ترسيمٌ على حافةِ الهاوية: كيف تُهدُرُ “الدولةُ اللبنانية العميقة” حدودَها وحُقوقَها البحريّة

في هذه الدراسة الجريئة، يخلع السفير د. بسام النعماني أقنعة “السرّية” التي تُغلّفُ مفاوضات ترسيم الحدود، كاشفًا الخلل العميق في مقاربة الدولة اللبنانية لهذا الملف السيادي. ومن موقع خبرته الطويلة، يُطلقُ صرخةَ تحذيرٍ أخيرة قبل أن يحكم التاريخ حكمه القاسي على مَن أدّوا ببلادهم إلى التنازُل عن حقوقه تحت وطأة ميزان قوى غير مُتكافئ.

الخريطة التي رسمتها قبرص لحدود المناطق البحرية الخاصة بها.

السفير د.بسام عبد القادر النعماني*

قد تكون هذه المقالة قاسية على القيادات العليا في ”دولة لبنان العميقة“، ولكني أكتب هذه الملاحظات مُرتَكزًا إلى خبرتي كديبلوماسي لبناني لمدة 38 سنة، ومُستندًا لدراساتي العليا في الولايات المتحدة في جامعة كولمبيا لمدة خمس سنوات، وإلى متابعتي لملف ترسيم الحدود البرية والبحرية أثناء تواجدي في الخدمة وبعد مغاردتي لها. إضافةً إلى إصداري كتابًا من 400 صفحة عن إتفاقية سايكس-بيكو ووثائقها وخرائطها السرية بعد أن قضيتُ حوالي 20 سنة من الدراسة والتنقيب في أرشيف الدول الكبرى حول مسائل الحدود في الشرق الأوسط وكان بعنوان “الوطن العربي بعد ١٠٠ عام من إتفاقية سايكس بيكو: قراءة في الخرائط”. وقد أصدرتُ الكتاب المذكور، كما يشير عنوانه، بمناسبة مرور مئة عام على انعقادها ركّزتُ فيها على مسألةِ “سرّية المفاوضات” والتي أنوي التطرُّقَ إليها في طي هذا المقال. وقد نشرتُ في هذا الكتاب لأوّل مرة الخريطة “الأصلية” السرّية لإتفاقية سايكس بيكو والتي تمكّنتُ من “انتزاعها” من أرشيف وزارة الخارجية الفرنسية بعد إلحاحٍ شديد على أنَّ مثل هذه الخريطة موجودة لديهم. وأشعرُ أنه بهذه الخلفية، فإنه يحقُّ لي أن “أتجاسر” أو أن “أتجرَّأ” وأُخاطب الدولة اللبنانية العميقة بما أراه الخلل العميق في إدارة مفاوضات الترسيم البري والبحري. ومحور هذه الملاحظات هو: إذا لم يحصل إنقلابٌ في المقاربة الاستراتيجية اللبنانية لترسيم الحدود البرية والبحرية، فإنَّ نتائج المفاوضات ستظلُّ تتمخّض بنتائج مُجحفة بحقوق لبنان الأساسية نظرًا للخلل الفادح في ميزان القوى الإقليمي والدولي الذي لا يصبُّ في مصلحة لبنان أساسًا!

وعلى الرُغم من أنَّ التنازُلات اللبنانية في مسائل ترسيم الحدود كانت جَليّة قبل سنواتٍ عدة، إلّا أنَّ حروب غزة والإسناد وأولي البأس قد فاقمت الخلل في ميزان القوى الإقليمي والدولي، مما قلّصَ إلى حدٍّ بعيد المناورات التي يستطيع أن يخوضها لبنان لمقاومة الضغوط الأميركية-الإسرائيلية. ولكنني لعلى قناعة تامة، وأقولها آسفًا بعد أن أطلعتُ على المعلومات الدقيقة والهائلة التي يحتويها أرشيف الدول الكبرى، بأنَّ حُكمَ التاريخ سيكون قاسيًا بحقِّ الذين قادوا مفاوضات ترسيم الحدود البرية والبحرية في الفترة 2006-2025. وإنني أنصحهم لوجه التاريخ أن يعدلوا عن طريقتهم في إدارة مفاوضات ترسيم الحدود البرية والبحرية. وذلك لأنه بعد عقد أو عقدين ستتسرّبُ معلومات عما جرى حقيقةً في هذه المفاوضات. وسيكتبها من خاضها من الموفدين الأجانب أنفسهم وراء الأبواب المُغلَقة والتي أجبرت لبنان على التخلي بالإكراه عن كثيرٍ من حقوقه الصريحة بموجب القانون الدولي، على غرار ما فعله خبير الخرائط الإسرائيلي آشر كاوفمان الذي كتب يقول بأنه لو أدار اللبنانيون المفاوضات الديبلوماسية بشكلٍ صحيح، لكانوا استرجعوا مزارع شبعا في 2006 استنادًا للقرار 1701. وتَوَّجَها بمقولة “Let sleeping dogs lie” أو ”دع الكلاب النائمة تنام“.

