دولةٌ بلا نقد: كَيفَ تُعيدُ السعودية رَسمَ اقتصادِها؟

كابي طبراني*

لم يَعُد التحوُّلُ السعودي نحو المدفوعات الرقمية مُجرَّدَ تطوُّرٍ تقني أو انعكاسٍ لتَغَيُّرِ سلوكِ المُستهلِكين. ما يجري اليوم أعمق من ذلك بكثير. فالمملكة العربية السعودية تمضي، بهدوء ولكن بثبات، في إعادةِ تنظيمِ طريقةِ عملِ اقتصادها، واضعةً تقليص الاعتماد على النقد في صلبِ مسارٍ أوسع نحو اقتصادٍ أكثر كفاءةً وشفافيةً وقُدرةً على النمو.

خلالَ فترةٍ زمنية قصيرة، تَغَيَّرَ مشهدُ الدفع في المملكة بشكلٍ لافت. ففي العام 2023، أصبحت 70% من مدفوعات التجزئة إلكترونية، فيما جرى تنفيذ 96% من عمليات نقاط البيع عبر وسائل غير تلامُسية. وبحلول العام 2024، ارتفعت نسبة التعاملات غير النقدية إلى 79%، لتقترب السعودية فعليًا من تحقيق أحد أهداف “رؤية 2030” الأساسية. هذه القفزة لم تكن تلقائية، بل جاءت نتيجةَ تَوَجُّهٍ رسميٍّ واضح للحدِّ من دور النقد، وما يرافقه من كلفةٍ اقتصادية غير مرئية.

فالنقد، رُغمَ بساطته الظاهرية، يُقيِّدُ حركةَ المال ويُضعِفُ الشفافية، ويُبقي جُزءًا من النشاط الاقتصادي خارج نطاق القياس والتمويل. أما المدفوعات الرقمية، فتُوفِّرُ سرعةً في دوران رأس المال، وتُنتِجُ بياناتٍ دقيقة، وتُسهِمُ في تحسين التخطيط المالي للشركات. ولا يقتصرُ أثرُ هذا التحوُّل على تسريع المعاملات أو تحسين الكفاءة التشغيلية، بل يمتدُّ إلى صلب النمو الاقتصادي نفسه. فبحسب دراساتٍ دولية في هذا المجال، يرتبطُ ارتفاع اعتماد المدفوعات الرقمية بزيادةٍ ملموسة في الناتج المحلي الإجمالي، وبانحسارٍ تدريجي للاقتصاد غير المُنَظَّم. وكلّما توسّعَ استخدامُ القنوات الإلكترونية في الدفع والتحصيل، باتَ النشاطُ الاقتصادي أكثر قابلية للقياس والتمويل، ما ينعكسُ مُباشرةً على الإنتاجية وعلى قدرة الدولة والقطاع الخاص على التخطيط واتخاذ القرار بناءً على بياناتٍ دقيقة لا تقديراتٍ عامة.

ويتّضحُ أثر هذا التحوّل بشكلٍ خاص في قطاع الشركات الصغيرة والمتوسطة، الذي يشكّل العمود الفقري للاقتصاد غير النفطي. فالمدفوعات الرقمية تُسرّع دورة التحصيل، وتُخفّض الأخطاء التشغيلية، وتُسهّل بناء سجل مالي يسمح بالوصول إلى التمويل الرسمي. ومع اتساع استخدام هذه الأدوات، يصبح دمج هذه الشركات في الاقتصاد المُنَظَّم أسهل، ما يعزز قدرتها على النمو والتوسع والمنافسة، ويقلّص في الوقت نفسه اعتمادها على الحلول النقدية المُكلفة وغير المُستقرّة.

اللافت في التجربة السعودية أنَّ هذا التحوّل لم يتم على حساب الاستقرار المالي. فقد جرى إدماج التكنولوجيا المالية ضمن إطارٍ تنظيمي واضح قادته الجهات الرسمية، وعلى رأسها البنك المركزي السعودي وهيئة السوق المالية. من خلال التراخيص، والمختبرات التنظيمية، ومبادرات المصرفية المفتوحة، فُتِحَ المجال أمام الابتكار، لكن ضمن قواعد تضمن حماية المستهلك وتعزيز الثقة. هذا التوازن بين الانفتاح والتنظيم كان عاملًا حاسمًا في تسريع وتيرة التبنّي، ومنع الفوضى التي شهدتها أسواق أخرى.

وتُظهر الأرقام نتائج هذا النهج بوضوح. فقد ارتفع عدد شركات التكنولوجيا المالية من 10 شركات فقط في العام 2018 إلى أكثر من 260 شركة بحلول العام 2024، متجاوزًا الأهداف المُعلَنة قبل موعدها. كما استقطب القطاعُ استثمارات تجاوزت 7.9 مليارات ريال، ووَفّرَ أكثر من 11 ألف وظيفة مباشرة، ما يجعله أحد المحرِّكات الجديدة للنمو وتنويع القاعدة الاقتصادية. هذه الأرقام تَعكسُ تحوُّل التكنولوجيا المالية إلى قطاعٍ إنتاجي بحدِّ ذاته، لا مجرَّد خدمةٍ مُسانِدة، ودورها في خلق وظائف نوعية واستقطاب رأس المال في إطار الاقتصاد غير النفطي.

