معركةُ ما بَعدَ الصناديق في العراق: هل ينجو السوداني من قَبضَةِ المالكي؟

رُغمَ تصدُّرِ ائتلافه الانتخابات النيابية، يجد محمد شياع السوداني نفسه وسطَ معركةٍ أعمق من الأرقام، في مشهدٍ سياسي تُحدِّدهُ التحالفات أكثر مما تُحَدِّدهُ الصناديق. فعودةُ “الإطار التنسيقي” إلى الواجهة، وحركة المالكي خلف الكواليس، تُعيدان طرحَ السؤال القديم–الجديد: مَن يملكُ حقَّ اختيار رئيس وزراء العراق فعلًا؟

العراق ينتخب، وماذا بعد ذلك؟

فلاديمير فان ويلغنبيرغ*

برزَ ائتلافُ الإعمار والتنمية بزعامة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني كأكبرِ قوّةٍ برلمانية في الانتخابات العراقية التي جرت في 11 تشرين الثاني (نوفمبر) الفائت، بعد حصوله على 46 مقعدًا من أصل 329. ومع ذلك، تُفيدُ مصادر ديبلوماسية بأنَّ فوزَ السوداني لا يعني بالضرورة تجديد ولايته، إذ إنَّ النظامَ السياسي العراقي —وبفعلِ عَوامِل بُنيوية معروفة— يميلُ إلى اختيار مُرَشَّحين توافُقيين، في حين أنَّ النفوذَ المُتصاعد للسوداني بات يجعلُ من الصعب النظر إليه كخيـارٍ توافُقي مُحتَمَل.

وخلال مشاركته بين 17 و19 تشرين الثاني (نوفمبر) في منتدى السلام والأمن في الشرق الأوسط بمدينة دهوك، وهو مؤتمر سنوي تنظمه الجامعة الأميركية في كردستان، أعلن السوداني استعداده للترشُّح لولايةٍ ثانية لاستكمالِ مشاريعه وإصلاحاته. لكنه شدّدَ في الوقت ذاته على حقيقةٍ راسخة في السياسة العراقية: نتائجُ صناديق الاقتراع نادرًا ما تكونُ العاملَ الحاسم في تشكيل الحكومات.

ويَعودُ ذلك إلى حدٍّ كبير إلى قرارِ المحكمة الاتحادية العليا الصادر في آذار (مارس) 2010، والذي نصَّ على أنَّ الكتلة التي تُشَكِّلُ الحكومة ليست بالضرورة القائمة الفائزة بأكبرِ عددٍ من المقاعد، بل يمكن أن تكونَ أيَّ تحالف يحصد الأغلبية في البرلمان. وقد سمح هذا الحُكم لنوري المالكي بتولي رئاسة الوزراء آنذاك رُغمَ أنَّ قائمة إياد علاوي “العراقية” كانت صاحبة الصدارة في تلك الانتخابات.

وفي 18 تشرين الثاني (نوفمبر) الفائت، أعلن “الإطار التنسيقي” —التحالف الشيعي المُقرَّب من إيران— أنه شكّلَ الكتلة البرلمانية الأكبر، وأنه سيتولّى تسمية رئيس الوزراء المقبل. وتُشيرُ التقارير إلى أنَّ الإطار قد أعدَّ لائحةً تضمُّ نحو 30 مرشّحًا مُحتملًا، من بينهم المالكي والسوداني، إلى جانب أسماءٍ بارزة مثل رئيس جهاز المخابرات الوطني حامد الشاطري، ووزير الرياضة السابق عبد الحسين أبطان، ومحافظ البصرة أسعد العيداني، ومستشار الأمن القومي قاسم الأعرجي.

واجه محمد شياع السوداني سلسلةَ تطوّرات صبّت في مصلحة الأحزاب الشيعية المُقرَّبة من إيران، وهي القوى التي غالبًا ما تَبايَنَ معها في الرؤية وحتى في إدارة الدولة، فضلًا عن تأثير طهران نفسها في المشهد العراقي. فقد جاءت مقاطعة مقتدى الصدر للانتخابات —بعدما انسحب نوابه جماعيًا في حزيران (يونيو) 2022 خلال أزمة تشكيل الحكومة— كهديةٍ سياسية لتلك الأحزاب، إذ أفسحت المجالَ أمامها لتتصدَّرَ الساحة الشيعية بلا منافسة حقيقية. وبرز ذلك بوضوح في نتائج الانتخابات الأخيرة، حيث حصدت القوى المُرتَبطة بالفصائل المُسلحة المدعومة من إيران، رُغم تشتّتها وعدم تشكيلها كتلة مُوَحّدة، أكثر من خمسين مقعدًا مجتمعة.

وزادت الضغوط على السوداني مع انفجارِ فضيحةٍ أحدثت شرخًا كبيرًا بينه وبين هذه القوى. ففي الرابع من كانون الأول (ديسمبر) الجاري، نشرت الجريدة الرسمية العراقية توصيفًا لكلٍّ من “حزب الله” اللبناني و”أنصار الله” الحوثيين باعتبارهما “مُنظّمتَين إرهابيتَين” — في سابقة أثارت موجة غضب داخل الأوساط الشيعية الموالية لإيران. ورُغمَ نفي السوداني علمه بما حدث، وإعلانه فتح تحقيق ومحاسبة المُتسببين، إلّا أن الحادثة أضعفت موقعه السياسي في لحظةٍ حساسة.

ثم جاءت تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي قال أنَّ السوداني رشّحهُ لجائزة نوبل للسلام، لتصبَّ الزيت على النار. فالفصائل المُقرَّبة من إيران رأت في ذلك استفزازًا مباشرًا، نظرًا لدور ترامب في اغتيال الجنرال قاسم سليماني ونائب رئيس الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس في كانون الثاني (يناير) 2020 — العملية التي دفعت العراق إلى إصدار مذكرة توقيف بحق ترامب. وهكذا تحوّلت الإشارة الأميركية إلى عبءٍ إضافي على السوداني بدل أن تكونَ مصدرَ قوة.

كل ذلك يُعيدُ تسليط الضوء على الدور المحوري الذي يواصل نوري المالكي لعبه في رسم ملامح المرحلة المقبلة. فالمالكي يتمتّعُ بثلاثة عوامل تُرجّحُ كفّتَهُ داخل “الإطار التنسيقي”. أولها نفوذه الراسخ داخل التحالف، رُغمَ ما تردّد في القناة الثامنة العراقية في 29 تشرين الثاني (نوفمبر) عن دَفعٍ مُتزايدٍ داخل الإطار لاختيار شخصية “غير حزبية”، ما قد يستبعد السوداني والمالكي معًا، لكن الأخير يبقى صاحب كلمة مُؤثِّرة في مسارِ الترشيح.

العامل الثاني هو المكسب الانتخابي الذي حققه ائتلاف “دولة القانون” بزعامة المالكي بحصوله على 29 مقعدًا، وهو مُنافِسٌ مباشر للسوداني، وقد أعلن صراحةً رفضه التجديد له لولاية ثانية.

أما العامل الثالث فيكمن في الشبكات الواسعة التي لا يزال المالكي يتحكَّم بها داخل الدولة، رُغمَ ابتعاده عن المنصب التنفيذي لسنوات. فهو يحتفظُ بنفوذٍ سياسي وأمني يمتدُّ من موقعه في “دولة القانون”، إلى علاقاته المتينة مع بعض الفصائل المسلّحة مثل “كتائب سيد الشهداء”، وصولًا إلى صلاته الوطيدة داخل الجهاز القضائي، بما في ذلك قربه من رئيس مجلس القضاء الأعلى فائق زيدان.

لطالما شغل نوري المالكي موقعًا مركزيًا داخل المشهد السياسي الشيعي. فهو رئيس الوزراء الوحيد بعد سقوط نظام صدام حسين الذي تمكَّنَ من البقاء في المنصب لولايتين مُتتاليتَين (2006–2014 و2016–2018). ورُغمَ خروجه من السلطة عقب كارثة سقوط الموصل بيد تنظيم “الدولة الإسلامية”، احتفظ بنفوذه داخل البيت الشيعي، إلى أن ساهم في العام 2022 في دفع حليفه المُقرَّب آنذاك، محمد شياع السوداني—الوجه السياسي غير المعروف نسبيًا حينها—إلى رئاسة الحكومة.

لكن المالكي سرعانَ ما اكتشفَ أنَّ السوداني ليس الرجل الذي يُمكِنُ احتواؤه بسهولة. فالأخير امتلك طموحًا سياسيًا خاصًا، وبدأ يُكرّسُ موقعًا مستقلًا عن راعيه. وفي العام 2024، حاول المالكي الضغط على السوداني للاستقالة، مُتَّهمًا إياه بالتورُّط في فضيحة تنصُّت استهدفت شخصيات بارزة ضمن “الإطار التنسيقي”، بينهم المالكي نفسه وصهره. إلّا أنَّ السوداني رفض الاستقالة. وبعدها بعامٍ واحد، في أيار (مايو) 2025، شكّل كتلة سياسية خاصة به، وأقام شبكة تحالفات شملت محافظي البصرة وكربلاء وواسط، ورئيس الوزراء الأسبق إياد علاوي، ووزير النفط حيان عبد الغني، والنائبة علياء نصيف، ما أثار غضب المالكي وأعاد فجوة الخلاف إلى الواجهة.

وفي تعليقٍ لافت، قال المحلل السياسي العراقي لوك غفوري في مقابلةٍ صحافية: “أَتقَنَ المالكي لسنوات أسلوبًا سياسيًا مُتكرِّرًا: الدفع برئيس وزراء يمكن التحكُّم به، ثم إضعافه أو إزاحته حين يشتد عوده. فعل ذلك مع حيدر العبادي، وها هو يحاول تكرار السيناريو مع السوداني. ما إن يشعرَ بأنَّ رئيس الحكومة يتحرّكُ خارج مظلته، يبدأ العمل على تهميشه وتقديم بديل من دائرته الضيّقة لضمان استمرار نفوذه في بغداد”. لكنه يضيف أنَّ هذه المهمة تبدو أصعب الآن مع فوز كتلة السوداني بعدد كبير من المقاعد البرلمانية، رُغمَ أنَّ “المالكي يواصل إدارة المشهد لمحاصرته وإضعافه وتهيئة الطريق لمرشَّحٍ من معسكره، وربما لنفسه”.

وعلى الرُغم من قوة نفوذ المالكي داخل “الإطار التنسيقي”، إلّا أنه لا يمتلك اليد الطولى وحده. فإقصاء السوداني ليس سوى جانبٍ من المعركة؛ إذ يحتاج المالكي، لإنجاح مرشحه المفضل، إلى بناءِ تحالفات مع قوى شيعية أخرى —كثيرٌ منها يتوجَّسُ من عودته إلى الواجهة— وفي مقدمتها التيار الصدري، الذي يُستَبعَدُ أن يقبلَ به رئيسًا للوزراء مجددًا. كما يتعيّنُ عليه الحصول على ضوء أخضر من كلٍّ من إيران والولايات المتحدة، وهما لاعبان لا يمكن تخطّيهما في معادلة الحكم العراقية.

وبفعل هذه التشابكات، تبدو العودة إلى خيار “المرشح التوافقي” هي السيناريو الأكثر ترجيحًا—تمامًا كما جرت العادة في السياسة العراقية الحديثة.

Exit mobile version