عهدُك عهدُ التغييرِ والإصلاحِ يُدعى…

بقلم سجعان قزي*

كيف لعهدِ الرئيس ميشال عون أنْ يقومَ بجَردةٍ لسنتِه الأولى فيما هو ذاتُـهُ يُـعلن أنَّ هذه الحكومةَ ليست حكومتَه الأولى؟ وماذا عن الثلاثينَ وزيراً؟ هل حُبِل بهم “بلا دَنس”؟ وماذا عن القراراتِ والتشكيلاتِ والتعييناتِ؟ أَأُنزِلَت مع “الوصايا العَشِر”؟ أنحن في عهدٍ من دونِ حكومةٍ وفي حكومةٍ من دونِ عهد؟ أليس النُكرانُ المتبادَلُ دليلَ خجلٍ من غَلَّةِ السنةِ؟
سِمةُ العهدِ، في سنتِه الأولى، الإزدواجيّةُ: إزدواجيّـةٌ بين الإنجازاتِ والإخفاقات، إزدواجيّةٌ بين رئاسةِ الجمهوريّةِ و”التـيّـار الوطنيّ الحرّ”، إزدواجيّةٌ بين الرئيسِ وصِهرِه، إزدواجيّةٌ بين الجيشِ و”حزبِ الله”، إزدواجيّةٌ بين الدستورِ والتسويات، إزدواجيّةٌ بين شِعارِ النزاهةِ وواقِعِ الفساد، وإزدواجيّةٌ بين الرئيسِ القوي والرئاسةِ الضعيفة. كلُّ هذه الإزدواجيّات ألْقت بثقلِها على الجنرال الثمانينيِّ، فلم يـَـبْدُ ضعيفاً ولا قوياً، بل مُتعَباً، ومع ذلك، نجح في الحفاظ على ما بقي من صلاحيّات رئاسيّة.
كان بمقدورِ هذا العهدِ أن يتميّزَ لو تحوّلت التسويةُ التي أتَت به مشروعَ إصلاحٍ دستوريّ، أو على الأقلّ مشروعَ حكمٍ وطنيّ. فالعهدُ إنطلَق من قاعدةِ تحالفاتٍ واسعةٍ. في مسيرتِه نحو الرئاسةِ، نَجح الجنرال ميشال عون في إرساءِ تحالفٍ مسيحيٍّ/ شيعيّ (مع “حزبِ الله”) ومسيحيٍّ/ سنّي (مع “تيّارِ المستقبل”) ومسيحيٍّ/ مسيحيّ (مع “القوّات اللبنانيّة”)، وتفاهمٍ مع المكوِّنِ الدُرزيِّ بكلِّ أطيافِه. وإنسحَب هذا الواقعُ اللبنانيُّ شبهُ الشامِل على الواقعِ الإقليميِّ والدوليّ، فـنعِـمَ العهدُ بدعمٍ سوريّ/ إيرانيّ وتسليمٍ خليجيّ وتَـيْسيرٍ أوروبيّ وتسهيلٍ أميركيّ.
لقاءُ الأضدادِ حولَ إنتخابِ الرئيسِ عون لم يتحوّلْ لقاءً حولَ العهدِ وفي ما بينَهم، ففَقد العهدُ قدرتَه التوفيقيّةَ بين حلفائِه مع أنَّهم إشتركوا في حكومةٍ واحدةٍ لقطفِ منافعِ الإنتخاب. إعتَبر حلفاءُ الرئيس عون أنَّ تصويتَـهم له يُـغني عن دعمِهم إيّـاه، فأصبحت للعهدِ تحالفاتٌ من دونِ حلفاء.
أتت مشاكلُ العهدِ الحقيقـيّـةُ من حلفائِه الّذين حَـمَّـلوه أكثرَ من طاقتِه. فالدولةُ، بدستورِها وتقاليدِها وميثاقـيّتِها، لا تَتحمّلُ نهجَ المحاورِ، وبخاصةٍ المحورُ السوريّ/الإيرانيّ وصراعاتُه اللبنانيّةُ والعربيّة والدوليّة. هذا محورٌ مناقضٌ لفلسفةِ الوجودِ اللبنانيِّ وصيغتِه. ومأزَقُ العهدِ أنْ كلّما تجاوبَ مع هذا المِحور عُزلَ وكلّما تمـيّـز عنه حُوصِر. فظنَّ الرئيسُ أن إعتمادَ خِطابين هو الحلُّ: خِطابٌ للشرعيّةِ منسجِمٌ مع الدستور، وآخَرُ للسلاحِ غيرِ الشرعيِّ مضادٌ للدستور، فإِذا بالأخير يبتَلعُ الأوّلَ.
أدّت هذه التناقضاتُ إلى سقوطِ مفهومِ الرئيس القويّ وإلى فوضى غيرِ بنّاءةٍ أفْقدت العهدَ زَخمَه وهيبتَه وتوازنَه وإستقرارَه. وأصلاً، إنَّ المسارَ الذي أوصلَ عون إلى الرئاسةِ سورياليٌّ: فريقٌ أراد أن يُـورِثَـه مشاكلَه (“حزبُ الله”) وثانٍ أراد أن يَرِثَ شعبيّـتَه (“القوّاتُ اللبنانية”)، وثالثٌ أراد أن يعوّضَ عما وَرِثه وأضاعَه (“تيّار المستقبل”). وحين يَكـثُر أطرافُ الميراثِ يتعقَّدُ “حَصرُ الإرث”. هكذا، تبيّن وجودُ إتفاقٍ سياسيٍّ بين “التـيّـار الوطنيّ الحر” و”حزبِ الله” من دون مشروعٍ وطني، وصفقةِ مصالح بين “التـيّـار الوطني الحر” و”تيار المستقبل” من دون برنامجٍ سياسيٍّ، ومصالحةٍ وطنيّةٍ بين “التـيّـارِ الوطني الحر” و”القوّاتِ اللبنانيّة” من دونِ تحالفٍ إنتخابيّ.
