
هنري زغيب*
حين الحديث عن الشعر، يبقى جامدًا حتى يكون الحديث عن الشاعر. فهو الذي، من عبقريته، يَسِمُ الشعر بالعبقرية. وهو، إِن كان مجرَّد نظَّام، يهبط هو وشعره.
في هذه الحلقة تحيةٌ للشاعر الشاعر ومجده وجلال هَيْبَته.
في مديح الشاعر
الشاعر الشاعر، نأْتيه في خَشْعة التهيُّب، خشيةَ خدْش الأَلق الرهيف على شِقّ الغِلالة. معه، نذُوق كيف تكون الرَهافةُ عنوانَ الأَدب، وكيف نقرأُ في الرَهافة والأَناقة فَجرًا من البهاء، في أَدبٍ يتنخَّل الكلمات، يصقُلُها بإِزميلٍ من نُورٍ لا يستقيمُ إِلَّا متى التقى الضَوءُ بالضوء في مقلع الأَصالة، فنَلِجُ إِلى حَرَم النص، شِعريِّهِ ونثْرِيِّه، قياسًا ونَموذجًا ومتانةَ سياق.
علامةُ الشاعر الشاعر أَنه يُنَصِّع اللغة. فنَصُّه نظيف من أَيِّ غبارٍ ثرثار، لأَنه يتعامل مع الكلمةِ صوَّاغَ لؤْلؤٍ في مُحترفِ جواهريٍّ صَناع، ومؤْنقَ طِيبٍ في جونة عطار. يهندسُ نصَّه بالفُرادات النادرات، ولَقِيَّاتٍ تباغِتُ من جمال، فيأْتي عاليًا نثرُه كما عاليًا شِعرُه يكون.
علامتُه، الشاعرُ الشاعر، أَنه يَعتنق الجودة لا الكثرة. لا موضةَ تُغريه، ولا موجةَ تُغويه، ولو عاشَ وسْط جَوٍّ تَهيجُ عليه موجةٌ ينساق في عَلواتها وزبدِها كثيرون من جيله وروَّادٍ أَتراب.
… وعلا الزَبَد
في هذا الجوّ الطالع من موجةٍ ناشئة، ما جرى في النصف الآخَر من خمسينات القرن الماضي: تكوكبَت شُلَّةُ لبنانيين شبابٍ طامِحين إِلى التجديد، إِلى التغيير، قياسًا على موجةٍ بلغَتْهُم من الشعر الأَميركي تَعَنْوَنَت هناك بـ”الشعر الحديث”، وفتحَت لها صفحاتِها مجلة “شعر” (أَسَّستْها هارييت مونرو سنة 1912 في شيكاغو). أَحبَّ أُولئكَ الشباب اللبنانيون أَن يُغامروا، بدعوة من الشاعر يوسف الخال الذي أَسَّس، تَشَبُّهًا بالموجة الأَميركية ذاتها شكلًا ومضمونًا، مجلة “شعر” في بيروت سنة 1957، وفتح صفحاتها لِمن اتَّبع معه “موجة الشعر الحديث”، تَجربةً كان من أَبرز أَهدافهم فيها أَن يتنَطَّحوا للكلاسيكيين. ومثلما نَماذجُهم الأَميركيون داسوا على كل قاعدةٍ وكل وزنٍ وكل قافية (وللشِعْر الأَميركي هويَّةٌ مغايرة عن خصائص شعرنا، ليس لديه أَوزانٌ وبُحورٌ وقوافٍ)، أَخذَ شبابُنا اللبنانيون يتحرَّرون تدريجًا من كل قاعدةٍ عروضية، بالثورةِ على كلِّ شكلٍ كلاسيكيٍّ، وبالتفلُّتِ من كل تفعيلة (وسَمُوها بالـ”عتيقة”، معتبرين أَنهم “جُدُد” و”حديثون” أَو “حداثَوِيّون”). تَخلَّى معظمُهم عن كتاباتٍ له كلاسيكيةٍ سبقَت مغامرتَهم الجديدة، وجعلوا – مرحليًا ولفترةٍ أُولى – يعتمدون التفعيلة المدوَّرة (آخذين بتَجربة بدر شاكر السياب ونازك الملائكة فعبدالوهاب البياتي في العراق). ثم تَحرَّروا كلِّيًّا من كلِّ شكلٍ كلاسيكيٍّ (بَحرًا وتفعيلةً مدوَّرة)، فانفلتَ المعيارُ عشوائيًّا طافرًا إِلى نثْرٍ لم يشاؤُوا أَن يتركوه بلا هُويَّةٍ فسمَّوه “قصيدة النثر”.
