راغب الشيباني*
لم يَعُد النموُّ الاقتصادي في المملكة العربية السعودية حكرًا على المشاريع العملاقة أو الاستثمارات الحكومية الضخمة، بل بات يتشكَّلُ على نحوٍ مُتزايد من القاعدة، عبر أفرادٍ ومشاريع صغيرة وعاملين لحسابهم الخاص أصبحوا جُزءًا أصيلًا من معادلة التنمية. هذا التحوُّلُ لا يَعكِسُ فقط تغيُّرًا في أدوات الاقتصاد، بل يشيرُ إلى إعادةِ صياغةٍ أعمق لدور الفرد داخل المنظومة الاقتصادية، ودور الدولة في توجيهها وتنظيمها.
الاقتصاداتُ الحديثة لم تَعُد تُقاسُ فقط بحَجمِ الإنفاق أو عدد الشركات الكبرى، بل بقدرتها على خلقِ فُرَصٍ مُستدامة، وتوسيعِ قاعدة المشاركة الاقتصادية، وتعزيزِ المرونة أمام الصدمات. من هذا المُنطلق، تكتسبُ المشاريع الصغيرة والعمل الحرّ أهمّية مُتزايدة، بوصفهما نموذجَين قادرَين على توليد الدخل، وخلق الوظائف، وتحفيز الابتكار، خصوصًا في القطاعات غير النفطية التي تُمثّلُ ركيزةً أساسية لمرحلة ما بعد الاعتماد على الموارد التقليدية.
في السياق السعودي، يبرزُ هذا التحوُّلُ بوضوح في المدن الصغيرة والمناطق الطرفية، حيثُ لا تصل الاستثمارات الكبرى بالوتيرة نفسها التي تشهدها المدن الرئيسة. هنا، يتحوّلُ المشروعُ الصغير من نشاطٍ اقتصادي محدود إلى أداةٍ تنموية حقيقية، تُسهِمُ في إبقاء رأس المال داخل المجتمع المحلي، وتحدُّ من الهجرة الداخلية، وتخلقُ فُرَصَ عملٍ تتناسب مع خصوصيّة كل منطقة. هذه الديناميكية تجعلُ من دعم المشاريع الصغيرة والعمل الحر خيارًا استراتيجيًا لتحقيق نموٍّ مُتوازن، لا مجرّدَ سياسةٍ اجتماعية أو استجابة ظرفية لسوق العمل.
غير أنَّ الرهانَ على هذه الفئات يفرضُ تحدّياتٍ لا يمكن تجاهلها. فالتمويلُ، رُغمَ أهمّيته، لا يُمثِّلُ سوى جانبٍ واحد من معادلة النجاح. التجربةُ العملية تُظهِرُ أنَّ كثيرًا من المشاريع الصغيرة تتعثّرُ في مراحلها الأولى بسبب ضعف الخبرة الإدارية، أو غياب التخطيط، أو محدودية القدرة على الوصول إلى الأسواق. من هنا، تُصبحُ مسألةُ بناء القدرات —عبر التدريب، والإرشاد، وتوفير المعرفة— عاملًا حاسمًا في تحويل المبادرات الفردية إلى مشاريع قابلة للاستمرار والنمو.
التحوُّلُ نحو العمل الحرّ يعكسُ بدوره تغيُّرًا في طبيعة سوق العمل وتطلُّعات القوى العاملة، خصوصًا بين الشباب والنساء. المرونة التي يوفّرها هذا النموذج، سواء من حيث الوقت أو المكان أو طبيعة التعاقد، تجعله أكثر توافُقًا مع أنماط الحياة الحديثة. لكنه في المقابل يطرحُ تساؤلاتٍ حول الاستقرار والدخل والحماية الاجتماعية، وهي قضايا تتطلّبُ أُطُرًا تنظيمية مُتوازِنة تضمن المرونة بدون التفريط في الحدِّ الأدنى من الأمان الاقتصادي.
ومن زاويةٍ أوسع، يُسهِمُ هذا التوجه في إعادة تعريف مفهوم “الأمان الوظيفي”. فبدل الاعتماد على وظيفةٍ واحدة طويلة الأمد، يُصبحُ امتلاكُ مهارةٍ قابلة للتسويق، وقدرة على التعلُّم المستمر، وتنويع مصادر الدخل، هو الضمان الحقيقي للاستقرار. هذا التحوُّل الثقافي لا يحدث بين ليلة وضحاها، بل يحتاجُ إلى دورٍ فاعلٍ من التعليم والإعلام في ترسيخِ قِيَمِ العمل المُنتج، والمبادرة، والمسؤولية الفردية.
كما إنَّ للمشاريع الصغيرة والعمل الحر دورًا متزايد الأهمية في تمكين المرأة اقتصاديًا. فهذه النماذج تفتحُ المجالَ لمُشاركةٍ أوسع، بعيدًا من بعض القيود التقليدية لسوق العمل، وتمنح المرأة مساحةً أكبر لبناء مشاريعها الخاصة أو تقديم خدماتها بمرونة. غير أنَّ نجاحَ هذا المسار يتطلّبُ التأكُّد من أنَّ التمكين لا يظلُّ في إطار الأرقام، بل يُتَرجَمُ إلى دخلٍ مُستدام وقدرةٍ حقيقية على النمو والتوسُّع.
اقتصاديًا، يُعزّزُ اتساعُ قاعدة المشاريع الصغيرة والمستقلين من متانة الاقتصاد الكلّي. فتنوُّعُ مصادر الإنتاج والدخل يُقلّلُ من المخاطر، ويجعلُ الاقتصاد أكثر قدرة على امتصاص الصدمات الخارجية. كما إنَّ الابتكارَ في هذا النموذج لا يقتصرُ على الشركات الكبرى، بل ينبع من القاعدة، حيث الأفكار الصغيرة قادرة —إذا وجدت البيئة المناسبة— على التحوُّل إلى أنشطةٍ ذات قيمة مضافة عالية.
لكنَّ التحدّي الأبرز يبقى في تحقيقِ التكامُلِ بين المبادرات المختلفة، وتجنُّبِ تشتُّتِ الجهود. فنجاحُ هذا المسار لا يعتمدُ على كثرة البرامج بقدر ما يعتمد على وضوح الرؤية، وسلاسة الانتقال من مرحلةِ التأسيس إلى مرحلةِ النمو، ثمَّ إلى الاستدامة. المشاريع الصغيرة والعمل الحر ليسا هدفًا بحدِّ ذاتهما، بل وسيلة لبناء اقتصاد أكثر شمولًا وكفاءة.
في المحصّلة، يشيرُ التحوُّل الجاري في السعودية إلى رهانٍ واضح على الفرد المُنتِج بوصفه محرِّكًا أساسيًا للنمو. هذا الرهان، إذا ما أُحسِنَت إدارته، يمكن أن يؤسّسَ لاقتصادٍ متنوِّع القاعدة، وأكثر مرونة، وأقدر على تحقيق أهداف التنمية طويلة الأمد. أما نجاحه الحقيقي، فلن يُقاسَ بعدد المبادرات أو حجم التمويل، بل بقدرة هذه المشاريع والأفراد على الاستمرار، والنمو، والمساهمة الفعلية في بناءِ اقتصادٍ مستدام يتجاوز منطق الحلول المؤقتة إلى أُفُقِ التحوُّلِ الهيكلي.
- راغب الشيباني هو مراسل “أسواق العرب” في المملكة العربية السعودية.
