عُمان وإعادةُ تَعريفِ دَورِ الطاقة: انتقالٌ هادئ في زمنِ السباقِ العالمي

في عالمٍ يتسارَعُ فيه التحوُّلُ الطاقي وتحتدِمُ فيه المُنافسة على وقود المستقبل، تختارُ سلطنة عُمان مسارًا مختلفًا: انتقالًا محسوبًا لا يقوم على القفزات الاستعراضية، بل على إعادة هندسة دور الطاقة داخل الاقتصاد. بين النفط الذي يُمَوِّلُ الحاضر، والطاقة النظيفة التي تُبنى للمستقبل، ترسم السلطنة نموذجًا يستحق التوقُّف عنده.

السلطان هيثم بن طارق: الطاقة المتجددة “يجب ألّا تكون فقط من أجل بيئٍة نظيفة، بل أسلوب حياة… وعلينا أن نمضي بكل قوتنا فيها لضمان مستقبل البلاد”.

مسقط – محمد سليم*

في عالمٍ يُعاد فيه رَسمُ خريطة الطاقة بوتيرةٍ غير مسبوقة، لم يَعُد السؤال المطروح على الدول المُنتِجة للنفط هو: “هل نتحول؟، بل “كيفَ نتحوَّل، وبأيِّ كلفة، وبأيِّ إيقاع؟”. داخلُ هذا المشهد المُعقّد، تختارُ سلطنة عُمان مسارًا مختلفًا في إدارة قطاع الطاقة؛ مسارًا أقل صخبًا من بعض التجارب الإقليمية، لكنه أكثر التصاقًا بحسابات السوق والقدرة التنفيذية. فهنا، لا يجري التعامُلُ مع التحوُّلِ الطاقي بوصفه قفزةً إعلامية أو إعلانَ نوايا، بل باعتباره عمليةَ إعادةِ هندسةٍ اقتصادية طويلة النفس، تُبنى خطوةً بعد خطوة.

من إرث النفط إلى وظيفة جديدة للطاقة

شَكّلَ النفط والغاز لعقودٍ طويلة العمود الفقري للاقتصاد العُماني، ووَفّرا للدولة موارد مالية مكّنتها من بناء البنية الأساسية وتطوير الخدمات العامة. وحتى اليوم، لا يزالُ قطاعُ الطاقة التقليدية يؤدي دورًا محوريًا في الناتج المحلي الإجمالي وفي توازُن المالية العامة. غير أنَّ خصوصية التجربة العُمانية تَكمُنُ في أنَّ هذا الاعتماد لم يتحوَّل إلى حالةِ إنكارٍ للمستقبل، بل إلى دافعٍ مُبكِرٍ للتفكير في ما بعد النفط.

فمحدوديةُ الاحتياطيات مُقارنةً ببعضِ دول الجوار، وارتفاع كلفة الاستخراج، جعلا مسألة الاستدامة الاقتصادية أكثر إلحاحًا. ومن هنا، لم تسعَ مسقط إلى التخلّي السريع عن النفط والغاز، بل إلى إعادة تعريف وظيفتهما داخل الاقتصاد: موردٌ انتقالي يُموِّلُ التحوُّل، لا ركيزة أبدية يُبنى عليها المستقبل. هذا الفهم انعكس في سياساتٍ تهدفُ إلى رفع كفاءة الإنتاج، وخفض الانبعاثات، وتوجيه جُزءٍ متزايد من العوائد نحو الاستثمار في قطاعاتٍ جديدة.

الطاقة المتجددة: من خيار بيئي إلى أصل اقتصادي

خلال العقد الأخير، انتقلت الطاقة المتجددة في عُمان من الهامش إلى صلب النقاش الاقتصادي. فالمزايا الطبيعية —خصوصًا الوفرة الشمسية واتساع المساحات القابلة للتطوير، إلى جانب إمكانات الرياح في بعض المناطق— لم تَعُد تُقرَأ فقط من منظورٍ بيئي، بل كأصولٍ اقتصادية قادرة على توليدِ قيمةٍ مُضافة حقيقية.

هذا التحوُّل في النظرة تَرافَقَ مع توجُّهٍ رسمي واضح لزيادة مساهمة الطاقة النظيفة في مزيج الكهرباء، ليس بوصفها بديلًا كاملًا وفوريًا، بل كمُكوِّنٍ مُتصاعِدٍ يُخفّفُ الضغطَ على الغاز الطبيعي. فكلُّ ميغاواط مُتجدِّد يدخل الشبكة يعني غازًا أقل يُحرَقُ محلّيًا، وكميةً أكبر يُمكن توجيهها للصناعة أو التصدير. ومن منظورٍ اقتصادي بحت، يُعَدُّ هذا التحوُّل إعادةَ توزيعٍ ذكيّة للموارد، لا مجرّد استجابةٍ لالتزاماتٍ بيئية.