كان في لبنان فترتَئذٍ مَن عايش تلك الموجة صديقًا لأُولئك “الثائرين المجدِّدين”. زاملهم تَجديدًا، ولم يزامِلْهُم موجةً جعلَت من بعض نُصوصهم قفزةً في مَجهولٍ ما زال يتناسل حتى اليوم مَجهولاتٍ واسعةً على اسم “التجديد”، ويُنتج هَذَرًا مَجَّانيًّا مُسطَّحًا باسم الشعر أَو باسم النثر، لا شُغْلَ فيه نظْمًا، ولا نَحتَ فيه نثرًا. وهو ليس سوى كلامٍ مُرسَلٍ، منه اللفظيُّ المَجانيُّ ومنه الصوَريُّ البَرَّانيُّ، وليس منه في الحالتَين بَدْعٌ جَمالِيّ. والفنُّ، في جوهره، صناعةُ الجمال.
لا خيانة للأُصول
الشاعرُ الشاعرُ يُجدِّد من قلب الأُصول لا من خارجها. يَصدرُ تَجديدُه عن جذْعٍ مباشَر، طالعٍ من جذورٍ سلسلةِ الإِرث الشعري. وبـ”الإِرث” أَعني “الأُصول” التي سنَّها الروَّاد عن خبرةٍ وتَجربةٍ وطُول اكتساب. ومع وعْيِنا التام بضرورة أَلَّا نتحنَّطَ ضريريًا في التمسُّك بأُصولٍ كانت في زمانها لازمةً وباتت اليوم خارج العصر، نعي كذلك أَنَّ الخروجَ على الأُصول يؤَدِّي إِلى نتاجٍ طِرْحٍ لقيطٍ وهجينٍ لم يستكمل فترةَ الحَمْل الطبيعية. فكيف يكون مَمنوعًا أَيُّ خُروجٍ عن الأُصول في الطب والعلْم والهندسة والقانون، ويكون مسموحًا في الأَدب؟ هناك، الرقْم سيِّدٌ لا يَقْبل الجدَل. وهنا، الذوقُ اصطلاحٌ قد يقبل الجدَل. ومثلما الرقم يَضبُط فيَحسُم، كذلك للذوق معيارٌ يضبُط فيَحزُم، آتٍ في أُصوله من منطق الرقم اللايُناقَش منطقُه. وكلُّ ما لا ينضبط في معيارٍ، ينفلت إِلى فوضى. فلنعتمِدْ منطقَ الرقمِ الصارمِ حزمًا ضابطًا معيارَ الذوق، للبقاء في نعمى الأُصول.
الحزم شعرًا ونثرًا
من هذا “الحزم” أَنَّ الشعر غيرُ النَظْم. بل الشعرُ أَسْوَأُهُ النَظْم، وأَبلَغُه ما خلا من التذكير بالنَظْم. النَظْمُ ياطرُ القصيدة، يَختفي عميقًا عميقًا في قعر القعر فلا يَظهر، من أَجل أَن تظهرَ القصيدةُ على وجه الحالةِ، ثابتةً بَهيَّةً، في جَمالٍ منظور بفضل الياطر غير المنظور.
قياسًا على هذا الأَعلاه: النثرُ غيرُ السَرْد. بل النثرُ أَسْوَأُهُ السرْد التقريري، وأَبلغُهُ ما خلا من السرْد المسطَّح. السرْدُ أَرضيّةٌ يقف النثر عليها لينطلقَ منها إِلى فضاءاتٍ تتدرَّج من المباشر المسطح، إِلى الأَدب المشغول، إِلى النثر الجماليِّ الفنيِّ، في جماليا قلائدَ غيرِ “منظومةٍ قصائدَ” لتكون عِقْدَ شعر، وإِنّما هي “منثورةٌ نضائدَ” في ذوقٍ نثريٍّ تركيبِيٍّ هو في ذاته فنٌّ فخمٌ أَنيق.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت – دُبَي).
