هل صارت السينما شيئاً من الماضي؟

تُعاني دور السينما في العالم من التبعات المالية للقيود الصارمة المفروضة لمكافحة وباء كوفيد-19، التي تحدّ من ارتياد الزبائن لها، بالإضافة إلى قلّة عدد الأفلام الرائجة لجذبهم. وقالت الرابطة الوطنية لمُلّاك المسارح والقاعات السينمائية في الولايات المتحدة إن 69 في المئة من الشركات السينمائية الصغرى والمتوسطة قد تُجبر على الإفلاس أو الإغلاق بشكل دائم. وتعد أميركا أكبر سوق للأفلام في العالم من حيث مبيعات التذاكر، غير أن الصين تمضي على نحو سريع للحاق بها.

الحضور في بعض القاعات السينمائية ضئيل في زمن كورونا.

 بقلم فيصل صلاح*

من المُحتَمَل أن تكون آخر مرة شاهَدتَ فيها فيلماً لم يكن في قاعة السينما.

عانت صناعة الترفيه، مثلها مثل غيرها، الكثير بسبب الوباء. إضطرت المسارح والقاعات السينمائية في جميع أنحاء العالم إلى الإغلاق لأشهر عدة. سمح هذا الظرف غير المعتاد لخدمات البث بملء الفراغ.

على الرغم من أن هذا العام كان رائعاً لخدمات البثّ، إلّا أنه لم يُقدِّم أي خدمة للسينما. في زمن التباعد الإجتماعي، على المرء أن يتساءل: ما هو مستقبل السينما؟ وماذا يمكن أن نتوقع في العامين المُقبلين؟

من الواضح أن دور السينما كانت تُعاني منذ بعض الوقت. تراجعت مبيعات التذاكر بشكل مطرد منذ العام 2002، وفقاً لموقع بيانات الأعمال السينمائية “ذا نَمبَرز” (The Numbers). وفقاً لدراسة صدرت في النشرة الإخبارية “وايت هاتشنسون”  (White Hutchinson)، إنخفض مُعدّل حضور السينما للفرد في الولايات المتحدة إلى 3.5 مرات سنوياً في العام 2018، مقابل 5.2 مرات سنوياً في العام 2002.

إن الناس في جميع أنحاء العالم يُفضّلون مشاهدة فيلم في المنزل بدلاً من إنفاق المال على تذكرة، بالإضافة إلى تكلفة الفشار والمشروبات. ولا تُمثّل “نيتفليكس” (Netflix) وما شابهها التهديد الرئيس الأول للسينما، لقد كان التلفزيون أول منافس لها.

قرر بعض الاستوديوهات الدفاع عن تهديد التلفزيون من خلال تشغيل محطات تلفزيونية ناجحة وأصبحت البرمجة التلفزيونية شيئاً خاصاً بها، حيث اتّخذت نهجاً مُتسلسلاً لرواية القصص، مثل الراديو.

ثم جاء التهديد الكبير التالي للسينما: الفيديو المنزلي، بدءاً من أشرطة “في إتش أس” (VHS) و”وبيتاماكس” (Betamax)، وصولاً إلى أشكال وتنسيقات “دي في دي” (DVD) و”بلو راي” (Blu-ray).

كان على صناعة السينما أن تتأكد من أن الفيديو المنزلي لن يصبح بديلاً من الذهاب إلى المجمع السينمائي المُتعدّد القاعات والشاشات، بل ينبغي أن يظل مُكمّلاً. وقد فعلت ذلك من خلال استثمار المزيد من الأموال في الأفلام، وإنفاق الكثير من الوقت والمال لجعل التجربة السينمائية غامرة أكثر من البرنامج التلفزيوني العادي. إن السعر المُرتفع لأقراص الفيديو المنزلية – وحقيقة أن الفيلم لم يتم إصداره على “دي في دي” أو “بلو راي” إلّا بعد شهور من عرضه في دور السينما – يعني أن المشاهدين المُتحمّسين لا يزالون بحاجة إلى شراء تذكرة والقيام برحلة إلى قاعة السينما لمشاهدة أحدث إصدار سينمائي.

وهذا يقودنا إلى أكبر تهديد لقاعات السينما: خدمات البثّ.

تكمن جاذبية خدمات البث في المكتبة الموجودة تحت تصرّفك. أنت تدفع رسوم الإشتراك كل شهر ويُمكنك مشاهدة أي عدد تريده من الأفلام أو البرامج التلفزيونية – المدينة الفاضلة لمحبي الأفلام. من منّا لا يريد ذلك في متناول يده؟

هذا العام، أصبحت خدمات البث أكثر انتشاراً. وفقاً لدراسةٍ نُشِرَت على موقع “تي في تكنولوجي” (TV Technology)، أضاف أكثر من 25 في المئة من المُستهلكين خدمة بثّ واحدة على الأقل لاستهلاكهم لوسائل الإعلام في أثناء انتشار الوباء.

