أردوغان بَينَ مَجدٍ مُتَخَيَّل وواقعٍ عَنِيد

كابي طبراني*

منذُ أكثر من عشرين عامًا، لا يتعامل رجب طيب أردوغان مع السلطة بوصفها وظيفة سياسية قابلة للتداوُل، بل باعتبارها مشروعًا تاريخيًا شخصيًا. فالرجلُ لا يرى نفسه رئيسًا عاديًا في سجلِّ الجمهورية التركية، بل قائدًا استثنائيًا جاءَ ليُعيدَ رَسمَ موقع تركيا في محيطها، وليُصلح –وفق روايته ورؤيته– مسارًا تاريخيًا انحرفَ منذ سقوط الدولة العثمانية وصعود الدولة الكمالية الحديثة.

هذا الطموحُ لم يَكُن يومًا خفيًا، لكنه في السنوات الأخيرة خرجَ من إطارِ التلميح إلى دائرةِ التصريح. لم يَعُد أردوغان يكتفي بالحديث عن “استقلال القرار التركي” أو “السيادة الوطنية”، بل بات يُقدِّمُ نفسه بوصفه حاملَ مشروعٍ إقليمي، بل حضاري، يُعيدُ لتركيا دورها القيادي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وما حولها.

في السابق، كان أردوغان سَيِّدَ المناورة. يُصعِّدُ الخطاب ثم يتراجع، يخلقُ أزمةً ثم يُحَوِّلها إلى فُرصة، يُخاصِمُ الغرب ثم يَعودُ إليه من باب الضرورة. هذه السياسة، التي يُمكِنُ وصفها بـ”الارتجال البراغماتي”، مكّنته من البقاءِ لاعبًا لا يُمكِنُ تجاوزه، ومن تحقيق مكاسب سياسية داخلية من دون أن يتحمَّلَ كلفة التزامات استراتيجية طويلة الأمد.

لكن هذه المرحلة تبدو اليوم في طور الانتهاء.

ما نَشهَدُهُ الآن هو انتقالٌ واضحٌ من سياسة “التأثير من الهامش” إلى محاولة “القيادة من المركز”. أردوغان لم يَعُد يُريدُ فقط أن يكونَ وسيطًا، أو لاعبَ تعطيل ومُفسِدًا، أو شريكًا صعبًا، بل يسعى إلى أن يكونَ مُهندسَ توازُنات، وصاحبَ كلمةٍ مَرجَعِيّة في ملفّاتٍ تمتدُّ من سوريا إلى القوقاز، ومن شرق المتوسط إلى أفريقيا.

هذا التحوُّلُ يُغيِّرُ قواعدَ اللعبة بالكامل. فالمناورة لا تحتاجُ إلّا إلى مهارةٍ سياسية وحدسٍ شخصي، أما القيادة فتحتاج إلى موارد، ومؤسّسات، واستمرارية، وقدرةٍ على تحمّل الكلفة عندما تسوء الظروف.

سوريا تُمثّلُ المثالَ الأوضح على هذا التناقُض. بالنسبة إلى أردوغان، لم تَكُن سوريا مجرّدَ ملفٍّ أمني أو حدودي، بل رهانًا استراتيجيًا طويل الأمد. سقوطُ نظام بشار الأسد –أو تراجعه الحاسم– بدا له لحظةً تاريخية طالَ انتظارها، وفرصةً لتكريسِ نفوذٍ تركي مباشر سياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا. أردوغان أرادَ أن يُثبتَ أنَّ تركيا قادرةٌ على فرض “النظام” حيث فشل الآخرون.

غير أنَّ الطموحَ يصطدمُ سريعًا بجدارِ الواقع.

أول هذه الجدران هو الاقتصاد. لا يُمكِنُ بناءُ نفوذٍ إقليمي مُستدام من دون قاعدةٍ اقتصادية صلبة. التضخُّمُ المُرتفع، ضعفُ العملة، تراجُعُ ثقة المستثمرين، واستنزافُ الاحتياطات، كلُّها عوامل تجعَلُ الخطابَ الإمبراطوري يبدو بعيدًا من حياة المواطن التركي اليومية. فالإمبراطوريات لا تُدارُ بالشعارات، بل بالقدرة على تمويلِ الحلفاء، وإعادة الإعمار، وتحمُّل الأزمات. وهذه قدرةٌ محدودة لدى أردوغان اليوم.

