صُنع السلام في سوريا: العَوائق والفُرص

لماذا لم تنجح كل الوساطات حتى الآن في إيجاد حلّ للصراع في سوريا؟ وهل هناك حلٌّ واقعي لهذه الأزمة؟ وما هي العوائق التي تقف في وجه إيجاد الحلّ المناسب لهذه المشكلة التي باتت تهدّد السلام في العالم؟ ماغنوم لوندغرين، الباحث في حلّ النزاعات والحروب وأداء المنظمات الدولية، وأستاذ العلوم السياسية في جامعة ستوكهولم السويدية الذي زار سوريا مرات عدة، بالإضافة إلى المشرق العربي، يحاول الإجابة بإسهاب عن هذه الأسئلة في التقرير التالي:

الرئيس بشار الأسد: يبدو أنه سيبقى إلى حين...
الرئيس بشار الأسد: يبدو أنه سيبقى إلى حين…

ستوكهولم – ماغنوس لوندغرين*

كواحدة من أسوأ الأزمات السياسية والإنسانية منذ الحرب العالمية الثانية، فقد تسبّبت الحرب الأهلية في سوريا بأكثر من 200،000 قتيل، ونزوح نصف سكان البلاد، وفعلياً إعادة رسم الخريطة السكانية لبلاد الشام وبعض جيرانها (لبنان والأردن)، وربما لأجيال مقبلة. ومن خلال وقوعها على مفترق طرق المنافسات الإقليمية، حيث شابها التعنّت المتبادل، وحدّدها تصلّب وتشدد الطائفية، قدّمت الأزمة السورية إلى الوسطاء المحتملين إختباراً صعباً، وُصِف مراراً بأنه “مهمة مستحيلة”. إن وساطات جامعة الدول العربية والأمم المتحدة على مدى السنوات الماضية قد فشلت في إيجاد أرضية مشتركة بين النظام السوري والقوى المعارضة له. وفيما ندخل العام 2015، بدأت مبادرات وساطة جديدة من قبل الأمم المتحدة وروسيا، ولكن السؤال هو: هل ستستطيع هذه المحاولات عبور الحواجز التي أخرجت سابقاتها عن مسارها؟ أو هل أن صعود نجم تنظيم “الدولة الإسلامية” قد يحوِّل المعادلة السياسية بالنسبة إلى الإحتمالات الجديدة التي يُمكِن أن تَظهر؟

محاولات متتابعة من الوساطة

أول جهد جدّي لصنع السلام في سوريا أقدمت عليه جامعة الدول العربية، المنظمة الإقليمية الأكثر أهمية في الشرق الأوسط. بعد بضعة أشهر على إندلاع العنف لأول مرة في ربيع 2011، أرسلت الجامعة أمينها العام، نبيل العربي، من أجل السعي إلى تخفيف التصعيد. وفي حين أن بشار الأسد قد إستقبل العربي، فقد إرتاب النظام بوساطته، بحجة أن الجامعة كانت تحت هيمنة قطر والمملكة العربية السعودية، اللتين تدعمان نشطاء تغيير النظام في دمشق. بدلاً من ذلك، جمّد النظام الوضع، ساعياً إلى كسب الوقت لهندسة الهزيمة العسكرية للإنتفاضة. ولكن، مع إرتفاع حدة العنف وتكثيف الضغوط الدولية خلال الخريف، وافقت دمشق في نهاية المطاف على خطة الجامعة قبيل عيد الميلاد في 2011. على هذا الأساس إنتشر مراقبون عسكريون من دول عربية عدة في سوريا، لكنهم فشلوا في وقف إطلاق النار. وخلال أسابيع إنسحبت بعثة المراقبة العربية، بعدما غرقت في الجدل والحوارات السياسية بين الدول الأعضاء في الجامعة.
وتمّ تمرير الكرة إلى الأمم المتحدة، التي عيّنت أمينها العام السابق كوفي أنان كمبعوث لها إلى سوريا. بعد رحلات مكوكية ديبلوماسية مكثّفة، تمكّن أنان من التوصل إلى وقف إطلاق النار بين النظام واللاعبين الرئيسيين في المعارضة في نيسان (إبريل) 2012. وإنتعش الأمل الذي سرعان ما خبا. على الرغم من هيبة ومكانة أنان ووجود مراقبين للأمم المتحدة، فقد إنهار وقف إطلاق النار في غضون أسابيع. وفرض هذا الأمر تحوّلاً في إستراتيجية أنان. لذا، بدلاً من التركيز على الأطراف الأساسيين، فقد سعى الى التفاوض على إتفاق بين القوى الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة وروسيا، في محاولة لإستخدام نفوذها لجلب المقاتلين الى طاولة المفاوضات. وأنتجت الإجتماعات التي عُقدت في صيف 2012 الخطوط العريضة لإتفاق، تحت عنوان “بيان جنيف”، الذي دعا إلى وقف العنف وتشكيل حكومة إنتقالية. ومثالٌ على ما يُطلِق عليه الديبلوماسيون “الغموض البنّاء”، فقد ترك البيان نقطة خلاف رئيسية — مصير الرئيس بشار الأسد — غير محدّدة. ولكن تفسيرات متباينة ظهرت بعدها سريعاً، الأمر الذي جذب قلّة إلى حجز مقعد في عربة خطة الأمين العام السابق للأمم المتحدة، وإستقال أنان من مهمته في آب (أغسطس) 2012.
وإستمرت جهود المنظمة الأممية تحت قيادة الأخضر الإبراهيمي، وهو ديبلوماسي جزائري رفيع المستوى، الذي تبنّى نهجاً حذراً إستشارياً. فقد ظلّت المكوّنات الرئيسية لخطة أنان، بما في ذلك وقف إطلاق نار عام تحت إشراف دولي، النقطة المركزية لجهود الأمم المتحدة تحت الإبراهيمي. وإستغرق الأمر أكثر من عام لإستدراج الطرفين إلى طاولة المفاوضات، ومرة أخرى في جنيف، في الأسابيع الأولى من العام 2014. وبينما كان هناك تقدم في القضايا الإنسانية، مثل السماح بوصول المساعدات إلى المدينة المحاصرة حمص، فقد إنتهت المحادثات إلى الفشل في شباط (فبراير) 2014، حيث ظل الجانبان مختلفين حول القضايا الرئيسية. أصرّ المتمرّدون على عدم مشاركة الأسد في أيّ حكومة إنتقالية في المستقبل، فيما النظام أراد أولاً مكافحة الإرهاب. ومع عدم تزحزح أيّ من الجانبين عن مواقفه، وإستمرار القوات العسكرية التابعة للحكومة في الوقت عينه في تقدمها البطيء في حينه، تعثرت عملية الأمم المتحدة مرة أخرى.