في هذا السياق، لعبت الشركات المحلية دورًا محوريًا في دفع التحوّل من الفكرة إلى التطبيق. فقد أظهرت تجارب شركات مثل “هايبر باي” (HyperPay) كيفَ يُمكِنُ لحلول الدفع أن تتجاوز دورها التقليدي لتصبح جُزءًا من البنية التشغيلية للشركات، عبر خدماتٍ مثل الفَوتَرة الرقمية، والمدفوعات المُؤتمَتة، وأدوات التحليل. الأهمية هنا لا تكمن في التكنولوجيا بحدِّ ذاتها، بل في أثرها العملي في تحسين السيولة وتقليص الأعباء الإدارية، خصوصًا لدى المؤسسات الصغيرة والمتوسطة.

إقليميًا، لا يُمكنُ فصلُ التحوّل السعودي عن الزخم الخليجي الأوسع في مجال التكنولوجيا المالية. فأنظمة الدفع الفوري، والتمويل المفتوح، وتسهيل المعاملات العابرة للحدود، كُلُّها مؤشرات إلى سباقٍ صامت على بناءِ بُنيةٍ تحتية مالية رقمية أكثر تكامُلًا. وفي عالمٍ تتراجع فيه أهمية النقد تدريجًا، تتحوَّلُ شبكاتُ الدفع إلى عنصرٍ أساسي من عناصر القوة الاقتصادية، لا مجرَّد خدمةٍ مالية.

ومع اقتراب المملكة من تحقيق هدفها المُتعلِّق بالمدفوعات غير النقدية، يبرزُ سؤالُ المرحلة التالية: ماذا بعد؟ هنا، لا يتوقف التحوّل عند الدفع الإلكتروني، بل يمتدُّ إلى استخدام الذكاء الاصطناعي في التحليل المالي، وتوسيع حلول نقاط البيع عبر الهواتف الذكية، وتمكين المشاريع الصغيرة جدًا من دخول الاقتصاد الرقمي بأدواتٍ مُنخفضة الكلفة. هذا الانتقال من “رقمنة الدفع” إلى “ذكاء البيانات المالية” يشير إلى مرحلةٍ أكثر نضجًا، تُصبحُ فيها المدفوعات مدخلًا لإدارة الأعمال واتخاذ القرار، لا مجرَّد وسيلةٍ لإنجاز المعاملات.

في المحصّلة، لم تَعُد المدفوعات الرقمية في السعودية مجرّدَ وسيلةِ دَفٍع أسرع أو أكثر حداثة، بل باتت عنصرًا أساسيًا في إعادة تنظيم الاقتصاد ورفع كفاءته وتوسيع قاعدة الشمول المالي. غير أنَّ هذا التحوُّل، على اتساعه، لا يخلو من تحدّياتٍ حقيقية لا يمكن تجاهلها إذا أُريدَ له أن يترسَّخَ في المدى الطويل.

فالتوسُّعُ السريع في استخدام القنوات الرقمية يَضَعُ ضغوطًا مُتزايدة على منظومات الأمن السيبراني وحماية البيانات، في وقتٍ تُصبحُ الثقة شرطًا أساسيًا لاستمرار التبنّي. كما إنَّ الفجوةَ في المهارات الرقمية، سواء لدى بعض فئات المستخدمين أو لدى الشركات الصغيرة جدًا، قد تُبطئ الاستفادة الكاملة من هذه الأدوات، ما لم تُواكَب بسياساتِ تدريبٍ ودَعمٍ فعّالة. يُضافُ إلى ذلك أنَّ الاعتمادَ المُتزايد على البيانات والأنظمة المُؤَتمَتة يفرضُ تحدّياتٍ تنظيمية جديدة، تتعلّقُ بخصوصية المعلومات، وتكافؤ الفُرَص، ومنع تركُّز القوة التقنية في أيدي عددٍ محدود من اللاعبين.

إلى جانب ذلك، يَظلُّ تنسيقُ الأُطُر التنظيمية إقليميًا مسألةً مفتوحة، خصوصًا مع تزايُد المعاملات العابرة للحدود، ما يجعلُ نجاح التحوُّل المحلي مُرتَبِطًا جُزئيًا بمدى الانسجام مع الأسواق المجاورة. فاقتصادُ المدفوعات لا يتوقّفُ عند الحدود الوطنية، وأيُّ اختلالٍ في هذا التنسيق قد يتحوّلُ إلى عبءٍ تشغيلي أو تنافُسي.

ومع ذلك، تبقى هذه التحدّيات جُزءًا طبيعيًا من أيِّ انتقالٍ بُنيوي واسع النطاق، لا مؤشِّرًا إلى فشله. فالسؤالُ لم يَعُد ما إذا كانت السعودية قادرةً على تقليص اعتمادها على النقد، بل ما إذا كانت ستنجح في إدارة كلفة هذا التحوّل وضبط مخاطره بالقدر نفسه الذي تُديرُ به فُرَصَهُ. وفي اقتصادٍ عالمي تحكمه البيانات وسرعة تدفّقات المال، يبدو أنَّ الرهان الحقيقي لا يكمن في رقمنة الدفع بحدِّ ذاتها، بل في بناءِ منظومةٍ مُتوازِنة تجعلُ من هذا التحوُّلِ أداةَ نموٍّ مُستَدام، لا مُجرَّد قفزةٍ تقنية.

Exit mobile version