إذا كان الرئيس دونالد ترامب ملتزمًا بأن يرى إيران خالية من الأسلحة النووية، فإنَّ أفضلَ رهانٍ له هو دَفعُ الإيرانيين والإسرائيليين إلى وقفِ الحرب وإعادة طهران إلى طاولة المفاوضات. بدون اتفاق، يبدو أنَّ الحكومة الإيرانية المرعوبة والقلقة ستُسارِع إلى امتلاك الأسلحة النووية كلّما سمحت الظروف.
علي واعظ*
في 13 حزيران (يونيو) الجاري، شنّت إسرائيل سلسلةً من الغارات الجوية والعمليات السرّية ضد مواقع نووية إيرانية ومسؤولين عسكريين. أُطلِقَ على هذه الحملة المُتَطَوِّرة ومُتَعدِّدة الأبعاد اسم “عملية الأسد الصاعد”، وجاءت بَعدَ أيامٍ من التكهُّناتِ حولَ هجومٍ وشيك. حتى الآن، ألحقت الهجمات أضرارًا بمنشأتي نطنز وأصفهان النوويتين الإيرانيتين، وأودَت بحياة عدد من العلماء الإيرانيين. كما أودت بحياة عشرات المدنيين وجرحت العشرات، وهدمت مبانٍ سكنية، وفجّرت أجزاءً من البُنية التحتية للطاقة في البلاد. في هذه الأثناء، وجد الإسرائيليون أنفسهم يهرعون إلى الملاجئ مع تَعرُّضِ مدنهم لهجوم المُسَيَّرات والصواريخ الإيرانية.
في الوقت الحالي، لا يُوجَدُ ما يُشيرُ إلى أنَّ القتالَ سيتوقّف قريبًا. لقد أشارت كلٌّ من إيران وإسرائيل إلى استعدادهما لمواصلةِ القصفِ المُتبادَل لأسابيع. حتى أنَّ وزيرَ الدفاع الإسرائيلي وَعَدَ بأنَّ “طهران ستحترق” إذا لم تتوقّف هجماتها الصاروخية. في غضون ذلك، لم تَبذُل الولايات المتحدة جُهدًا يُذكَر لوقف إراقة الدماء. بدلًا من ذلك، أرسل الرئيس الأميركي دونالد ترامب إشاراتٍ مُتضاربة حول رغبته في وقف القتال. نشرت إدارته أصولًا عسكرية في المنطقة، ووفقًا لتقارير إخبارية متعددة، تساعد القوات الأميركية إسرائيل على إسقاط الطائرات المُسَيَّرة والصواريخ الإيرانية.
ورُغمَ مراوغاته، أكّدَ ترامب أنه لا يزال يرغبُ في التوصُّلِ إلى اتفاقٍ نووي مع إيران، وتركت طهران الباب مفتوحًا للمحادثات – شريطة أن تُوقفَ إسرائيل تصعيدها العسكري. لذا، قد يكون لدى الإدارة الأميركية مجالٌ للتَوَصُّل إلى اتفاق.
إذا أرادَ ترامب تجنُّبَ حربٍ أميركية مع إيران، فعليه انتهاز الفرصة. حتى الآن، ألحقت إسرائيل أضرارًا جسيمة، وإن لم تكن كاملة، بالبرنامج النووي الإيراني. وحتى لو استمرَّ القتال، فمن غير المرجح أن تنجحَ الدولة العبرية في القضاء عليه بالكامل. فعناصرٌ من البرنامج النووي الإيراني مدفونةٌ عميقًا تحت الأرض، بما في ذلك موقع فوردو للتخصيب، وقد يكونُ لدى قيادة البلاد الآن حافزٌ أكبر من أيِّ وقتٍ مضى لبناءِ رادعٍ نهائي. هذا يعني أنه إذا توقف القتال بدون اتفاق، فقد تسعى طهران جاهدةً إلى الحصول على سلاحٍ نووي لا يُمكِنُ إلّا للقنابل الأميركية الثقيلة الخارقة للتحصينات أن تؤخّره بشكلٍ جدي، على الأقل في المدى القريب. وحتى في هذه الحالة، لضمانِ تقليصِ التهديد بشكلٍ حقيقي، ستحتاج الولايات المتحدة إما إلى وجودٍ ميداني أو جولاتٍ متواصلة من الضربات العسكرية تُنَفَّذُ بمعرفةٍ شاملة بالعمليات النووية الإيرانية.
تُمثّلُ التسوية الديبلوماسية أفضل وأكثر الطُرُق استدامةً لترامب لتجنُّب إيران نووية وتورُّطٍ عسكري طويل الأمد. في الواقع، قد يكون هذا هو السبيل الوحيد لتجنُّبِ نتيجةٍ غير مقبولة.
إدارة الأزمات
منذ عودته إلى منصبه في كانون الثاني (يناير) 2025، أشارَ ترامب إلى رغبته في التوصُّلِ إلى اتفاقٍ مع إيران بشأنِ برنامجها النووي. إلّا أنَّ إسرائيل أوضحت تفضيلها للحلِّ العسكري، ما لم توقف إيران تمامًا البرنامج. كما أوضحت الدولة العبرية عن اعتقادها بأنَّ الوقت قد حانَ للتحرُّك. إنَّ قدرات طهران الدفاعية لم تتعافَ بَعدَ سلسلةٍ من الضربات الدقيقة التي نفّذتها إسرائيل في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي. كما لا يزال وكلاء وأذرع إيران في المنطقة، بمن فيهم “حزب الله”، في حالةِ ضعفٍ بعد أشهرٍ من الهجمات الإسرائيلية. وهكذا، رأت الحكومة الإسرائيلية فرصةً ذهبية لإضعاف عدوّتها اللدودة.
الحملة الإسرائيلية الحالية ضد الجمهورية الإسلامية هي أوسع نطاقًا بكثيرٍ من سابقاتها. لقد استهدفت حوالي 200 طائرة إسرائيلية نحو 100 موقع، بما في ذلك منشآت نووية وقواعد عسكرية، في الموجة الأولى من الضربات في الأسبوع الفائت. استهدفت عملياتٌ سرّية ل”الموساد” قادةً إيرانيين، ما أسفر عن مقتل شخصيات بارزة في الحرس الثوري الإسلامي والجيش وعلماء نوويين بارزين. ومع تصاعُدِ حدّةِ الاشتباكات بين البلدين، ورَدِّ إيران بالطائرات المُسَيَّرة والصواريخ، وَسّعَ كلا الجانبين نطاقَ أهدافهما.
ونظرًا لاتساع نطاق الهجوم الإسرائيلي، من المرجح أنَّ القادة الإيرانيين خلصوا إلى أنَّ إسرائيل لا تريد فقط القضاء على برنامجهم النووي، بل أيضًا على نظامهم نفسه. ورُغمَ أنَّ إيران تفتقرُ إلى قدراتِ عدوّتها -فمعلوماتها الاستخبارية لا تضاهي إسرائيل، وقوتها الجوية معدومة- إلّا أنَّ طهران شعرت أنه لا خيارَ أمامها سوى الردِّ بأقصى قوّة مُمكنة. وحتى الآن، على الأقل في الأيام الأولى، اقتصر هذا الصراع إلى حدٍّ كبير على صراعٍ ثُنائي. لكن قد تختارُ إيران توسيع تكاليف ضرباتها خارجيًا -كضربِ القواعد الأميركية في المنطقة، وضرب البنية التحتية للطاقة في الخليج، واستهداف ممرّات الشحن في مضيق هرمز، على سبيل المثال- ما قد يُغرقُ المنطقة في حالة من الاضطراب والتوتر. ومن خلال القيام بذلك، قد يأمل المسؤولون الإيرانيون في إقناع واشنطن بالضغط على إسرائيل لردعها ووقفها.
ولكن إذا اتسع نطاق الحرب، فقد تَجِدُ إيران والولايات المتحدة نفسيهما في مواجهةٍ مباشرة، خصوصًاً إذا تعرّضت الأصول والمصالح الأميركية للقصف. وقد حذّرَ المسؤولون الأميركيون، في تصريحاتٍ متكررة، طهران من مثل هذه الهجمات، خشية أن “تنزل عليكم القوات الأميركية، على حد تعبير ترامب، بمستوياتٍ غير مسبوقة”. وإذا أدت الهجمات الإيرانية أو هجمات شركاء ووكلاء إيران من غير الدول إلى خسائر بشرية أميركية، فإنَّ الضغطَ على الرئيس الأميركي للتحرُّك بحزمٍ ودخولِ الحرب سيزداد بشكلٍ كبير.
حتى لو تجنّبت الولايات المتحدة القتال في هذا الصراع، ففي غيابِ اتفاق، فإنها تُخاطِرُ بالانجراف إلى صراعٍ مستقبلي. وقد حققت العمليات العسكرية الإسرائيلية خلال العام الماضي نجاحات ضد “حزب الله” وضد إيران نفسها، ما أدّى إلى إضعافِ العديد من الدفاعات الجوية لأعدائها. مع ذلك، يُشيرُ معظمُ التقديرات إلى أنَّ إسرائيل لا تستطيعُ إبطاءَ البرنامج النووي الإيراني إلّا لبضعة أشهر، أو سنة في أحسن الأحوال. إنَّ الأمرَ يَتَطَلَّبُ قوة عسكرية أميركية مُكثّفة لتدمير جُزءٍ كبير من قدرة طهران على صُنعِ سلاحٍ نووي. واعتمادًا على كيفية هَيكَلة إيران لبرنامجها، فإنَّ إيقافَ القنبلة النووية قد لا يتطلّبُ أقل من إسقاط الجمهورية الإسلامية. لهذا السبب، يُطلِقُ المسؤولون الإسرائيليون دعواتٍ أكثر صراحةً لتغيير النظام. مع ذلك، لم يُعِروا اهتمامًا يُذكَر لما قد يحلُّ محلّ النظام الحالي. في غيابِ بديلٍ فعّال ومُوَحَّد ومنظَّم داخل إيران أو خارجها، قد يُدخل سقوط الجمهورية الإسلامية البلاد في فترةٍ من الصراع المدني، أو يؤدي إلى ديكتاتوريةٍ عسكرية مُصَمِّمة على تحقيقِ الردع النووي.
بالنسبة إلى رئيسٍ أميركي سعى إلى ترسيخِ مكانته كصانعِ سلام لا مُحارب، فإنَّ الوضعَ الحالي يُنذِرُ بخطرٍ داهم. إنَّ الكثيرين من ناخبي ترامب يُعارضون تجديد التدخُّل العسكري الأميركي في الشرق الأوسط. كما إنَّ أيَّ حربٍ واسعة النطاق ستؤدّي إلى ارتفاعٍ حاد في أسعار النفط، مما يُثقِلُ كاهلَ المستهلكين الأميركيين الذين يُعانون من التضخم. في الواقع، أسعار النفط آخذة في الارتفاع بالفعل. وبالتالي، سيستفيد ترامب إذا توقّف القتال، وسيُعاني إذا توسَّع.
فنُّ إبرامِ الصفقات
يبدو أنَّ ترامب يأملُ حاليًا أن يُجبِرَ الضررُ الاقتصادي والعسكري المتزايد الذي يلحق بالجمهورية الإسلامية حكومةَ طهران على الموافقة على تفكيك برنامجها النووي. لكن من غير المرجح أن يلقى عَرضُ “الكل أو لا شيء” من الولايات المتحدة صدى لدى نظامٍ رفضَ مثل هذه الشروط لأكثر من عقدين – بما في ذلك خمس جولات من المفاوضات مع إدارة ترامب. الشيءُ الوحيد الذي يراه القادة الإيرانيون أكثر خطورةً على بقائهم من المعاناة التي تُسبّبها القنابل الإسرائيلية هو الاستسلامُ للشروط الأميركية. بدلاً من ذلك، من المرجح أن يدفعَ الهجومُ الحالي إيران إلى مواصلة الردّ بالعدوان حتى تتمكّن من إيجادِ مخرجٍ مقبولٍ ولو بشكلٍ طفيف.
ولتجنُّبِ أسوَإِ السيناريوهات، سيحتاجُ ترامب إلى اتِّباعِ نهجٍ مختلف. عليه أوّلًا إقناع إيران بأنه ليس مجرّد واجهة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالضغط على إسرائيل لوقف القتال. ولتحقيق ذلك، يمكنه التهديد بتعليق مساعدات الأسلحة لإسرائيل. هذا هو أهمُّ مصدرِ نفوذٍ تمتلكه واشنطن؛ إذ سيكون من الصعب للغاية على إسرائيل شنّ حملات عسكرية بدونه. وقد تردّدَ رؤساءٌ أميركيون سابقون، بمن فيهم جو بايدن، في استخدامه. (رفض بايدن استخدام مثل هذه التهديدات للضغط على إسرائيل للسماح بدخول المزيد من المساعدات الإنسانية إلى غزة). لكن الآن، قد تكون أرواح الأميركيين وإرث ترامب على المحك. قد يختلفُ الرئيس الأميركي الحالي عن سلفه إذا قرّرَ أنَّ مصالحَ الولايات المتحدة تتطلّبُ احتواء الأزمة المتفاقمة بدلًا من تأجيجها.
سيحتاج ترامب أيضًا إلى استمالة إيران. فطهران، التي تتفوّقُ عليها إسرائيل تسليحًا، والتي تُعاني، على الأقل في الوقت الحالي، من تراجُع نفوذها النووي، ربما تكون مستعدة للعودة إلى طاولة المفاوضات لإنقاذ نفسها. والأهم من ذلك، أنها بحاجة إلى حفظ ماء الوجه. ينبغي على البيت الأبيض تحذير طهران من أنَّ أيَّ تصعيدٍ إضافي قد يؤدي إلى خسائر بشرية أميركية ويجرُّ الولايات المتحدة إلى الصراع. ومع ذلك، ينبغي عليه أيضًا أن يعرض على إيران اتفاقًا نوويًا معقولًا يتضمّن تخفيفًا كبيرًا ومُستدامًا للعقوبات. يمكن لترامب، على سبيل المثال، أن يَعِدَ برفعِ العقوبات الأميركية المتعلّقة بالبرنامج النووي وإنهاء الحظر التجاري الأميركي الأساسي إذا أدرجت إيران برنامجها لتخصيب اليورانيوم في اتحادٍ مُتعدِّد الجنسيات مع المملكة العربية السعودية لهذا الغرض – وهو ما أعربت طهران عن استعدادها للقيام به قبل الهجمات الإسرائيلية. سيُوفّرُ هذا الاتحاد الوقود للمفاعلات النووية في جميع أنحاء المنطقة، بينما يحرم إيران من المواد الانشطارية التي يمكن أن تستخدمها في صنع سلاح.
هناكَ سابقةٌ لهذا النوع من الضغط الأميركي. ففي العام 1982، ضغط الرئيس الأميركي آنذاك رونالد ريغان على إسرائيل لإنهاء قصفها لبيروت. وفي العام 1988، تدخّلَ في الحرب الإيرانية-العراقية، ولعب دورًا أساسيًا في إقناع طهران بقبول وقف إطلاق النار. لن يكونَ هذا المسارُ سهلًا على ترامب. سيتطلّبُ ذلك من الرئيس الالتزامَ بديبلوماسيةٍ صعبة، بينما يواجه معارضة شرسة في واشنطن من السياسيين وجماعات المصالح الذين يرون في حملةِ إسرائيل عقابًا متأخّرًا طال انتظاره لأحدِ ألدِّ خصومِ الولايات المتحدة.
ولكن، إذا كان ترامب ملتزمًا بأن يرى إيران خالية من الأسلحة النووية، فإنَّ أفضلَ رهانٍ له هو دَفعُ الإيرانيين والإسرائيليين إلى وقفِ الحرب وإعادة طهران إلى طاولة المفاوضات. بدون اتفاق، يبدو أنَّ حكومة الجمهورية الإسلامية المرعوبة والقلقة ستُسارع إلى امتلاك الأسلحة النووية كلّما سمحت الظروف. عندها، سيتعيّنُ على ترامب إما قبول إيران نووية أو الانضمام إلى هجومٍ إسرائيلي آخر على البلاد، مُخاطرًا بالنوع نفسه من التورُّط الكارثي في الشرق الأوسط الذي وَعَدَ بتجنّبه.
- علي واعظ هو مدير مشروع إيران في مجموعة الأزمات الدولية. وهو أستاذٌ مساعد في جامعة جورجتاون في واشنطن. يمكن متابعته عبر منصة “إكس” على: @AliVaez.