الحواجز أمام الحل في سوريا

حتى الآن، أثبتت سوريا على أنها عصيَّة على الوساطة. لقد فشل بعض الوسطاء الأكثر خبرة في العالم في حلّ أزمتها. لماذا؟ جزء من التفسير يكمن في الطريقة التي قارب الوسطاء فيها النزاع والوسائل المتاحة لهم. كان تدخل الجامعة العربية يعجّ بالخلافات والتوتر السياسي. وهذا أدّى إلى إضاعة الوساطة لأولى، وربما أفضل فرصة لوقف العنف المتصاعد. جاءت الامم المتحدة مع مزيد من الكفاءة المهنية والموارد، ولكن هنا أيضاً، كانت هناك مشاكل التنسيق، وقضايا الإدارة، والأخطاء الإستراتيجية. على سبيل المثال، إعتمدت وساطة أنان على فرضية خاطئة بأن صفقة تُعقَد على المستوى الدولي يمكن فرضها على الأرض داخل سوريا، مع وجود جهات فاعلة وإئتلافات متنافسة على نفوذ مستقل.
والجزء الأكبر من التفسير أو التبرير، مع ذلك، وُجِد في مجموعة من الحواجز الإستراتيجية والهيكلية:
أولاً، كان عددٌ قليل، إن وُجِد، من الأطراف المعنيين لديه مصلحة حقيقية في المفاوضات. إعتقد النظام أنه يمكنه سحق المعارضة، في حين أن المعارضة، حتى عندما عانت من موقف عسكري متفاقم، كانت تبحث للحصول على دعم من رعاة خارجيين أو، من الناحية المثالية، على تدخل عسكري أجنبي. ويُظهر التاريخ أن التفاؤل المتبادل حول الآفاق العسكرية يميل إلى عدم تحبيذ مفاوضات جادة، لأن كلا الجانبين يتوقّع إنتصاراً الذي من شأنه أن يجعل تقديم تنازلات غير مريحة أمراً لا لزوم له. كانت هناك مشكلة خاصة في سوريا وهي أن مبادرات الوساطة الأولى ركّزت على عقد صفقة بين النظام ومعارضة إئتلافية بقيت قيادتها في المنفى. إن وجوداً قليلاً مباشراً في اللعبة، قد يمكّن النخبة المنفية من التشبّث بمواقف مساومة لا يمكن الدفاع عنها في حين تلعب لعبة الإنتظار، على أمل أن تسير الأحداث وتطور الوضع في سوريا وفقاً للقالب الليبي، حيث شنت القوى الغربية ضربات عسكرية لقلب الموازين.
ثانياً، ظلت المعارضة مجزّأة، حيث إنقسمت عبر الأراضي، والعشائر، والأفرقاء، ووجهات النظر العالمية. إن سلسلة من المحاولات للتنسيق لم تفعل شيئاً يُذكر لتغيير هذا الواقع. والنتيجة هي أن المعارضة نادراً ما كانت قادرة على التحدث بصوت واحد، وبالتالي، لم تستطع صياغة جدول أعمال مشترك ولا إلتزام المصداقية لدعم وقف إطلاق النار في جميع أنحاء البلاد. وتُبيِّن البحوث أن حروباً أهلية من هذا النوع من التجزئة غالباً ما تعاني من مشاكل المُفسِدين: الجهات المُهمَّشة والمُبعَدة عن الوساطة لا ترى أي فائدة في السلام وتوظّف العنف لتخريب المفاوضات. والتدخل من الرعاة الخارجيين – كل راعٍ يدعم جماعات وفقاً لمصالحه الخاصة، ونادراً من تلك التي يرعاها آخرون – أدّى إلى تفاقم هذه المصاعب.
ثالثاً، بينما كانت الأبعاد الطائفية حاضرة منذ البداية، فقد حقّقت أهمية أكثر مع مرور الوقت، فيما كان الصراع يوصف بأنه أحد ساحات التنافس بين إثنين من أكبر الطوائف الرئيسية في الإسلام. وقد غذّى هذا الأمر عدم الثقة وعزّز قناعات جوهرية التي تميل إلى جعل التفاوض – حتى لا نقول السماح بتنازلات – صعباً. لقد قال خبراء أن “الصراعات الدينية هي أكثر صعوبة لتسوية سلمية من أنواع أخرى من الصراعات”، والبيانات التاريخية تُظهر أنه إذا كانت لدى أحد المشاركين أهداف دينية، فهو أقل قابلية لحلول تفاوضية. ويبرز هذا أكثر وضوحاً بين المتشدّدين دينياً، مثل “جبهة النصرة” و”الدولة الإسلامية” (داعش)، الذين تفضّل معتقداتهم الدينية الحلول العسكرية على تلك القائمة على التعايش الطائفي.
رابعاً، تعثّرت الوساطات بسبب الإنقسام الدولي. بإستثناء “بيان جنيف”، فقد إتّسمت المفاوضات الدولية بعدم قدرة الولايات المتحدة وروسيا على الإنضمام والإتفاق حول نهج مشترك. مراراً وتكراراً، فقد سحب هذا الخلاف البساط من تحت جهود وساطة الأمم المتحدة. وكان المحيط الإقليمي بدوره غير داعم على حدّ سواء. والدول المتنافسة في المنطقة – إيران تؤيد وتدعم النظام ودول الخليج وتركيا تؤيدان وتدعمان المعارضة – إلتزمت الإرسال المستمر للمال والسلاح لدعم العميل المفضّل لديها، وبالتالي إدامة القتال.
حتى الآن، وضعت هذه الحواجز الأربعة الوساطة في سوريا خارج حدود إحتمال التحقيق والنجاح. ونحن ندخل العام 2015، ما زال العديد منها باقياً، ولكن مع ذلك هناك أيضاً بوادر أمل.

