إختلال المشهد السياسي التونسي

بقلم عبد اللطيف الفراتي*

إنتهت الإنتخابات التأسيسية في تونس في العام 2011 بتقدم واضح لحزب حركة “النهضة” ذي المرجعية الإسلامية، على حساب ما أُسمي بالأحزاب العلمانية أو الوسطية. غير أن الحزب الذي تنسبه جهات عدّة محلية وخارجية إلى جماعة “الإخوان المسلمين”، لم يتمكّن من نيل الغالبية المُطلقة ( نصف عدد النواب زائد واحد)، لذلك إضطر إلى التحالف مع حزبين وُصِفا بالعلمانيين لجمع نصاب يستطيع معه الحكم، هما حزب منصف المرزوقي ( الذي نال مقعد رئاسة الجمهورية من دون صلاحيات تُذكر) وحزب مصطفى بن جعفر ( الذي نال منصب رئيس المجلس التأسيسي وكان أكثر فاعلية بقليل من رئيس الجمهورية)، حيث تركا لحركة “النهضة” الحبل على الغارب، التي إتجهت بداية إلى تغيير نمط المجتمع الموروث على مدى 200 سنة من عمل إصلاحي عميق تزامن مع ما حدث في مصر وبلاد الشام، غير أن ردة فعل المجتمع المدني في صيف 2013 أثنتها عن مسعاها ومنعتها من تحقيق ما كانت تسمّيه “أسلمة” المجتمع، بل وفرضت عليها مغادرة الحكم، كما كانت للأحداث التي جرت في مصر في تلك الصائفة تأثيرات في موقف حزب “النهضة” الإسلامي، بدءاً بالتمرد الذي أخرج الملايين إلى الشارع والميادين، وإستمراراً بوصول المشير عبد الفتاح السيسي إلى الحكم، مما بعث الهلع في أوساط الإسلاميين التونسيين من أن يتكرر المشهد عينه في بلادهم.
وجاءت الإنتخابات التشريعية في خريف 2014 لتقلب الطاولة، ولكن من دون أن تُعطي غالبية واضحة لأيٍّ من الأحزاب، حيث نال حزب “نداء تونس” الفتي، الذي لم يتعدّ عمره الثلاث سنوات، غالبية نسبية وليست مُطلقة (86 مقعداً في البرلمان من أصل 217 نائباً)، لم تُعطِه الفرصة للحكم منفرداً.
وإذ جاءت حركة “النهضة” الإسلامية في المرتبة الثانية (64 مقعداً) في إنتخابات 2014، فإن الباجي قائد السبسي إقتلع منصب رئيس الجمهورية، وإضطر إلى دعوة 4 أحزاب للمشاركة في الحكم في مقدمتها الصديق الجديد اللدود حزب “النهضة”، مما مكّنه من جمع غالبية معززة مريحة تتجاوز الثلثين، وتمكّنه من تمرير القوانين حتى الأساسية منها بالتوافق.
وإذ بدا أن الأمر سيتجه إلى إستقرار سياسي أعرج، ولكن يضمن حداً أدنى من الإستمرار في الحكم، فإنه لم تمر سوى سنة واحدة، حتى إنفجر الحزب الأغلبي “نداء تونس”، ليس بسبب تناقضاته الداخلية الصارخة فحسب، بل بسبب إتجاه رئيس الجمهورية إلى توريث إبنه حافظ قائد السبسي رئاسة الحزب الذي سبق له إنشاؤه في العام 2012، وهو ما رفضته قواعد كثيرة ورأت فيه محاولة تبشير لدفع نجله إلى رئاسة الجمهورية عندما يحين الوقت بعد 4 سنوات، وإتهمت تلك الجهات النجل بعدم الكفاءة فضلاً عن رفض التوريث، وهو أمر مرفوض من الشعب على أساس وكأنه يعود بالبلاد إلى نظام ملكي تمت تنحيته منذ 1987.
اليوم إنقسم حزب “نداء تونس” على نفسه، وباتت كتلته النيابية في مرتبة ثانية، بينما تصدر حزب “النهضة” المرتبة الأولى بأكبر عدد من النواب، في وقت تتواصل الإستقالات من “النداء” ومن كتلته النيابية أيضاً، فيما إتجه قدماء الحزب الجديد أصلاً وعدد من مؤسسيه، إلى تأسيس حزب جديد، سيعقد مؤتمره العام في 2 آذار (مارس) المقبل في التاريخ عينه والمكان ذاته، اللذين أطلق فيهما الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة حزب “الدستور” الجديد إنشقاقاً عن حزب “الدستور” القديم بزعامة الشيخ عبد العزيز الثعالبي.
وفي الوقت عينه تفتّحت شهية عدد من السياسيين القدامى والجدد على تشكيل أحزاب أخرى، منها حزب منذر الزنايدي، الوزير الأسبق في عهد زين العابدين بن علي، وحزب كمال مرجان ومحمد جغام الوزيرين الأسبقين أيضاً، فيما يسعى مهدي جمعة، الذي ترأس حكومة التكنوقراط التي خلفت حكومة “النهضة” بعد إنسحابها في 2014، مع مجموعة من وزرائه إلى تأسيس تنظيم سياسي لم تتضح صورته بعد ليدخل السباق، هذا عدا الأحزاب التي كانت في الصورة سابقاً والتي خرجت من الإنتخابات الأخيرة في أواخر 2014 مكسورة الجناح من دون نواب في المجلس أو بعدد قليل غير مؤثر، وبعد السقطة المدوية للمرزوقي في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، كل هذا مع ضرورة عدم التقليل من شأن الحزب المنشق عن “نداء تونس” بزعامة محسن مرزوق، وهو سياسي في منتصف العمر يتمتع بكاريزما وذكاء مفرط وحتى مكر كبير وقدرة على الخطابة والإقناع، وإن إعتبر وصولياً ومستعجلاً الدور الذي يرى نفسه فيه في القمة، حيث يسعى إلى الظهور بمظهر الخليفة الطبيعي للرئيس الحبيب بورقيبة، رغم أنه كان معارضا شرساً للرئيس الأسبق إبان حكمه.
إن الإنتخابات البلدية، المتوقَّعة في أواخر العام الحالي، ستفصل بين “المتسابقين”، وهي إنتخابات يستعد لها إسلاميو “النهضة” بفارغ الصبر وتحسّب وكثيراً من الحذر، لعلّها تعيدهم إلى قلب الصورة السياسية، وتجعلهم يفوزون بقصب السبق كما كانوا في إنتخابات 2011، ولكن عليهم قبل ذلك أن يمرّوا بإمتحان صعب أيضاً، يتمثل في مؤتمرهم العام في الربيع المقبل، الذي سيحاول من خلاله زعيمهم راشد الغنوشي أن يحول الحزب الإسلامي الإخواني إلى حزب مدني بمرجعية إسلامية على شاكلة الأحزاب المسيحية الديموقراطية في الغرب، والتي لم يبقَ منها فاعلاً إلا حزب رئيسة وزراء ألمانيا أنجيلا ميركل.
غير أن الذين يرون بأن حركة “النهضة” سوف تحافظ على نهجها كحزب “دعوي” وليس كحزب مدني، يبدون وكأنهم يستعدون للمعركة بكل قواهم.

• كاتب وصحافي تونسي، ورئيس التحرير السابق لصحيفة “الصباح” التونسية. fouratiab@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى