في حديث الشعر (24)

أَبو حيَّان التوحيدي: مبدأُ الاقتعاد

هنري زغيب*

كثيرًا ما نذكر الشعر كـ”كائن” آخر محايد، أو نرى إليه خارج الصورة حين نتحدث عن الشاعر. غير أنه “كائن” حيٌّ مستقلٌّ غيرُ مُحايد، تمكن مخاطبته بهذه الاستقلالية كأنه الشاعر، كأنه الأَصل، كأنه المصدر.

من هذه المبادئ تولد حقيقةُ الشعر ويَتَبَلْوَر جوهره.

وهذا الجوهر هو معيار النظر إِلى الشعر فنًّا فخْمًا عظيمًا.

إِنه التَقَيُّد بالأُصول تَحَرُّرًا من التقليد اليابس.

وهذا ما سيبدو واضحًا في هذه الحلقة.

طه حسين: عميد الأدب ومنظِّرُهُ الوفيّ

في امتداح الشعر

أَن نكونَ في حضرة الشعر، يعني أَننا مُستخلَصون لنستحقَّ الدخول إِلى حَرَمٍ مقدَّسٍ له هَيبتُهُ وطقوسه، ومُختارون يَستحقُّون إِليه الدخول. فليس كلُّ داخلٍ مستحقًّا، زارعًا جاءَ شاعرًا، أَو حاصدًا جاءَ قارئًا أَو على نقد.

الشعرُ عملٌ فَنِّيٌّ صعبٌ، لا يأْتي من هوايةٍ، ولا من غوى التباهي بلقب “شاعر”. إِنه، ككلِّ فنٍّ عظيمٍ، إِبداعٌ فاخر تقدِّمه النُخبة إِلى العامة. والإِبداع، أَصلًا، ابنُ الصعوبة، وسليلُ أُصولٍ صارمةٍ هي حصيلةُ تجربةِ أَجيال، وتلميدُ قواعدَ صعبةٍ وأُسسٍ عميقةٍ مُكَرَّسَةٍ في طقوسها. من هذه الصعوبة والأُصول والقواعد والأُسس، تولدُ القصيدةُ وتَتَذَهَّبُ في شمس البساطة. تمامًا كَحبَّة القمح: تنْزل صوب الجذور حتى تَطْلَع مُختمِرةً ناضجةً تتذهَّب في الشمس سنبلةً، يَخالُها الطُفَيليُّون بسيطة، ولا بسيط فيها سوى الشكل، أَما المضمون فاختمارٌ بالقواعد والأُصول.

فيكتور هوغو: هامة الكلاسيكيَّة في الأَدب الفرنسيّ

الكلاسيكية عابرة العصور

إِذًا: القصيدةُ بَرقٌ وميضٌ يتركُ فيك رعدًا كثيرًا. والشعرُ اختزالٌ في التقاط هنيهة البرق. والشاعرُ الشاعرُ مَن يعرف كيف يُشعل لَحظةَ برقٍ قليلةً، ويتركُ فيك لَحظاتِ رعدٍ طويلة.

هنا عظَمةُ الكلاسيكيةِ، عابرةِ العصور إِلى نهاية العصور. وتَصدُقُ فيها عبارةُ الشاعر جورج غرَيِّب: “الكلاسيكيةُ عصًا سِحريةٌ في يد قائد أُوركسترا، ريشةٌ مُترَفَةٌ بين أَناملِ رسَّام، وتَرٌ يوجعُهُ الصَريرُ تَحت نقرات عوَّاد، لُعبةٌ يُمارسُ العِشقَ معها مفتونٌ لا يرحَم! وإِنما بهذه الكلاسيكيّة تُشادُ الرّوائع”.

رئتان للشعر

للشعر رئتان: الموهبة والتقْنية متلازمتان مضمونًا وشَكلًا، وثالوثٌ رئيسٌ: التناغُم والتناسُق والإِيقاع، متلازمٌ وكينونة الإِنسان في طبيعة قائمةٍ أَصلًا على التناغُم والتناسُق والإِيقاع.

الطبيعة، نعم. ولا نُشيحَنَّ عنها باسم الحداثة والتجديد. الشمسُ قديمةٌ لا تتجدَّد. ومع ذلك ليس من يقول إِنها صارت موضةً عتيقةً بعد اكتشاف الكهرباء. والمناقبية لا تَهرم، والأَخلاق لا تَشيخ. وهكذا الأُصولُ في الشعر: لا يَجوز اغتصابُها بِاسم الرفض، والتعدِّي على تراثها بِاسم الحداثة، وإِهمالُ ثوابتِها باسم العَصرنة والثورة والتغيير. لا يُثار على دُربةٍ وراءَها خبرة. إِن اتِّباعَ الأُصولِ والإبداعَ من داخلها، يولِّدان الجمال، ويكونان معيار المبدع الحقيقي. وهو ما أَلْمحَ إِليه، في مطلع القرن الحادي عشَر، الحكيمُ الصوفيُّ أَبو حيَّان التوحيدي: كان على رحابةٍ في تشجيعه التجديدَ والتحديثَ، إِنَّما وَفْقَ ما سمَّاه “مذهب الاقتعاد”. قيل له: “وما الاقتعاد؟” قال: “أَلَّا تَخرُجوا عن الأُصول، وأَن تُجَدِّدوا، ما شئتُم، إِنما من ضمن القاعدة”.

التجديد ليس الخروج على القواعد

كما ليسَ التجديدُ “الحداثوي” في الخروج على نغمية الإِيقاع، كذلك ليس النَظْمُ وزنًا وبحرًا وقافيةً هو الشعر. القصيدةُ الكلاسيكية (والنِّيوكلاسيكية) عمارةٌ شعريةٌ تقوم، ككُلّ عمارةٍ متينة، على هندسةٍ دقيقةٍ وتقْنيةٍ دقيقةٍ يُشرف عقْلٌ تقْنيٌّ على اشتغالِها الدقيق، حتى تَنضَجَ القصيدةُ مثلما يَنضَجُ، قُبلةً بعد قُبلةٍ، قرصُ العسل.

إِذًا: لا تنْثيرُ القصيدة هو الحداثة، ولا تقْفية الكلام موزونًا هو الشعر. التجديدُ ليس التغييرَ المرتَجَلَ اللقيط. الوردةُ تُجدِّد من داخل العطر، والكنارُ من داخل كَرَّاته، وغروبُ الشمس من داخل أَلوانه. فلا يَرتكبنَّ أَحدٌ إِثمَ النثرية باسم الشعر، أَو إِثمَ الشعرية باسم النثر. لكل كتابةٍ أُبوَّتُها وبُنُوَّتُها ونظامُها. الشعر فنٌّ فخْمٌ عظيمٌ، والنثر فنٌّ فخْمٌ عظيم. وإِذا للنثر قواعدُهُ وأُصوله التي بها يفاخر ولها يتعصَّب وعنها يدافع، فالشعر عِقْد منظومٌ بتقْنيةٍ صعبةٍ وعجيبة. من هنا أَنَّ الوزن فَخٌّ خطير: يقع فيه المتلطِّي خلْفه ليدَّعي شعرًا، ويَهرُب منه المُقَصِّرُ عنه فيدَّعي أَنَّه يكتب “الشعر الحديث”.

الشعر الشعر؟ وحدَه الباقي منذ أَول العصور، ويبقى إِلى آخِر الزمان. تَهُبُّ عليه العواصف، تعلو عليه الموجات، تُحاصره الموضات والدُرْجات والفُرجات، وهو يبقى سائرًا بأُبَّهةٍ الجبل، راسِخًا صلْبًا في جذوره المبارَكة ككبرى شجرات السنديان.

Exit mobile version