تطور المأزق المضر للجميع؟

العلامة الأكثر وعداً، الغريبة كما قد تبدو، هو أن الوضع العسكري مجمّدٌ إلى حد كبير. لقد أبدى النظام مرونة غير متوقّعة وأحرز تقدّماً إضافياً في بعض المناطق خلال العام 2014، لكن المعارضة، وبخاصة الجماعات الجهادية، أثبتت على أنها خصم عنيد وماهر. لم يظهر أن جانباً قادر على هزيمة الآخر، ومع عدم التدخل الأجنبي، فإن تحقيق نصر عسكري لأيٍّ من الجانبين من غير المرجح أن يتحقق.
في حين أن جوهر النظام السوري لا يزال صامداً وجنرالات الجيش يبالغون عن إنتصارات مستقبلية، فإن هناك دلائل واضحة على حالة إستنزاف وإنهاك وتعب من الحرب. معانياً من نقص في العديد لديه، فقد تحوّل النظام إلى التجنيد الإجباري، الذي ولّد غضباً، وبخاصة بين الأقليات غير العلوية. مع المزيد من الوفيات، وإرتفاع أسعار المواد الغذائية، ونقص الوقود، فإن السخط آخذٌ في الإرتفاع حتى بين أولئك الداعمين للنظام. ويدّعي مطّلعون أن العديد من أنصار النظام هم على إستعداد للنظر في تسوية سياسية. وبما أن تكاليف الحرب تتراكم من دون إحراز تقدّم واضح، فقد تدفع هذه المشاعر النظام إلى “الإنحناء” نحو حلّ وسط.
في صفوف المعارضة، يبدو أن المعتدلين هم في تراجع وربما يتوقفون عن كونهم لاعبين معنيين في المعادلة السورية. إن البرامج التدريبية من قبل رعاة خارجيين قد فشلت حتى الآن في إنتاج قوة متخصّصة قادرة وموالية. وعلى الرغم من أن البرنامج المستمر الذي تقدمه الولايات المتحدة هو جهد أكثر جدية، فالإحتمالات هي أنه سوف يكون قليلاً جداً ومتأخّراً جداً، وإنه، في الوقت الذي يتم تدريب هذه القوة وتخريجها (5000 مقاتل)- وفقاً لوزارة الدفاع الأميركية، بحلول نهاية العام 2015 – فإن الجهاديين هم المعارضة الوحيدة التي تظهر على الأرض.
وهذا يعني أن تفتت المعارضة قد يصبح أقل، ولكن من ناحية أخرى، إن هيمنة القوى الجهادية تجعل الطائفية الموضوع المهيمن على الحرب. والواقع أن بعض المحللين، بما في ذلك الخبير في الشؤون السورية جوشوا لانديس، يتحدّث عن فرز عرقي، فيما المواطنون السوريون، المهددون بهجمات من المتشدّدين الدينيين، يفرّون ويسعون بأعداد كبيرة إلى السلامة حيث يتجمّعون مع إخوانهم في الطائفة والدين. إن تصلب الهويات الدينية قد يجعل الأمر أكثر صعوبة لإيجاد أرضية مشتركة، ولكن الفصل العرقي، وإن كان مثيراً للإشمئزاز كسياسة، فقد يساعد على تحقيق قدر من الإستقرار. فيما يتم إستبدال الديموغرافيا والتعايش المتعدّد الأعراق، اللذين كانا سائدين قبل الحرب في سوريا، بواقع آخر حيث تعيش مجموعات متجانسة في أجزاء مختلفة من البلاد، فإنه من الممكن أن نرى ظهور حكم دويلات الأمر الواقع، والتي يمكن أن تُرتَّب بينها مساومة وصفقة.
على المستوى الدولي، لا يزال الوضع على حاله إلى حد كبير، ويتميّز بعدم الإستعجال المسيء إلى خطورة الوضع. ومع ذلك، هناك بعض التطورات الإيجابية. يبدو أن هناك تقارباً جارٍ بين الولايات المتحدة وروسيا بشأن سوريا، والإشارات الأخيرة تشير إلى أن كلاهما جاهز لبراغماتية أكبر مما كانت عليه في الماضي. السؤال حول ما يجب الفعل ببشار الأسد يبدو مهماً، ولكن نظراً إلى زخم تنظيم “الدولة الإسلامية” وتوسعه وأوجه القصور لدى المعارضة المعتدلة، يبدو أن الولايات المتحدة تعيد حساباتها حول تغيير النظام في سوريا حيث المخاطر تفوق الفوائد. بدلاً من ذلك، مع إستهداف الغارات الجوية، التي تقودها الولايات المتحدة، تنظيم “الدولة الإسلامية” و”جبهة النصرة”، تاركةً منشآت النظام سليمة، فنحن نشهد ظهور تعاون ضمني غير معلن بين دمشق وواشنطن.

سوريا إلى أين؟

قد يولّد الإنهاك الناشئ من الحرب، وتوحيد المتمرّدين، والبراغماتية الدولية، آمالاً جديدة لصنع السلام في السنة الجارية. ولكن لا تزال هناك حواجز صعبة، وليس هناك سبب وجيه للتفاؤل بشأن النوبة الأخيرة من النشاط الديبلوماسي، مع مبادرتين موازيتين إنطلقتا في الأشهر الأخيرة من العام 2014.
الأولى هي الدفعة الأخيرة من جهود الأمم المتحدة الجارية في سوريا، والآن تحت قيادة ستيفان دي ميستورا، وهو ديبلوماسي إيطالي -سويدي ترأس في السابق بعثة الامم المتحدة في العراق. يبدو أن إستراتيجية دي ميستورا قائمة على التحوّل من السعي إلى وقف إطلاق نار من أعلى إلى أسفل مُنسَّقٍ مركزياً، إلى التركيز على هدنة طفيفة بوساطة بين الفاعلين المحليين في أماكن مختلفة في جميع أنحاء البلاد. والهدف من هذا “التجميد” هو تعزيز عدم التصعيد وتوزيع المساعدات الإنسانية.
بخلوِّها من الكثير من البنية الفوقية الديبلوماسية، فقد أتت مبادرة دي ميستورا من دون شروط سياسية مُسبَقة والتي عثّرت الخطط السابقة: لكنه بقي صامتاً بالنسبة إلى مصير الأسد، ولم يحدّد أي عملية للمصالحة. إن حالة الإختبار هي المدينة التجارية الشمالية حلب، التي لا تزال منقسمة بين الفصائل المتحاربة منذ العام 2012.
من خلال إسقاط الكثير من البنية الفوقية الديبلوماسية، فإن المبادرة همّشت المفاوضات الرسمية لصالح الرهان على تطور التعاون المتبادل على المستوى المحلي. إنه تحوّلٌ ضروري إلى التواضع والبراغماتية في إستراتيجية الأمم المتحدة، لكنه يبقى تسديدة بعيدة المدى. إن دي ميستورا يراهن أساساً على أن صعود “داعش” سوف يُجبر النظام والمتمردين المعتدلين على إعادة النظر في مواقفهما، وبأنهما سيكونان على إستعداد لدفن أحقادهما، على الأقل محلياً، والتركيز على الشرّ الأكبر. ولكن الأمر هو أبعد ما يكون عن موقف النظام الذي، على حافة تطويق حلب، لا يريد تجميد الصراع على جبهة يحرز فيهاً تقدماً. وبينما تشكيل إئتلاف المتمردين في حلب، ويطلق عليه إسم “جبهة الشام”، قد يوفّر الحجم اللازم للتنسيق لإمكانية حقيقية لعقد هدنة محلية، فإن الإلتزام الراسخ لمبادرة دي ميستورا غير متوفّر.
في حال النجاح في حلب، فإن التحدّي الكبير يكمن في جعل وقف إطلاق النار المحلّي يصمد. إن عدم الثقة متفشية وخطر المُفسِدين هو حقيقي جداً. لكن التجربة علّمتنا أن التعاون المحلي يُمكِن أن ينشأ، حتى من دون مراقبين خارجيين، إذا كانت الظروف مواتية: التفاعل المتكرّر الذي يسمح في بناء الثقة وقدرات الردع الحقيقي على كلا الجانبين. ومع ذلك، إذا كانت الأمم المتحدة أو غيرها من الجهات الفاعلة في المجتمع الدولي ستكون على إستعداد لتقديم مراقبين أو قوات حفظ السلام، فإن هناك إحتمالات للتحسن، ولكن مثل هذه التدخلات تبقى واردة طالما بقيت “داعش” و”جبهة النصرة” على مسافة بعيدة من حلب.
بالتوازي مع مقترحات الأمم المتحدة، فقد سعت روسيا إلى جلب محادثات السلام السورية إلى موسكو. ليست هذه هي المرة الأولى التي تسعى روسيا إلى لعب دور الوسيط في سوريا: فقد جست النبض للتشاور في كل من عامي 2012 و 2013، لكنها لم تطلق أي مبادرة ناجحة. ويبدو أن المبادرة الجديدة تعاني من المصير عينه: لقد عُقِد إجتماع تحضيري في موسكو في الأيام الأخيرة من كانون الثاني (يناير) الفائت قُوطِع من أجزاء واسعة من المعارضة، بما في ذلك جميع الجماعات المتمرّدة التي تتمتع بنفوذ عسكري ذي معنى. وحضر هذا الإجتماع ممثلو النظام وأولئك الذين وصفهم آرون لاند، الخبير في الشؤون السورية في معهد كارنيغي للسلام الدولي، ب”وفد من الهياكل العظمية من أصدقاء روسيا اليساريين الكبار في السن ومنشقين زائفين مرتبطين بالأسد”. وإتفقوا على إطار لمجموعة من المبادئ وبأن العملية ينبغي أن تتتابع وتستمر، ولكن في غياب مشاركة أوسع من قبل المعارضة، فإن التتمة في موسكو لا جدوى منها.
وكما من قبل، فإن نقطة الخلاف الرئيسية لجلب المعارضة الى طاولة المفاوضات تكمن في ما إذا كان أو لم يكن البند الأساسي على جدول الأعمال هو تغيير النظام. ولمّا كانت موسكو الداعم الرئيسي لنظام الأسد، فإن المعارضة تنظر إليها بعين الريبة، حيث يجادل كثيرون بأن روسيا لا يمكنها ان تلعب دور الوسيط النزيه. وهذا يُعرقل جهودها لجذب المعارضة الى طاولة المفاوضات. وإذا حضرت المعارضة إلى هناك، مع ذلك، فإن تحيّز روسيا للنظام السوري قد لا يكون بالضرورة غير مؤات. تشير بحوث تجريبية إلى أن وسطاء متحيّزين يؤدّون أحياناً عملاً أفضل من أولئك المحايدين، لأنهم يمكنهم الإستفادة من عملائهم على تقديم تنازلات. وقد لعبت روسيا هذا الدور مراراً في الماضي، وقد تكون الآن حتى أكثر إستعداداً للضغط على دمشق، مع هبوط عائدات النفط وتفاقم أزمتها الإقتصادية، الأمر الذي يحفّزها لتقليص حجم التعاقدات الخارجية. لكن بطبيعة الحال، لكي يكون لمثل هذا النفوذ مغزى، يجب أن يكون هناك أحد على الجانب الآخر من طاولة المفاوضات، وحتى الآن، ليس هناك أحد.
ولكن حتى مع مشاركة قلّة من لاعبي المعارضة فقط، فقد تكون مبادرة روسيا خطوة سياسية بارعة. فمن الممكن أن تكون موسكو مهتمة بإتخاذ خطوات نحو إعادة تأهيل الحكومة السورية في عيون القوى الغربية أكثر من تقديم صفقة للحل. من خلال الضغط على الجهات المعارضة، فقد تنجح روسيا في إثبات تعنتها. وهذا قد يساعد على إظهار الأسد كخيار واقعي وحيد باق في سوريا الواقعة تحت حصار “الدولة الإسلامية”. وهذا الأمر سوف يضع أيضاً لاعبي المعارضة في وضع غير مريح ويجبرهم على إعطاء تفسير للشعب الذي أنهكته الحرب لماذا رفضوا طريقاً ممكناً للسلام. وفيما الولايات المتحدة على ما يبدو تراجعت عن تصريحاتها أنه “يجب على الأسد أن يرحل”، فمن الممكن أن تشهد السنة الجارية إعادة ترتيب الأولويات، مع وضع التحوّل السياسي في المقعد الخلفي لتحل مكانه مكافحة “داعش” ونظرائه.
إن وراء مستوى مبادرات السلام المنفصلة، أسئلة أكبر – للسياسات والإستراتيجيات، و، في الواقع، التاريخ – تنشأ في سوريا. العديد من هذه الأسئلة ينطوي على مفاضلات غير مريحة. هل من الممكن في وقت واحد هزيمة الجهاديين، وتحقيق السلام، وإسقاط الأسد؟ إذا لم يكن الأمر كذلك، فأيٌّ من هذه الأمور ستكون لها الأولوية؟ إذا إستمر الفصل العرقي والتفكك السياسي، هل أن حلاً يقوم على وحدة أراضي سوريا لا يزال ذات معنى؟ ليس من المستحيل أن نتصوّر أن الحريق في بلاد الشام سوف يعني نهاية النظام الإقليمي الذي تأسس بعد الحرب العالمية الأولى. ويقدّم هذا الإحتمال للوسطاء تحدياً رهيباً. ذلك أنه في هذه الحالة لن يكون المطلوب منهم فقط التوسط في النزاع؛ بل سيكون عليهم التوسط في الوقت الذي تتحوّل لوحة اللعب بأكملها في المشرق العربي.

• ماغنوس لوندغرين هو أستاذ في قسم العلوم السياسية، جامعة ستوكهولم. وباحث في حل النزاعات والحروب، وأداء المنظمات الدولية.
• كُتِب هذا التقرير بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى