بينَ رهاناتٍ مثالية فشلت وإداراتٍ تردّدت في استخدام نفوذها، دخل دونالد ترامب الشرق الأوسط بمُقارباتٍ صادمة أطاحت الثوابت التقليدية. وبرُغمِ كلِّ الجدلِ الذي يرافقه، فقد ترك أثرًا لا يمكن تجاهله على توازنات المنطقة.
راي تَقية*
يُشَكِّلُ الشرقُ الأوسط ساحةً يُفَضِّلُ معظمُ الرؤساء الأميركيين الابتعاد عنها، لكنَّ وقائع السياسة تدفعهم إليها دفعًا. فبرُغم الدعوات المُتكرِّرة لإعادة توجيه الاهتمام نحو تحدّياتٍ جيواستراتيجية أخرى، ظلّ الشعورُ بأنَّ المصالح الحيوية للولايات المتحدة مُهَدَّدة في هذه المنطقة عاملًا مانعًا لأيِّ انسحابٍ فعلي. فاحتياطاتُ الطاقة في الخليج ما زالت ركيزةً أساسية للاقتصاد العالمي، وإيران تقتربُ من العتبة النووية في ظلِّ توتّرٍ مُزمِنٍ مع واشنطن، فيما أدّت هشاشةُ الدولة في العالم العربي إلى تفريخِ جماعاتٍ مُتطرّفة، كانت إحداها وراء هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001، أسوأ اعتداءٍ تتعرّضُ له الأراضي الأميركية منذ هجوم “بيرل هاربور”.
ومنذ مطلع القرن الحادي والعشرين، تعاقبت الإدارات الأميركية على محاولةِ معالجةِ مُعضِلات الشرق الأوسط بوسائل مُتَباينة، من الغزو العسكري إلى الديبلوماسية والتدخُّلات الإنسانية المحدودة، لكنَّ النتائجَ بقيت دون التوقُّعات. بل إنَّ بعضَ هذه المساعي ولّدَ تحديات أشد خطورة: فغزو العراق عام 2003 فتحَ البابَ أمامَ موجةٍ جديدة من التنظيمات الإرهابية، فيما أدّى التدخُّلُ العسكري المحدود في ليبيا عام 2011 إلى فوضى مُستَدامة امتدّت تداعياتها عبر شمال أفريقيا. ومع ذلك، بقيت واشنطن، بطُرُقٍ مختلفة، أسيرةَ إغراء صياغة رؤية إقليمية جديدة، مهما أثبتت التجارب صعوبة تحقيقها.
كان هذا النهجُ قائمًا… إلى أن وصلَ دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. فرُغمَ أنّه، مثل أسلافه، لم يسحب الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، فإنه تعاملَ مع المنطقة بمَنطِقٍ مختلف تمامًا: بلا أوهامٍ مثالية ولا رهاناتٍ على التحوُّلات التدريجية. كانت مُقاربتهُ براغماتية صِرف، تستندُ إلى موازين القوّة وتحديد الرابحين والخاسرين بوضوح. وكما يفعلُ قادةُ الشرق الأوسط الأقوياء، صنَّفَ ترامب اللاعبين الإقليميين وفقَ قوّتهم: إسرائيل تملك اليد العليا، لذا منحها حُرِّيةَ حركةٍ شبه مُطلقة؛ ودول الخليج تمتلكُ مصادر الطاقة ورؤوس الأموال، فحافَظَ معها على علاقاتٍ عملية؛ أما الفلسطينيون، باعتبارهم الطرف الأضعف، فلم يحظوا باهتمامٍ يُذكَر في حساباته.
ورُغمَ فظاظة هذا النهج، فإنَّ نتائجه كانت ملموسة. ففي غضونِ سنواتِ حكمه الأربع (ولايته الأولى)، نجحت إدارته في دفع عدد من الدول العربية نحو تطبيع العلاقات مع إسرائيل، ووَقَّفَ في خريف 2023 جولةَ القتال الكبرى بين إسرائيل و”حماس” عقب هجوم 7 تشرين الأول (أكتوبر). كما ضمن وصولًا تفضيليًا للشركات الأميركية إلى نفط الخليج وأسواقه، ووَجّهَ ضرباتٍ مباشرة إلى الجماعات والأنظمة التي تُهدّدُ المصالح الأميركية، وفي مقدمتها الجمهورية الإسلامية في إيران.
لم تُنتِج سياساتُ ترامب شرقًا أوسطَ أكثر ديموقراطية، ولا عالجت جذورَ المظالم التاريخية المتراكمة. لكنها، عمليًا، حافظت على درجةٍ من الاستقرار الإقليمي، وعزّزت موقع الولايات المتحدة فيه. وبكلماتٍ أخرى، حقّقت مقاربته نتائجَ تتجاوز—من حيث الفاعلية—ما تمكّنَ من إنجازه أسلافه ممَن راهنوا على النوايا الحسنة أو المشاريع الإصلاحية الكبرى.
جادةُ الأحلامِ المُحَطَّمة
للتعمُّق في أسبابِ نجاح ترامب حيثُ تعثّرَ رؤساء آخرون، لا بدّ من العودة إلى الطريقة التي تعاملت بها واشنطن مع الدول العربية، التي تُشكّلُ الغالبية الساحقة من خارطة الشرق الأوسط. فعلى مدى عقود، حاول الرؤساء الأميركيون معالجة التوتّرات البنيوية في هذه الدول إما عبر الضغط العسكري أو عبر الدفعِ نحو إصلاحات سياسية كبرى. ويبرزُ جورج بوش الابن بوصفه الأكثر طموحًا—وربما الأكثر سذاجة—في هذا المسعى.
فبعد هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001، بدا تدخّلُ واشنطن في أفغانستان لطرد “طالبان” خطوةً منطقية في سياقِ مكافحة الإرهاب. لكن سرعان ما انتقلت إدارة بوش إلى مشروعٍ أكبر: غزو العراق، انطلاقًا من قناعةٍ بأنَّ إسقاط نظام صدام حسين سيُطلِقُ موجةَ تحوّلاتٍ ديموقراطية تمتدُّ عبر الشرق الأوسط وتُعيدُ تشكيله بما يتوافَقُ مع قِيَمِ الغرب ومصالحه. غير أنَّ النتائج جاءت مُعاكِسة تمامًا. إذ عمّقت الحرب الانقسامات الطائفية، وفتحت المجالَ أمامَ توسُّعِ النفوذ الإيراني، ودفعت المنطقة نحو حالةٍ من الاضطراب فاقت ما كانت عليه عند وصول بوش إلى السلطة.
كان الرئيسان الديموقراطيان اللذان خلفا جورج بوش الابن، باراك أوباما وجو بايدن، عازِمَين على تفادي الانجرارِ مُجَدَّدًا إلى دهاليز السياسة العربية المُعَقّدة. فالشعب الأميركي أنهكته حروبٌ طويلة لا نهايةَ واضحةً لها، ورأى الرجلان أنَّ اللحظة قد حانت لإعادة توجيه السياسة الأميركية نحو الديبلوماسية وتقليل الاعتماد على القوة العسكرية. غير أنَّ هذا التوجّه، رُغمَ وجاهته، اتَّسَمَ لدى كلٍّ منهما بمثالية زائدة أثبتت حدودها سريعًا.
فخلال موجة “الربيع العربي”، أدار أوباما ظهره لحليف واشنطن القديم، حسني مبارك، مُنسَجِمًا مع الشارع المصري، ثم خاضَ تدخُّلًا عسكريًا “إنسانيًا” في ليبيا أطاح معمر القذافي. غير أنَّ النتائج جاءت بعيدة من الوعود: ففي مصر حلّ رئيسٌ إسلامي مُنتَخَب مكان مبارك قبل أن يُطاح بدوره وتتولى الحُكمَ سلطةٌ عسكرية جديدة، فيما غرقت ليبيا في انقساماتٍ حادة أفرزت حكومتيَن متنافستَين ونزاعًا مُزمِنًا على الشرعية.
أما بايدن، الذي لم يرفع شعار تغيير الأنظمة، فقد تبنّى نهجًا لا يخلو من الحسابات الأخلاقية، انعكسَ في موقفه الحاد من السعودية حين وصفها بالدولة “المنبوذة” عقب مقتل الصحافي جمال خاشقجي. لكن هذه المقاربة أضرّت بالمصالح الأميركية، إذ امتنعت العواصم الخليجية عن الاستجابة لجهوده الرامية إلى خفض أسعار الطاقة عبر زيادة الإنتاج، كما لم تضغط بالفعالية المطلوبة على “حماس” للقبول بوقف إطلاق نار.
في المقابل، يُمارسُ دونالد ترامب سياسة لا تُعنى كثيرًا بالأحكام القيميّة، بل تنطلقُ من مُقاربةٍ صريحة لموازين القوة والمصالح. فهو لا يجد حرجًا في التعامل مع الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع، ما دامَ الأخير ينخرطُ في الحرب ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش). وعلى النهج نفسه، يدعَمُ ترامب السعودية ودول الخليج الأخرى لكونها مصدرًا لرأس المال، وسوقًا واعدة للسلاح والتكنولوجيا، ورُكنًا أساسيًا في منظومة الطاقة العالمية—وهي جميعها عناصر تجعل قادتها شركاء طبيعيين بالنسبة إليه.
وقد رَدَّ الحكامُ العرب التحية بمثلها. فبمبادرة من إدارة ترامب، وَقّعت الإمارات والبحرين اتفاقيات أبراهام عام 2020 ممهّدةً لتطبيع علاقاتهما مع إسرائيل. أما السعودية، وإن بقيت خارج إطار الاتفاق رسميًا، فقد نسجت تعاونًا أمنيًا واستخباراتيًا غير مُعلَن مع تل أبيب. وفي الوقت نفسه، واصلت قطر—رُغمَ تقاربها مع قوى إسلامية—استضافة أكبر قاعدة عسكرية أميركية في المنطقة ولعبت دورًا مركزيًا في محادثات الهدنة في غزة. ولا تخفي هذه الدول انخراطها في مجالاتٍ تجارية ومالية تشمل أفرادًا من عائلة ترامب، في مشهدٍ يعكسُ ذلك المزيج الخاص بالمنطقة حيث تتشابكُ الثروات الخاصة بالمصالح الوطنية، وتذوبُ الحدود بين الاقتصاد والسياسة. وهو تحديدًا النموذج الذي يجد صدى إيجابيًا لدى النُخَب الخليجية.
العصا الغليظة
منذ قيام الجمهورية الإسلامية عام 1979، تعاملت الإدارات الأميركية المُتعاقِبة مع النظام الإيراني بوصفه منظومةً من الفصائل المُتنافِسة على النفوذ، بعضها قابل—نظريًا—للتأثير الأميركي، أكثر من كونه بُنيةً مُتجانسة ذات هدفٍ واحد. لذلك، جعلَ عددٌ من الرؤساء من “تمكين المُعتَدلين” في إيران ركيزةً أساسية في سياساتهم. وقد بلغت هذه المقاربة ذروتها خلال عهد باراك أوباما، الذي تبنّى ديبلوماسية الحدّ من التسلّح أملًا في تقويةِ شريحةٍ أكثر براغماتية داخل النظام. وأسفرت هذه الجهود عن الاتفاق النووي لعام 2015 (خطة العمل الشاملة المشتركة)، الذي وافقت بموجبه طهران على تقييدِ برنامجِ التخصيب وقبولِ رقابةٍ دولية مُشَدّدة مقابل تخفيف العقوبات الاقتصادية.
لكن هذه المُقاربة انطلقت من فَرَضِيِّةٍ مُضلِّلة. فالمسؤولون الإيرانيون، وإن اختلفت بينهم التوجُّهات وأساليب العمل، يتشاركون قناعةً راسخة تقومُ على العداء للولايات المتحدة؛ وهي العقيدةُ التي تشدُّ عصبَ النظام وتُوَحِّدُ مُكوّناته. وبناءً عليه، لم تكن إيران مُستعدّة للدخول في أيِّ اتفاقٍ إلّا إذا تضمّنَ اعترافًا أميركيًا بحقّها في التخصيب المحلي، واحتوى على بنودٍ تسمحُ لها—لاحقًا—بالانتقال إلى مستوى تخصيبٍ صناعي بعد انتهاءِ القيود الزمنية. وخلال فترة تخفيف العقوبات، استغلَّ المُمسِكون بالسلطة المواردَ المُتاحة لتمويل شبكات نفوذهم الإقليمية وتعزيز أدوات القمع الداخلي، بدل أن يُشكّلَ الاتفاقُ رافعةً للاعتدال كما توقّعت واشنطن.
وعلى العكس من ذلك، تُظهرُ التجربة أنَّ التعامُلَ الأكثر فاعلية مع طهران كان—في مرّات قليلة فقط—نتيجةً لاستخدام القوة أو التلويح الجدّي بها. فعقب احتجاز الرهائن في السفارة الأميركية عام 1979، لوَّحَ الرئيس جيمي كارتر بردٍّ مباشر إذا تعرّضَ الديبلوماسيون الأميركيون للأذى، ما دَفعَ الثوار آنذاك إلى التراجُع عن التهديد بمحاكمتهم. وبعد عقدين، عندما أطاح جورج بوش الابن نظام صدام حسين ووَجَّهَ تهديدًا صريحًا إلى إيران، سارعت طهران إلى تعليقِ برنامجها النووي لفترةٍ وجيزة، قبل أن تستأنفه بقوة عندما غاصت الولايات المتحدة في مستنقع العراق. لكنّ هذه الأمثلة بقيت استثناءً في تاريخ السياسة الأميركية تجاه إيران، إذ نادرًا ما استخدمت واشنطن أوراق الضغط التي أثبتت نجاحها.
والمُفارقة أنَّ الولايات المتحدة، رُغمَ امتلاكها ما يكفي من التجارب العملية التي تشيرُ إلى ما يردع طهران، لم تُترجِم هذه الدروس إلى سياسةٍ ثابتة أو متماسكة.
كان دونالد ترامب، مرة أخرى، الاستثناء الأبرز في مقاربة واشنطن تجاه إيران. ففي ولايته الأولى، انسحَبَ من الاتفاق النووي وأعادَ فرضَ عقوباتٍ اقتصادية قاسية، مُعتَبِرًا أنَّ الاتفاق لم يُشكِّل عائقًا فعليًا أمام تَقدُّمِ البرنامج النووي الإيراني، بل عادَ بالنفع على طهران أكثر مما أفاد الولايات المتحدة. ثم صعّدَ ترامب استراتيجيته عبر الأمر باغتيال قاسم سليماني، القائد المحوري لفيلق القدس، الذي راكَمَ خلال سنواتٍ نفوذًا واسعًا وبنى شبكةً عابرةً للحدود من الوكلاء والميليشيات بما مكّن إيران من مَدِّ نفوذها العسكري في المنطقة. وعلى خلاف المخاوف التي عبّرَ عنها مُحلِّلون من احتمال انزلاق المنطقة إلى حربٍ أشمل، أدّى غياب سليماني إلى تراجُعٍ واضح في قدرةِ الوكلاء الإيرانيين، وفق ما أظهرته التطوُّرات اللاحقة.
ففي العام 2011، خلال بدايات الحرب الأهلية السورية، كان سليماني القوّة المُنَسِّقة التي نظّمت خطوط دفاع النظام وحشدت نحو 70 ألف مقاتل لدعمه. لكن بعد مقتله، تراجعت فعالية الجيش النظامي السوري تدريجًا، وصولًا إلى انهياره الكامل لاحقًا. ومع انطلاق هجوم قوات أحمد الشرع من الشمال في أواخر تشرين الثاني (نوفمبر) 2024، انهارت المواقع الأمامية سريعًا، ما أدّى إلى سقوط دمشق في أقلِّ من أسبوعين.
وربما كان التطوُّرُ الأكثر حساسية في هذه المُقارَبة هو الضربات التي نُفِّذت في حزيران (يونيو) 2025 ضد المواقع النووية الإيرانية. فطوال عقدَين، ساد اعتقادٌ راسخٌ في أوساط السياسة والأمن بأنَّ مهاجمة المُنشآت النووية الإيرانية ستُفجِّرُ حربًا إقليمية واسعة. لذلك، عارضت إداراتٌ أميركية مٌتعاقبة أيَّ تحرُّكٍ عسكري، ومنعت كذلك إسرائيل من تنفيذ ضرباتٍ مُشابهة خلال عهد باراك أوباما. لكن ترامب، وفق هذا المسار السياسي، منحَ إسرائيل الضوءَ الأخضر، ثم شارك في العملية عندما اتضح أنها تسير وفق المُخَطَّط، قبل أن يُصرِّحَ لاحقًا بفخر: “لم يجرؤ أيُّ رئيسٍ على فعلِ ذلك… وأنا فعلته”.
وَهمُ الدولتَين
على مدى عقود، تبنّى مسؤولون أميركيون الرؤيةَ القائلة إنَّ إقامةَ دولةٍ فلسطينية مُستقلّة تُمثّلُ حجرَ الأساس لأيِّ تسويةٍ دائمة في الشرق الأوسط، وأنَّ حلَّ الدولتَين هو الطريق الوحيد لدَمجِ إسرائيل في محيطها. وكان جورج بوش الابن أول من دعا رسميًا إلى هذا الخيار عام 2002، في خضمِّ مرحلةِ ما قبل حرب العراق. ثم واصلَ باراك أوباما الدفع في الاتجاه نفسه، إذ كثّف وزير خارجيته جون كيري زياراته المكوكية بين تل أبيب ورام الله لإحياء المفاوضات. وحتى جو بايدن، الذي ورثَ مَشهَدًا أكثر تعقيدًا، حافظ على التزامه بحلِّ الدولتَين، بما في ذلك بعد أحداث 7 تشرين الأول (أكتوبر).
لكن هذه الجهود المُتعاقبة لم تُثمر نتائجَ تُذكَر. فمساعي بوش الابن لم تُفضِ إلى أيِّ اختراقٍ حقيقي، ولم يتمكّن أوباما سوى من انتزاعِ تجميدٍ جُزئي ومؤقّت للاستيطان لم يلبث أن تبخّر. أما مبادرات بايدن، فاقتصرت على مواقف خطابية في معظمها—بدا أنها موجّهة أساسًا لامتصاص غضب الجناح الليبرالي في حزبه—في حين واصلت إدارته تزويد إسرائيل بالسلاح وحمايتها من الانتقادات الدولية والضغوط الديبلوماسية. وهكذا، تحوَّلَ مُجمَلُ جهدِ واشنطن نحو حلّ الدولتَين إلى ما يشبه أوراقًا سياسية تنعي سلامًا ضائعًا أكثر مما ترسي أُسُسًا لاتفاقٍ واقعي.
ومنذ البداية، بدا المشروع ذاته محفوفًا بعقباتٍ بُنيوية. إذ حاول القادة الفلسطينيون استعادة، عبر طاولة التفاوض، ما فقدوه في حروبٍ متتالية خاضوها مع حلفائهم العرب—وهو مسارٌ قلّما يكافئه التاريخ. ورُغمَ أنهم نجحوا في مراحل مُعَيَّنة في إقناع إسرائيل بالانسحاب من غزة ومن أجزاءٍ من الضفة الغربية احتلّتها عام 1967 مقابل اعترافٍ مُتبادَل وتفاهُمات سياسية، فإنَّ هذه التنازلات لم تكن كافية في نظر القيادة الفلسطينية. وفي المقابل، ازداد الموقف الإسرائيلي تصلّبًا مع مرور الوقت وتكرار الهجمات التي نفّذها مسلحون فلسطينيون، ما قاد إلى دائرةٍ مُغلَقة من انعدام الثقة وتراجُع احتمالات التسوية. أما المأساة الأعمق، فهي أنّ الخطابَ الفلسطيني المُتَمَحوِر حول الفقدان التاريخي تحوَّلَ إلى عائقٍ أمام قبولِ أيِّ حلولٍ واقعية قبل أن تتآكل الخيارات المُتاحة أكثر فأكثر.
ورُغمَ ذلك، ظلّ حلّ الدولتين يحظى بدعمٍ واسع داخل مؤسّسة السياسة الخارجية التقليدية في واشنطن، باستثناء دونالد ترامب الذي لم يُبدِ اهتمامًا يُذكَر بحلِّ الدولتيين أو بمقاربات الترتيبات الرمزية. وقد انطلق ترامب من قناعةٍ واضحة مفادها أن إسرائيل ليست مستعدّة للتخلّي عن الأرض، وأنَّ من غير المنطقي مطالبتها بذلك، وأنَّ العديد من العواصم العربية باتت تُدرك هذه الحقيقة. ومن هذا المنطلق، استطاع التوسط في اتفاقيات أبراهام التي فاجأت كثيرين في الأوساط التحليلية. والأهم أنَّ الدول العربية المُوَقِّعة بقيت مُلتَزِمة بهذه الاتفاقيات حتى خلال العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة، في مؤشِّرٍ إلى تحوُّلٍ أعمق في حساباتِ المنطقة.
ومع ذلك، لم يمنح ترامب إسرائيل شيكًا مفتوحًا على بياض. فقد كان مُدرِكًا لحساسيات القادة العرب وهواجسهم المُرتَبطة بالرأي العام، فحذّرَ الإسرائيليين من الإقدامِ على ضمّ الضفة الغربية، وإن كان قد غضّ الطرف تدريجًا عن توسُّعِ المستوطنات. واستطاع أيضًا دفع إسرائيل إلى القبول بوقف إطلاق النار مع “حماس” في تشرين الأول (أكتوبر). وقد امتلك القدرة على ممارسة هذا النفوذ بفضلِ شعبيته الواسعة في إسرائيل وعلاقاته المَتينة مع عددٍ من القادة العرب، الذين يملكون بدورهم أدوات ضغط على “حماس”. كما لم يتردد ترامب في كسر القاعدة غير المُعلَنة في واشنطن والتي تُحظّرُ الانخراطَ المباشر مع “حماس”، الأمر الذي ساعد على تثبيت الهدنة.
عُملاءُ الفوضى
نجح ترامب في تهدئة الشرق الأوسط، لكنه لم يُصلِح أزماته البُنيوية. فبرُغمِ التصريحات المُتفائلة، لا يبدو السلامُ قريبًا في الأراضي الفلسطينية. والبرنامج النووي الإيراني لم يُمحَ أو يُقضى عليه، بل رُدِع مؤقتًا. أما الواقع السياسي العربي، فلا يزالُ غارقًا في اختلالاتٍ عميقة تجعلُ المنطقة عُرضةً للانتكاسات في أيِّ لحظة.
يكفي النظر إلى وقف إطلاق النار الأخير لفَهمِ هشاشة الوضع. فالهدن في الشرق الأوسط غالبًا ما تكون مؤقتة، والاتفاقُ الذي تمَّ التوصُّلُ إليه بين رون ديرمر ممثل الحكومة الإسرائيلية، وستيف ويتكوف مبعوث ترامب، وصهره جاريد كوشنر، ليس استثناءً. لا تزال “حماس” وإسرائيل ميّالتَين إلى استخدام القوة كلّما اقتضت الظروف. ولا يُعالِجُ الاتفاقُ مسألةَ توسيع المستوطنات، ما يعني أنَّ خطة النقاط العشرين — لنزع سلاح “حماس”، وإعادة إعمار غزة، وتهيئة مسارٍ نحو دولة فلسطينية— ستظل على الأرجح مُجَمّدة. ومن الصعب تخيُّل قوّة عربية متعددة الجنسيات تدخل غزة لتفكيك ما تبقى من “حماس” كما تنصُّ الخطة. النتيجة المرجّحة أن تبقى غزة بؤرةً إنسانية مُتدَهورة، رُقعةً مُكتظّة تعتمدُ على مساعدات المنظمات الدولية، فيما تتحمّلُ القوات الإسرائيلية العبء الأكبر من العمل الأمني عبر الدوريات والقصف الاستباقي ضد أيِّ تهديداتٍ صاعدة.
وفي الجهة الأخرى من الإقليم، يلوح التحدّي النووي الإيراني مُجَدّدًا. فرجال الدين في طهران لا يزالون تحت وطأة الصدمة، يحاولون فهم كيفية تمكّن إسرائيل والولايات المتحدة من اختراق دفاعاتهم وتعطيل منظومتهم الاستخباراتية. ومن المرجّح أن يشهدَ النظامُ تصفياتٍ داخلية ومحاولاتٍ لتحجيم المرشد علي خامنئي، الذي تدهورت صحته وتراجعَ نفوذه بعد تقديرٍ خاطئ كلّف إيران الكثير. ورُغمَ أنَّ النظام سيحافظ على انكفائه مؤقتًا، فإنه سينتظر اللحظة المناسبة —حين تنشغلُ واشنطن بأزماتٍ أخرى وتتراخى اليقظة الإسرائيلية— لاستئناف برنامجه النووي بقوة أكبر.
يبدو جليًّا أنَّ على واشنطن أن تبقى مُستعدّة لاستخدام القوة من جديد عند الضرورة. فالنتيجة الأعمق لحرب الاثني عشر يومًا بين الجمهورية الإسلامية وإسرائيل—ثم الولايات المتحدة لاحقًا—هي تكريس التدخل العسكري كأداةٍ أساسية للحدّ من انتشار السلاح النووي الإيراني. ومن الصعب الآن تخيّل أن يراهن النظام في طهران على اتفاقيات قابلة للنقض أو على مؤسسات دولية كسِجلّ مجلس الأمن الدولي، الذي أثبت قابليته للتأثر بإرادة واشنطن.
وتدرك إسرائيل على ما يبدو أن هذا الواقع يمثّل “الوضع الطبيعي الجديد” في المنطقة. فهي تعرف من خبرتها الطويلة أنَّ أيَّ انتصارٍ في الشرق الأوسط مُؤقَّت بطبيعته؛ لذا واظبت على تطبيق عقيدتها الأمنية الشهيرة بـ”جزّ العشب” لمُراكمة الردع ضد خصومها. لكن ما يزال غير واضح ما إذا كان ترامب يمتلك النظرة نفسها لطبيعة الصراع. فبدل الاستمرار في الضغط على طهران، أعلنَ النصر ودعا القيادة الإيرانية إلى الحوار. وربما ينجو ترامب من تبعات هذا النهج، مُستفيدًا من تقلُّباته المُفاجئة ومن عدوانية نتنياهو، التي قد تُبقي الطموح النووي الإيراني تحت السيطرة مؤقتًا. لكن ما لا يُمكِن إنكاره أنه ترك لخلفائه تحدّيًا إيرانيًا متصاعدًا، قد لا يكون أمامهم حياله سوى خيار اللجوء إلى ضربة أخرى.
ويراهن بعض المحللين على احتمالِ زوال البرنامج النووي الإيراني ذاتيًا إذا انهار النظام من الداخل. غير أنَّ الحرب الأخيرة مع إسرائيل والولايات المتحدة أظهرت أنَّ الجمهورية الإسلامية—رُغمَ أزماتها الداخلية العميقة—أكثر صلابةً مما اعتقد كثيرون. فإسرائيل تمكّنت من إضعاف وكلاء وأذرع طهران، بمن فيهم “حزب الله” في لبنان، بسرعةٍ لافتة. ومع ذلك، عندما دعا نتنياهو الإيرانيين إلى الانتفاض في لحظةٍ بدا فيها النظام في أضعف حالاته، لم يتحرَّك الشارع، بل اصطفّت النخبة الحاكمة، رُغمَ خلافاتها، حول مؤسّسات النظام. والدرسُ الأوضح هنا هو أنَّ الجمهورية الإسلامية ليست كيانًا سينهار بالتمنّي، بل تحدّيًا مستمرًّا يتطلّبُ إدارةً دقيقة وطويلة النفس.
الشرق الأوسط كما هو
لا يعني كلُّ ما تقدّم أنّ تحسينَ أوضاع الشرق الأوسط أمرٌ مستحيل. فالمشكلات البنيوية التي تعانيها المنطقة—من سوء إدارة وتراجع في فعالية المؤسسات وتدهور بيئي متسارع—لا تزال حاضرة بثقلها. وتُدرِكُ النخب العربية الحاكمة أنها تُمسِكُ بزمامِ دولٍ تُعاني مستوياتٍ متفاوتة من الفساد والخلل الوظيفي، غيرَ أنّ انشغالها بالحفاظ على السلطة كثيرًا ما يحجبُ عنها حجم السخط الشعبي المتراكم. ورُغمَ أنّ الولايات المتحدة لا تملكُ القدرة على إلزامِ هؤلاء القادة بانتهاجِ أسلوبِ حُكمٍ أكثر انفتاحًا واستنارة، فإنَّ بإمكانها الاستمرار في تشجيعهم على توسيع المشاركة السياسية وتحريك عجلة الإصلاح الاقتصادي حيثما أمكن.
لكن مثل هذه الجهود يجب أن تبقى محسوبةً ومَحدودة. فالشرقُ الأوسط، في نهاية المطاف، ليس ساحةً مثالية للمشاريع الرفيعة أو التصوُّرات الأخلاقية الشمولية؛ بل هو فضاءٌ يُدارُ بمَنطقِ القوة والبراغماتية، وهو ما يجعله ساحةَ مُناسبة لهذا الرئيس الأميركي تحديدًا. وفي الظرفِ الراهن، يستمرُّ تدفُّق النفط بلا انقطاع، وتراجَعَ التهديدُ الإيراني إلى حدٍّ ما، وهدأت جبهاتُ القتال في غزة، وغابت الاضطرابات الواسعة عن المشهد الإقليمي. وفي منطقةٍ اعتادت تاريخيًا على الاضطرابِ والعنف، تُعَدُّ هذه المؤشرات مكاسب ذات أثرٍ بعيد المدى، حتى لو بقيت قابلة للانتكاس في أيِّ لحظة.
- راي تقية هو باحث أميركي من أصلٍ إيراني في شؤون الشرق الأوسط، ومسؤولٌ سابق في وزارة الخارجية الأميركية، وزميلٌ بارز في مجلس العلاقات الخارجية. وهو مؤلف كتاب “الشاه الأخير: أميركا وإيران وسقوط سلالة بهلوي”.
- يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية في “فورين أفّيرز” الأميركية.