مع اضطرار الناس إلى البقاء في المنازل، أطلق العديد من الموزعين أفلامهم على هذه الخدمات بدلاً من انتظار دور السينما لعرضها مرة أخرى. قررت شركة ديزني إطلاق فيلم “مولان” (Mulan) على خدمة البث المباشر “ديزني+” (Disney+) بعد شهر واحد فقط من عرضه في الصالات. وتم عرض أحدث أفلام بوليوود، لأميتاب باهشان، “غولابو” سيتابو” (Gulabo Sitabo) على موقع “برايم فيديو” الذي تملكه أمازون” (Amazon). يُمكن اعتبار هذه المنصة البديلة لإصدارات الأفلام – الأرخص للمنتجين – بمثابة أخبار رائعة. يجب أن نحتفل بأن أحدث الأفلام يمكن أن تأتي مباشرة إلى منازلنا بسعر معقول. في حين أن هذا الأمر صحيح وإيجابي، فهناك عواقب على المستقبل بدون دور سينما إذا استمر عرض الأفلام فقط على منصّات البث.

إن مشاهدة فيلم في السينما هو أكثر من مجرد مشاهدة فيلم. يتعلّق الأمر بالإنغماس في التجربة بدرجة أكبر بكثير والشعور بالإنتقال إلى الحدث على الشاشة. هناك جاذبية حول الذهاب إلى السينما لا يُمكن تكرارها في المنزل – إلا إذا كنت تستطيع بناء صالة سينمائية منزلية بنفسك.

توافق شركة “سينيفيل” (Cinephiles) على أن العديد من أفلامنا المفضلة أصبحت أكثر خصوصية لأننا شاهدناها على الشاشة الكبيرة بصوت محيطي. ماذا وكيف سيكون هدير “تي-ركس” (T-Rex) في فيلم “جورَاسيك بارك” (Jurassic Park) إذا كان عليك تجربته على تلفزيونك المتواضع لأول مرة؟ أو ضخامة الفضاء الخارجي لسلسلة أفلام “حروب النجوم” (Star Wars) إذا لم تشاهد ذلك الزخرف الحلزوني الأصفر التمهيدي على أوسع شاشة مُمكنة؟

هناك تداعيات أخرى أيضاً. سيؤثر عدم وجود هذا المكان السحري المُخصَّص لمشاهدة الأفلام في صناعة الأفلام. قد تتوقف الاستوديوهات عن تمويل الإصدارات الضخمة إذا اكتسبت مشاهدة المنزل جذباً أكبر من الذهاب إلى دور السينما. ببطء، قد يؤثر ذلك في اختيارات أفضل المخرجين والمنتجين- فقد يبتعدون من صناعة أفلام مُعَيَّنة خوفاً من عدم رغبة أي موزع في شرائها.

إن المستقبل بدون قاعات السينما يعني أن الأجيال المقبلة ستُحرَم من الذهول والإعجاب برؤية شخصيات أكبر من الحياة على شاشة ضخمة. سيُحرَمون من رحلات الروعة والخيال، وفرصة الهروب من الواقع والبقاء لساعتين في عالم مختلف.

إن إنشاء تجربة من فئة الخمس نجوم تتضمّن وجبة من ثلاثة أطباق وكرسي جلدي كبير مستلق لا يجعل تجربة مشاهدة الأفلام أكثر متعة – على الرغم من أن بعض قاعات الأفلام قد ذهبت إلى حد جعل الكراسي تتحرك مع الحركة على الشاشة. لكن ربما يكون الطريق إلى الأمام بالنسبة لدور السينما هو الرجوع إلى الوراء. تُعَدُّ دور سينما “درايف إن” (مشاهدة الأفلام من السيارة) في الإمارات العربية المتحدة مثالاً على استعداد الناس لقبول “الرجعية” عندما يتعلق الأمر بمشاهدة الأفلام. بعدما كانت مشهورة في خمسينات وستينات القرن الفائت، عادت سينما “درايف إن” إلى الحياة في أثناء الوباء بسبب قواعد التباعد الإجتماعي.

يُمكن تطبيق الإبداع عينه على السينما في عالم ما بعد الوباء. بدلاً من بذل كل الجهود لجذب الجمهور، يجب على دور السينما تذكير المشاهدين بمتعة الجلوس بهدوء في الظلام مع الغرباء وتجربة شيء ما معاً. يجب أن تعرض دور السينما مجموعة متنوعة من الأفلام وألّا تخشى عرض الأفلام القديمة. مع تكاليف توزيعٍ أرخص لهذه الأفلام وبالتالي تذاكر أرخص، سيكون الناس على استعداد للعودة والإستمتاع بسحر الأفلام التي حرموا منها لأشهر عدة بسبب كوفيد-19.

دعونا نكون واضحين. لا بديل عن تجربة فيلم جيّدة وغامرة. وعلى الرغم من أن الناس قد لا يعودون إلى دور السينما بأعداد كبيرة في أي وقت قريب، فعند عودتهم، يقع العبء على عاتقهم – على محبي الأفلام، جميعنا الذين يحبون تجربة فيلم جيدة – للعودة بانتظام. هذا، بعد كل شيء، ما سيُبقي السينما حيّة.

  • فيصل صلاح هو صحافي مواقع التواصل الإجتماعي لصحيفة “ذا ناشيونال” في الإمارات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى