الميليشيات السورية المختلفة تحت جيش واحد، وخصوصًا تلك الموجودة في المحافظات الجنوبية والمناطق ذات الأغلبية الكردية في الشمال الشرقي.

لقد أُحرِزَ بعض التقدُّم. في العاشر من آذار (مارس)، وفي خضمّ الأزمة المتصاعدة التي تُهدّد بدفع البلاد إلى صراعٍ جديد، أعلنت الحكومة المؤقتة توقيعها اتفاقًا مع قوات سوريا الديموقراطية (قسد) ذات القيادة الكردية، لدمج مقاتليها في الجيش السوري الجديد وقادتها في المؤسّسات الحكومية.

استغلّت قوات سوريا الديموقراطية الانتفاضة الشعبية التي اندلعت ضد الأسد في العام 2011 لإنشاء دويلة كردية في شمال شرق سوريا. ونظرًا لسياسات نظام الأسد الراسخة التي استهدفت الهوية الكردية خلال حكمه الذي استمر 53 عامًا في عهد بشّار ووالده حافظ الأسد، كانت “قسد”، المدعومة من الولايات المتحدة، متردّدة في التخلي عن سيطرتها على الجُزء الشمالي الشرقي من سوريا والاندماج مع السلطات الجديدة في دمشق.

لكنَّ التغيّرات الإقليمية شجّعت “قسد” على المضي قُدُمًا نحو اتفاق، بما في ذلك القرار الأخير الذي اتخذه حليفها التركي “حزب العمال الكردستاني” بإعلان وقف إطلاق النار في قتاله ضد الحكومة التركية، واحتمال انسحاب القوات الأميركية من سوريا في عهد الرئيس دونالد ترامب.

بموجب الاتفاق، التزمت قوات سوريا الديموقراطية بدمج جميع مؤسساتها الحكومية في شمال شرق سوريا مع مؤسسات السلطات الجديدة في دمشق. بعد سنوات من سيطرة “قسد” شبه المستقلة، ستخضع البنية التحتية الحيوية للمنطقة -كالمطارات والمعابر الحدودية، وربما الأهم من ذلك آبار النفط- لسلطة الحكومة المركزية السورية.

يتضمّن الاتفاق إعلانًا بأنَّ الأكراد جُزءٌ لا يتجزّأ من سوريا، ويحقُّ لهم التمتّع بالحقوق الدستورية وحقوق المواطنة نفسها التي يتمتع بها جميع السوريين الآخرين.

والأهم من ذلك، في ما يتعلق بالوضع الأمني ​​الراهن، أنَّ الاتفاقَ أعلنَ وقف إطلاق نار وطني، مما أنعش الأمل في إنهاء القتال بين قوات سوريا الديموقراطية والجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا، والذي استمرَّ بل وتصاعد منذ إطاحة الأسد. علاوة على ذلك، فإنَّ نشر قوات سوريا الديموقراطية في المناطق الساحلية من سوريا لتعزيز وجود الجيش السوري هناك من شأنه أن يحسّن قدرة الحكومة على الحفاظ على الأمن.

وقد أعادت صورة الشرع وهو يصافح مظلوم عبدي، القائد العام ل”قسد”، إشعال الآمال في تجنُّب المزيد من إراقة الدماء. لكن الحفاظ على دعم قوات سوريا الديموقراطية والجماعات الأخرى سيعتمد على كيفية تطوُّر الوضع السياسي في سوريا. في 13 آذار (مارس)، أصدرت السلطات إعلانًا دستوريًا جديدًا من المقرر أن يرسم فترة انتقالية مدتها خمس سنوات ريثما تتم كتابة دستور نهائي جديد.

ويتميّزُ الإعلان الدستوري بغموضٍ في تفاصيله الرئيسة. من بين أمورٍ أخرى، يمنح هذا الدستور الرئيسَ المؤقت سلطةً تنفيذيةً خلال المرحلة الانتقالية، مع حمايته من عزله من قِبَل المجلس التشريعي. كما ينصّ على أن يكونَ رئيُ سوريا مسلمًا، وأن يكونَ الفقه الإسلامي المصدر الرئيس للتشريع.

تُمهّد الوثيقة الدستورية المؤقتة الطريق لإنشاءِ لجنة عدالة انتقالية للتحقيق في الجرائم التي ارتكبها النظام السابق. ومع ذلك، لا يبدو أنها تُشير إلى أيِّ تحقيقاتٍ ستُجرى بشأن الجرائم التي ارتكبتها جماعاتٌ مسلّحة أخرى خلال الحرب الأهلية.

لقي الإعلانُ استقبالًا فاترًا من العديد من السوريين. والجدير بالذكر أنَّ الإدارة الذاتية الكردية التي تحكم شمال شرق البلاد قالت إن الوثيقة تتعارَضُ مع تنوُّع سوريا وتُقوّض “جهود تحقيق ديموقراطية حقيقية”.

إنَّ ضمانَ موافقة جميع شرائح المجتمع يتطلَّبُ من الشرع والحكومة المؤقتة إشراك طيف أوسع من الجهات الفاعلة والآراء للمضي قدمًا. ورُغمَ الحديثِ المتكرّر عن الشمولية والمشاركة، اعتمد الشرع وفريقه بشكلٍ شبه حصري على حلفائهما المُقرَّبين لشغل المناصب الحكومية. وقد استُقدِمَ العديدُ منهم من إدلب، المحافظة الواقعة شمال غرب سوريا والتي تحكمها “هيئة تحرير الشام” منذ سنوات.