هذا الإلتباسُ القائمُ عن سابقِ تصوّرٍ، تَضاعف مع تصميمِ بعضِ أركان العهدِ على “الحُكمِ المنفَرِد”. صانَ العهدُ تحالفَه مع “حزبِ الله” وأغْفلَ تحالفاتِه الأخرى، فشعَر الآخَرون بالغُبن، إذ لم يَتعاطَ معهم كشركاءَ ولم يَحفَظ لهم “عائداتِهم”. تَرك لهم الفُتاتَ “جبرانَ خاطرٍ”، فأَخذَ على خاطرِهم بعد فواتِ الأوان وإمتَعضوا.
لم يسمح الواقع الطائفي للرئيسُ عون بإعادةِ الرئاسةِ إلى ما قبلَ الطائف، وتعذّر عليه الحكمُ بدستورِ الطائف؛ فبدا رئيساً على خطِّ تَماسٍ دستوريٍّ فأصابه القنصُ من جميعِ الجِهات. وعِوضَ أن تكونَ إنجازاتُ العهدِ رمزَ نجاحِه، تَحوَّلت رمزَ فشلِ الحكومة. صحيحٌ أنَّ الحكومةَ، بِـحَثٍّ من الرئيسِ عون، أقرّت أموراً هامّة كانت نائمةً في الأدراج، لكنَّ ما قـرَّرته جاء هجيناً، مليئاً بالنواقص، خاضعاً للمحاصَصةِ والإستئثارِ والمحسوبيّة، ودونَ مستوى الحياديّةِ والكفاءةِ والأهلـيّـةِ والتوازن: من توزيعِ الوحَداتِ النَفطية، إلى مسلسلِ الكهرباء، إلى قانونِ الإنتخابات، إلى التعييناتِ الإداريّة، إلى التشكيلاتِ الديبلوماسيّة والقضائيّة، إلى لائحةِ الضرائب، إلى تعييناتِ المجلسِ الإقتصاديِّ الإجتماعيّ، وأخيراً إلى الموازنةِ غيرِ الدستوريّة. حَـبّـذا لو أصَرّت الحكومةُ على سيادةِ الدولةِ بقدْرِ إصرارِها على صفقةِ البواخرِ التركـيّـة.
إذا كان المسؤولون يَعتبرون هذا الكلامَ مُجحِفاً، فلأنّهم لا يسمعون أنينَ الناسِ، أو لا يَكترِثون له. لا يَطلُب الشعبُ من رئيسٍ ضعيفٍ ما يَطلُبه من رئيسٍ قويٍّ. يكتفي الشعبُ بالضعيفِ رئيسَ بلديّةِ لبنان، لكن القويَّ يريدونه رئيسَ جمهوريّةِ لبنان. والجمهوريّة هي الأمّة والوطنُ والكيانُ والدولةُ؛ وهذه المُقدَّساتُ الوطنيّـةُ تعني: إحترامَ الدستور، الفصلَ بين السلُطات، إحياءَ المؤسّسات، إستنهاضَ الدولة، إستعادةَ التوازن الوطنيّ، إسترجاعَ الوجهِ الحضاريّ، توفيرَ العدالة، صَونَ الحدود، وَقفَ التهميشِ والهيمنة، إنتزاعَ القرارِ الوطنيِّ الواحد، حَصرَ السلاحِ بالشرعيّة. أين نحن من هذه البديهيّات الوطنيّـة؟ صحيحٌ، أنَّ تحقيقَ هذه القضايا لا يَتمُّ في سنةٍ، لكنَّ مسارَ الدولةِ في إتّجاهٍ معاكِس. لم يُنتخَب الجنرال عون لـمَلءِ الشغورِ الرئاسي فقط بل لِـمَلءِ الشغورِ الوطنيّ.
لكنَّ أركانَ العهد ـــ لا الجنرال عون ـــ يتركون إنطباعاً بأنَّ هذا العهدَ مُسَوَّدةُ عهدٍ آخَرَ مُقبِل، ويتصرّفون غيرَ مُبالين برأيِّ الشعبِ وبإنتقاداتِه وبإتّهاماتِه. يَستعجلون إرتكابَ “القبائح” لتروحَ من دربِهم في العهدِ اللاحِق. يُديرون البلادَ كأنَّ العهدَ وكيلُ تَفليسةٍ أو عهدُ تصريفِ أعمال، بل عهدُ تحضيرِ أعمالِ عهدٍ آخَر، فيما الرئيس وَعدَنا بعهدٍ منقذٍ وفاصلٍ بين سلوكٍ وسلوك وزمنٍ وزمن.
لم يَلمُس الشعبُ تغييرًا نحو الأفضل. لذا، حريٌّ بالرئيسِ أن يستعيدَ عهدَه من خاطفيه، وأن يَنتفِضَ، قبلَ الشعبِ، على الّذين لَـزِقَوا به كما تَـلَزَقُ قناديلُ البحرِ بأجسادِ السبّــاحين.

• وزير لبناني سابق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى