اللوفر قبل أَن يكون متحفًا (1 من 2)

واجهة القصر القديم

هنري زغيب*

كثيرون، عند ذكْر اللوفر، يتردَّد في بالهم “المتحف”، زارُوه أَو قرأُوا عنه. لكنَّ أَقلَّ منهم مَن يعرفون تاريخ هذا الـمَعْلَم، منذ ولادته على ضفة السين قلعةً في العصور الوسطى، حتى تَـحَوُّله لؤْلؤَةً ثقافيةً فريدةً في قلب باريس.

هَرَم عصري في واحة أَثرية

يوم دشَّن الرئيس الفرنسي فرنسْوَا ميتّران “هَرَم اللوفر” في 29 آذار/مارس 1989، كان يضيْءُ نورًا جديدًا في تاريخ المتاحف. وكان قبلذاك أَعلن عنه في أَيلول/سبتمبر 1981 عند افتتاحه مشروع “اللوفر الكبير” لدى توسيع جديد لاستقبال زوار أَكثر وعرض أَعمال فنية أَكثر. وكان من نتائج ذاك التوسُّع إِخلاء المتحف من مكاتب مؤَسسات رسمية فيه، بينها وزارة المال، فاتسعت مساحته أَكثر وزاد رواده وقاعات العرض فيه.

هذا الهرَم الزجاجي العصري صمَّمه المهندس الصيني الأَميركي ياومِنغ بي (1917 – 2019) من 21 مترًا علوًّا في “باحة نابوليون” الخارجية. وأَثار ذلك جدلًا في حينه، بين الأَوساط الثقافية والصحافية، لنُشُوب شكل هندسي حديث في حرَم أَثري ذي دلالة خاصة في تاريخ فرنسا العريق.

توسيع القصر على عهد هنري الرابع

عند بناء ذاك الهرَم، وبدء الحفريات في تلك الباحة، انكشفَت في عمق الأَرض الركائز التي قام عليها قديمًا صرح قصر اللوفر عند بنائه على عهد الملك فيليب أُوغُست. وكان ذلك الكشف وما فيه دافعًا لتأْسيس “المركز الوطني للأَبحاث الأَثرية” سنة 2002.

وها هو الهرَم اليوم بين أَبرز معالم المتحف على مدخل اللوفر الذي بات أَكثر المتاحف شهرة في العالم (3 ملايين زائر سنة 2021 بزيادة 100 أَلف زائر عن 2020).

ما الذي دلت عليه تلك الركائز المكتشفة من تاريخ هذا الـمَعْلم الأَثري؟

ولادة القلعة

تسمية “اللوفر” يرقى ظهورها للمرة الأُولى إِلى سنة 1189 للدلالة على مكان كانت فيه كنيسة القديس توما وسْط بقعة زراعية تكثر فيها الذئاب، يخترقها مجرًى مائيّ تصبُّ مياهه في نهر السين (عن كتاب “تاريخ اللوفر” للاختصاصية في تاريخ الفنون جنفياف بريسْكْ).

بدأَ اللوفر قصرًا لملوك فرنسا. وهو يؤاخي تاريخها منذ ثمانية قرون. ومنذ 1793، مع نشوب الثورة الفرنسية، تحوَّل متحفًا شاملًا يضم مجموعة أَعمال فنية وأُخرى أَثرية يرقى بعضها إِلى آلاف السنوات ممتدَّةً من أَميركا حتى حدود آسيا. فهو إِذًا مَرّ في مراحل متعاقبة. كان قلعةً أُغُسطينية ثم حصنًا شغلتْه مساكن الأُسَر المالكة وكان فيه سجن كبير لعلية الموقوفين، ثم تحوَّل قصرًا كبيرًا واسعًا.

تاريخ هندسة اللوفر يرقى إِلى حكْم الملك فيليب أُوغست الثاني (1180 – 1223). كان حاكمًا حازمًا، وهو أَول من حمل لقب “ملك فرنسا”. أَمر ببناء القلعة سنة 1187 وانتهى بناؤُها سنة 1202 برجًا عسكريًّا لمراقبة الجهة الغربية من باريس فلا يتمكن جيش الأَعداء، ملوك إِنكلترا، من اجتياز النهر آتين من جهة النورماندي.

تَمَّ بناء القلعة على قاعدة عرضها 72 مترًا وطولها 78 مترًا، على سطحها 10 أَبراج متفاوتة العُلُوّ، يتصدّرها برج كبير يعلو 32 مترًا فوق هوة سحيقة لا يمكن اجتيازها لدخول القلعة إِلَّا على جسر متحرك موصولٍ بمدخلَين من جهة المدينة بين حصنَين يوصل إِليهما جسران متحركان كذلك. وكان في الباحة الداخلية مبْنَيَان غربًا وجنوبًا.

تجديد القصر على عهد شارل الخامس

مطالع التحوُّل

في مطلع القرن الثالث عشر كانت باريس هي قلب المملكة الاقتصادي ومركزًا دينيًّا وسياسيًّا وإِداريًّا. وكان بناء القلعة على حدود المدينة يُحكم سلطة الملك فيبدو قويًا في عيون أَخصامه ملوك الإِنكليز يرون أَنه يحمي عاصمته بحزم. من هنا كان اللوفر علامة هيبة مَلَكية بالمعنى الرمزي والدفاعي.

الملك شارل الخامس “الحكيم” (1364 – 1380) أَراد أَن يفرض هيبته أَكثر في الحُكْم، فحوَّل القلعة إِلى حصن ضخم. وبناء على خرائط المعمار ريمون (الذي صمَّم أَيضًا كنيسة “نوتردام دو باريس”) غيَّر تصميم القلعة وجعلها قصرًا فخمًا، فرفع الأَبراج المتوسطة، وزاد عليها برجين شمالًا وشرقًا، وفتح مدخلًا إِلى الحديقة الملَكية، وأَنشأَ في الواجهة الشمالية درَجًا طويلًا عند أَسفله تمثالان كبيران وعند أَعلاه تمثال مريم العذراء.

الملك فرنسوا الأَول (1515 – 1547) كان مهووسًا بالهندسة الإِيطالية، فأَلغى التغييرات السابقة والتعديلات المتعاقبة، وغيَّر في شكل الحصن. وسنة 1546 كلَّف المهندس المعمار بيار ليسْكُوت تغيير الحلة القديمة، فهدم المهندس البرج الكبير والمدخل الرئيس من جهة السين. وبناء على طلب الملك زاد مطابخ جديدة وغرفًا إِضافية.

ولما تسلَّم العرشَ ابنُه الملك هنري الثاني، واصل هندسة لسْكوت وجعلَ اللوفر لؤْلؤَة ساطعة من طراز عصر النهضة الإِيطالية. وبعد موته، تسلَّمَت الحُكْمَ أَرملتُه الإِيطالية كاترين دو ميديتشي فأَنشأَت خارج نطاق اللوفر، في الجهة الغربية، قصرًا جديدًا سمَّتْه “التويلري”.

ما الذي حصل بعد ذلك؟  وكيف تحوَّل الحصن القديم إِلى متحف حديث؟

هذا ما أُعالجه في الجُزءِ الثاني من هذا المقال.

Exit mobile version