غير أنَّ هذا المسار لا يخلو من تعقيدات. فالاعتمادُ المتزايد على مصادر متقطّعة مثل الشمس والرياح يفرضُ تحدّيات تقنية تتعلّقُ بجاهزية الشبكات الكهربائية، وقدرتها على الاستيعاب، إضافةً إلى الحاجة لاستثمارات كبيرة في التخزين وإدارة الأحمال. هذه التحديات لا تُعد استثناءً عُمانيًا، لكنها تكتسب أهمية خاصة في اقتصادٍ يسعى إلى ضبط الكلفة والحفاظ على استقرار الإمدادات.

الهيدروجين الأخضر: طموحٌ محسوب لا مغامرة مفتوحة

إذا كانت الطاقة المتجددة هي “قاعدة التحوُّل”، فالهيدروجين الأخضر هو “الرافعة التصديرية” التي تراهن عليها عُمان لإعادة تعريف مكانتها في أسواق الطاقة العالمية. الهدف العُماني طموح وصريح: إنتاج نحو مليون طن سنويًا بحلول 2030، ثم 3.8 ملايين طن بحلول 2040، وصولًا إلى 8.5 ملايين طن بحلول 2050.

الوكالة الدولية للطاقة تتبنّى الأرقام ذاتها في تحليلها حول إمكانات عُمان، وتذهب أبعد: وفق تقييمها لمسار المشاريع، قد تصبح السلطنة سادس أكبر مصدّر للهيدروجين عالميًا بحلول 2030، والأكبر إقليميًا في الشرق الأوسط.

الطموحات المُعلَنة في هذا المجال كبيرة، لكنها تُقدَّمُ ضمن إطارٍ زمني مُتدرِّج، ما يعكسُ إدراكًا لواقع السوق العالمية. فأسواق الهيدروجين لا تزالُ في طور التشكُّل، والطلب المستقبلي، رُغمَ المؤشّرات الإيجابية، لم يصل بعد إلى مرحلة النضج الكامل. لذلك، تتجنَّب عُمان بناء افتراضاتها على سيناريوهات متفائلة للغاية، وتُفضّلُ تقسيم المشاريع إلى مراحل، وربط التوسُّع بتطوُّر الطلب الفعلي وقدرة الأسواق على استيعاب الإنتاج.

وتبرز هنا نقطةٌ جوهرية في المقاربة العُمانية: المرونة. فشروطُ الاستثمار، وأُطُر الشراكات، وآليات تخصيص الأراضي، خضعت للتعديل أكثر من مرة، في محاولةٍ لمُواءَمة الطموح مع الواقع، وجعل المشاريع قابلة للتمويل في بيئةٍ عالمية تشهدُ ارتفاعًا في أسعار الفائدة وتشدُّدًا في شهيّة المخاطر.

وتتولى شركة “هايدروم” (Hydrom) قيادة ملف الهيدروجين الأخضر ضمن منظومة مملوكة للدولة. لكن التجربة العُمانية تكشف أيضًا أنَّ جذبَ المستثمرين في هذا القطاع ليس تلقائيًا. تقريرٌ صحافي متخصِّص أشارَ إلى أنَّ أول جولتين من مزادات تخصيص الأراضي (2022 و2023) شهدتا اهتمامًا محدودًا، ما دفع إلى تليين الشروط وإطلاق جولة ثالثة.

اللافت أنَّ الجولة الثالثة أصبحت أكثر “مالية” في أدواتها: وثيقة مزاد رسمية من “هايدروم” تتحدث عن تخفيض 90% من رسوم إيجار الأراضي خلال مرحلة التطوير، وإعفاء ضريبي للشركات حتى 10 سنين، مع حوافز أخرى لتحسين اقتصاديات المشاريع وتسريع قرارات الاستثمار النهائي. هذا تحوّلٌ مهم في عقلية إدارة الاستثمار: من “تعالوا استثمروا” إلى “كيف نجعل العائد/المخاطر منافسًا عالميًا”.

المناطق الاقتصادية: حيث تتجسّدُ الاستراتيجية على الأرض

تلعبُ المناطق الاقتصادية والحرّة دورًا محوريًا في تحويل الرؤية الطاقيّة إلى مشاريع ملموسة. ففي الدقم، وصحار، وصلالة، تتقاطع ملفات الطاقة مع الصناعة والخدمات اللوجستية، ما يخلق منظوماتٍ مُتكاملة بدل مشاريع معزولة.

في هذه المناطق، لا تُنتَجُ الطاقة من أجلِ الطاقة وحدها، بل بوصفها مَدخَلًا لسلاسل قيمة أوسع: صناعات تحويلية، مواد وسيطة، خدمات نقل وتخزين، وفُرَص تصدير. هذا التكامُل يُقلّلُ من كلفة المشاريع، ويزيد من جاذبيتها الاستثمارية، ويمنحها قدرةً أكبر على الصمود في وجه تقلّبات السوق.

كما إنَّ تخصيصَ مساحاتٍ واسعة لمشاريع الطاقة المُتجدِّدة والهيدروجين يعكسُ فهمًا بأنَّ الجغرافيا ليست عنصرًا محايدًا في اقتصاد الطاقة الجديد، بل عاملًا تنافسيًا حاسمًا. فالقربُ من الموانئ، وتوافُر البنية الأساسية، وسهولة الربط بالشبكات، كلُّها عناصر تؤثّر مباشرةً في جدوى المشروع.

الاستثمار والتمويل: بين الطموح والانضباط

يتطلّبُ التحوُّلُ الطاقي استثماراتٍ ضخمة وطويلة الأجل، وهو ما يضُع مسألة التمويل في صدارة التحدّيات. وفي هذا السياق، تبدو التجربة العُمانية أقرب إلى “الانضباط المالي” منها إلى الاندفاع. فالدولة تحرصُ على جذب رأس المال الخاص، وتجنُّب تحميل الميزانية العامة مخاطر مُفرِطة، مع الاحتفاظ بدورٍ تنظيمي وإشرافي قوي.

هذا النهجُ قد يجعل وتيرة التنفيذ أبطأ مُقارنةً بنماذج تعتمد على الإنفاق الحكومي الكثيف، لكنه في المقابل يُقلّل من مخاطر التعثُّر، ويُعزّز ثقة المستثمرين في المدى الطويل. وفي عالمٍ تتغيَّرُ فيه شهية التمويل بسرعة، قد يكون هذا التوازُن ميزةً أكثر منه قيدًا.

مقارنة خليجية: اختلاف في الإيقاع لا في الاتجاه

عند النظر إلى المشهد الخليجي الأوسع، يتّضحُ أنَّ دولَ المنطقة تشترك في الهدف النهائي: تنويع مصادر الطاقة وبناء اقتصادات أقل اعتمادًا على الكربون. غير أنَّ الاختلافَ يظهر في الإيقاع والأدوات. فبينما يميلُ بعضُ الدول إلى إطلاقِ مشاريع عملاقة بسرعة مدفوعة بقدراتٍ مالية ضخمة، تختار عُمان مسارًا أكثر تدرُّجًا، يوازِن بين الطموح والقدرة التنفيذية.

هذا الاختلاف لا يعني تفوُّقَ نموذجٍ على آخر بقدر ما يعكس اختلاف السياقات الاقتصادية والمالية. فالنموذجُ العُماني يقوم على إدارة المخاطر بحذر، وربط التوسُّع بتطوُّر السوق، بدل الرهان على السبق الزمني وحده. وفي بيئةٍ عالمية تتَّسِمُ بإعادةِ تسعيرِ المخاطر، قد يمنح هذا النهج السلطنة مرونةً إضافية.

التحديات المقبلة: ما بعد التخطيط

رُغمَ التقدُّمِ الملحوظ في صياغة الاستراتيجيات وإطلاق المشاريع، يبقى التحدّي الحقيقي في مرحلة التنفيذ. فنجاحُ التحوُّل الطاقي سيعتمدُ على قدرة السلطنة على تطوير شبكات كهرباء ذكية، وبناء منظومات تخزين فعّالة، وتأهيل كفاءات بشرية قادرة على تشغيل تقنيات جديدة ومعقّدة.

كما إنَّ مستقبل الهيدروجين الأخضر سيظلُّ مُرتبطًا بسرعةِ تَشَكُّلِ الطلب العالمي، وتحوُّلِ التعهّدات المناخية في الدول المستوردة إلى عقودِ شراءٍ طويلة الأجل. أيُّ فجوةٍ بين العرضِ المُخَطَّط والطلب الفعلي قد تفرضُ إعادةَ ضبطٍ للأهداف والجداول الزمنية.

التحوُّل كمسارٍ لا كقفزة

في المحصّلة، لا تُقدِّمُ سلطنة عُمان نفسها بوصفها “قصة التحوُّل الأسرع”، بل “قصة التحوُّل المُتَّزِن”. فهي تحاول أن تبني مستقبل الطاقة من دون أن تقطعَ مع حاضرها، وأن تستثمرَ في الوقود الجديد دون أن تهدر قيمة الوقود القديم.

هذا النهج، القائم على التدرُّج والانضباط، قد لا يصنع عناوين صاخبة، لكنه يحمل فرصًا حقيقية للاستدامة. وإذا نجحت السلطنة في تحويل خططها إلى مشاريع عاملة، مدعومةً بتمويلٍ مُستقر وأسواق واضحة، فقد تُثبِتُ أنَّ التحوُّلَ الطاقي لا يحتاج دائمًا إلى القفز في المجهول، بل إلى قراءةٍ دقيقة للواقع، وخطواتٍ محسوبة نحو مستقبلٍ مختلف.

Exit mobile version