الجدار الثاني هو الدولة نفسها. فالنظامُ شديدُ المركزية الذي بناه أردوغان ضمن له سيطرةً سياسية شبه مُطلَقة، لكنه في المقابل أضعفَ المؤسّسات، وأفرغَ الإدارة من الخبرة والاستقلالية. القرارُ يُتَّخَذُ بسرعة، لكن تنفيذه بطيء ومُضطَرب. المشاريع الإقليمية الكبرى لا تُدارُ عبر القصر الرئاسي وحده، بل تحتاجُ إلى بيروقراطية كفوءة، وديبلوماسية مرنة، وأجهزة قادرة على العمل بعيدًا من منطق الولاء الشخصي.

أما الجدار الثالث، فهو البيئة الإقليمية. الشرق الأوسط اليوم ليس ساحةً مفتوحة. إسرائيل خرجت من السنوات الأخيرة لاعبًا عسكريًا مُهَيمِنًا، يفرضُ وقائع لا يمكن تجاوزها بالخطاب أو الوساطة. وهنا يصطدم مشروع أردوغان بجدارٍ صلب. رؤيته لسوريا قوية ومركزية، تدور في الفلك التركي، تتناقضُ جذريًا مع الرؤية الإسرائيلية التي تُفضّلُ سوريا ضعيفة، ومُجَزَّأة، وخاضعة لتوازُنِ ردعٍ دائم.

هذا التناقُض ليس تكتيكيًا، بل بُنيويًا. لا يُمكِنُ لأردوغان تجاوزه بسهولة، ولا يُمكِنُ احتواؤه عبر التصعيد الإعلامي وحده. كلُّ مواجهة مع إسرائيل تُعزّزُ صورته داخليًا، لكنها تُقلِّصُ هامشَ حركته خارجيًا، وتضعهُ في مواجهةِ لاعبٍ يملكُ تفوُّقًا عسكريًا ودعمًا دوليًا واسعًا.

في المقابل، تبقى علاقته بالولايات المتحدة علاقة نفعية غير مُستَقرّة. قد يجدُ في بعض الإدارات الأميركية شريكًا براغماتيًا، لكن هذه العلاقة لا تُوفِّرُ ضمانات دائمة. الكونغرس، والمؤسّسات، والحلفاء الغربيون لا ينظرون إلى أردوغان بوصفه قائدًا يُمكِنُ الرهان عليه طويلًا، بل زعيمًا مُتقلّبًا يصعبُ التنبؤ بسلوكه.

داخليًا، يدفعُ أردوغان ثمن خياره في الحكم عبر الاستقطاب والخوف. قاعدته الشعبية لم تَعُد واسعة كما في السابق، والمعارضة –رغم القمع– لا تزالُ حاضرة، واللجوء المُتزايد إلى القضاء والأمن لكبح الخصوم يعكسُ قلقًا سياسيًا أكثر مما يعكس ثقة. والمفارقة أنَّ أيَّ مشروعٍ إقليمي طموح يحتاجُ إلى جبهةٍ داخلية مُتماسِكة، لا إلى مجتمعٍ مُنقَسِمٍ ومُرهَق.

الخطرُ الحقيقي على أردوغان ليس سقوطًا مفاجئًا، بل تآكلًا بطيئًا. كُلَّما رفعَ سقفَ الطموحات، ارتفعت كلفة الإخفاق. وكُلَّما ربطَ نفسه بمشروعٍ “تاريخي”، ضاقَ هامشُ التراجُع. القادةُ الذين يحكمون باسم المجد غالبًا ما يواجهون صعوبة في إدارة الخسارة، لأنَّ التراجُعَ بالنسبة إليهم ليس خيارًا سياسيًا، بل هزيمة رمزية.

أردوغان لا يزال لاعبًا لا يُمكِنُ تجاهله، ويمتلكُ مهاراتَ بقاءٍ استثنائية. لكنَّ اللحظةَ الراهنة مختلفة: لم يَعُد السؤال ماذا يُريدُ أردوغان، فهذا باتَ واضحًا، بل إلى أيِّ مدى يستطيعُ الذهاب قبل أن تفرضَ الوقائعُ الاقتصادية والمؤسَّسية والإقليمية حدودها النهائية على مشروعه.

Exit mobile version