سواءً عن قصدٍ أو لقلّة خبرتهم، يُكافح حكام البلاد الجدد للانتقال من كونهم قوة قتالية بالأساس وتحكم أيضًا إلى سلطة حاكمة توفّرُ الأمن للجميع. إذا لم يقم الشرع بزيادة عدد التعيينات الحكومية على أساس الجدارة وليس الولاء، فإنَّ ردود الفعل العنيفة من جانب أولئك الذين يشعرون بالإقصاء من سوريا الجديدة ستكون أمرًا لا مفرَّ منه.

إسرائيل والحدود الجنوبية

قد تتفاقم الخلافات بين السلطات المركزية في دمشق وأيٍّ من فصائل البلاد بسهولة، ما قد يؤدّي إلى تجدُّد القتال. ومما يزيد الوضع تعقيدًا، أنَّ كلَّ هذه المخاطر تأتي في وقتٍ تتزايدُ الضغوط من إسرائيل المجاورة.

حتى قبل سقوط نظام الأسد، قصفت القوات الإسرائيلية سوريا بمئات الغارات الجوية والمدفعية على مدار العامين 2023 و2024، مستهدفةً بشكل رئيس المقاتلين المدعومين من إيران والمتحالفين مع الأسد.

بمجرّد سقوط النظام السوري في 8 كانون الأول (ديسمبر)، تقدمت القوات الإسرائيلية من مواقعها في مرتفعات الجولان المحتلة للاستيلاء على المزيد من الأراضي السورية، في ما يُسمّى بالمنطقة العازلة. بعد ساعات قليلة من مغادرة الأسد البلاد متّجهًا إلى موسكو، قصفت الطائرات الإسرائيلية مواقع عسكرية في جميع أنحاء البلاد.

ومنذ ذلك الحين، لم يهدأ الضغط على السلطات السورية الجديدة. تُشَنُّ الغارات الجوية كل بضعة أيام، ويُسمَعُ صوت الطائرات الحربية والمَسيَّرة الإسرائيلية وهي تحلق في سماء دمشق والمناطق الجنوبية من البلاد. في شباط (فبراير)، حذّر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من وجود قوات سورية جنوب دمشق. ولم تُخاطر السلطات السورية، فقد نقلت بعض الدبابات والمعدات الثقيلة الأخرى بعيدًا من المحافظات الجنوبية للبلاد حفاظًا عليها.

تفتقر سوريا إلى أيِّ قدرة عسكرية تُشكّل تهديدًا جدّيًا لإسرائيل. وقد صرّح الشرع مرارًا وتكرارًا بأنَّ الحكومة المؤقتة لا تسعى إلى قتالٍ مع جارتها.

في الواقع، من خلال المبالغة في التهديد الأمني ​​ومواصلة قصف الأراضي السورية، تُفاقم إسرائيل من تقويض فرص انتقال سلمي بعد الأسد.

من ناحية أخرى، يبدو أن إسرائيل عازمة على منع أي نوع من التوحيد في سوريا. فإلى جانب نهجها العسكري تجاه الحكومة المؤقتة الجديدة في دمشق، تحاول أيضًا إقامة علاقات وثيقة مع السكان الدروز في سوريا، الذين يعيشون بشكل رئيس في محافظة السويداء الجنوبية.

بعد اندلاع مناوشة بين مقاتلين دروز وقوات الأمن الحكومية في ضاحية جرمانا بدمشق في أوائل أذار (مارس)، قال نتنياهو إن إسرائيل مستعدة لحماية الطائفة الدرزية والأقليات الأخرى من حكام سوريا الجدد. كما أرسلت مساعدات إلى السكان الدروز في السويداء.

ووفقًا للتقارير، كان القتال في جرمانا مسألة تتعلق بالقانون والنظام، وليس صراعًا طائفيًا. ومع ذلك، يبدو أنَّ السلطات الإسرائيلية حريصة على التدخل في سوريا بحجّة حماية الأقليات. ومن المرجح أن تستمرَّ الجهود الإسرائيلية لاستمالة المجتمعَين الدرزي والكردي وإثارة الخلافات بينهما وبين السلطات في دمشق، الأمر الذي قد يؤدّي إلى زعزعة استقرار البلاد بشكلٍ أكبر خلال الأشهر المقبلة.

للإنصاف، لطالما كان توحيد سوريا مهمّةً شاقة، وكثيرًا ما أظهر الشرع براغماتيته منذ توليه السلطة في كانون الأول (ديسمبر). لكن القتل العشوائي للمدنيين العلويين على أيدي الجماعات المسلحة المتحالفة مع حكومته قد حطّمَ مصداقيته كباني دولة يعمل لصالح جميع السوريين.

المُساءلة الحقيقية تعني أن يدعم الشرع أقواله بالأفعال. ولكن بدلًا من ملاحقة جميع الجناة وقادة الميليشيات المسؤولين عن المجازر على الساحل، يبدو من الأرجح أنه سيتجاهل العدالة والمساءلة الحقيقيتين للحفاظ على قاعدة دعمه لدى بعض الميليشيات السنية التي أوصلته إلى السلطة.

في 15 آذار (مارس)، بعد أسبوع واحد فقط على أعمال العنف، احتفل السوريون بانطلاق المظاهرات السلمية التي سرعان ما تحوّلت، بعد قمعها العنيف من قبل النظام السابق، إلى حربٍ أهلية، ثم إلى ثورة قبل 14 عامًا. وفي دمشق، ألقت مروحيات حكومية ورودًا رمزية على السوريين المحتفلين في الشوارع. وقد هدفت هذه البادرة إلى إظهار أنَّ طبيعة الدولة السورية الناشئة تختلف جذريًا عن تلك التي أُطيحت في 8 كانون الأول (ديسمبر). ومع ذلك، فبعد أحداث الساحل مباشرةً، سيحتاج الكثير من السوريين إلى أكثر من مجرد وردة ليصدّقوا ذلك.

Exit mobile version