وكنتُ في إطلالاتي التلفزيونية المُتكرّرة، وفي مقالاتي العديدة، حول مسائل ترسيم الحدود البرية والبحرية أُكرّرُ التحذيرَ من وقوع لبنان في الخطَإِ ذاته الذي وقع فيه في الماضي عندما وافق على الإتفاق البحري مع قبرص في 17/1/2007، وكذلك عندما وافق على اقتراح المبعوث الأميركي آموس هوكستاين في 27/10/2022. وكنتُ أتحدّثُ كثيرًا مع المعنيين بالمفاوضات، سواءً من كبار المسؤولين أو من العسكريين أو من المدنيين، بحيثُ كانت إجاباتهم في معظمها تعترف بأنَّ “أخطاءً تقنية وسياسية” قد حصلت. لكنهم كانوا يقترحون تجاوزها ومحاولة التعلُّمِ منها.

ولكن للأسف الشديد فإنَّ “الدولة اللبنانية العميقة” ترفُضُ أن “تتعلّم”. بل هي تُعيدُ وتُفاقِمُ الأخطاءَ نفسها التي إرتكبتها في الماضي بعد صدور قرار مجلس الوزراء بتاريخ 23/10/2025. يعزوها في ذلك الرغبة بتأمين المصلحة الضيِّقة للقَيِّمين علي هذه المفاوضات والذين لا يرون في ترسيم الحدود إلّا مجالًا لتحقيق مكتسبات شخصية. فلا علاقة لقراراتهم حول الحدود لا بالخيارات الاستراتيجية والأمنية ولا بمُتطلبات المفاوضات الديبلوماسية التي يجرونها في الغُرَفِ المُغلَقة.

وعلاوة على ذلك، يُلاحَظُ أنه في هذه المرة، فإنَّ ”لوبي قبرص-شركات النفط والغاز“ كان قد أعدَّ العدّة لخوض معركة العلاقات العامة دفاعًا عن قرار الحكومة أمامَ أيِّ هجمةٍ “شعبوية” مُحتملة. فقد إنبرى العديدُ من النواب ومن الإعلاميين ومن الخبراء للدفاع عن قرار الحكومة وتبريره بأنه ”صحيحٌ ومُتوازِن ومُتَوافقًا مع مبادئ القانون الدولي للبحار“. كما لم يتورَّع بعضُ الإعلاميين بكلِّ صلافة عن نقلِ التهديدات التي قامت بها قبرص مدعومةً من الولايات المتحدة وإسرائيل. وهي تشي بأنَّ لبنان يُعرّضُ نفسه للتقاضي في المحاكم الدولية بموجب مبدَإِ “Estoppe” حيث أنَّ قبرص ستَدَّعي بأنَّ لبنان بتراجُعه عن إتفاق 2007 قد عرَّضها للكثير من الأضرار المادية. هذا مع أنَّ قيادة الجيش قد أعلمت القبارصة مرات عدة في السنين العشر الأخيرة بأنَّ الإتفاقَ مُجحِفٌ ولهذا فإنَّ لبنان لن يُبرِمه وأنه يُطالب بتعديله. ولكنَّ القبارصة تعنّتوا، كما تعنّتت إسرائيل في الماضي وهدّدت وأرعدت لتضع يدها بالكامل على حقل كاريش وأجبرت لبنان على التخلّي عن النقطة 29. كما إنها تمكنت من المناورة على قبرص ووضعت يدها على حقل أفروديت.

وكانَ اجتماع لجنة الأشغال العامة في مجلس النواب اللبناني الذي انعقدَ لمناقشة قرار مجلس الوزراء قد شهدَ مناقشاتٍ صاخبة بين الدكتور عصام خليفة، والعميد المتقاعد أنطوان الجميل، والدكتور سعيد أبو راشد الذين كانوا يطالبون بإعادةِ التفاوُض حول إتفاقية 2007. وقد استندوا إلى دراساتهم وخبراتهم، وإلى الرأي الذي أدلى به الرئيس السابق للمحكمة الدولية للبحار الألماني وولف روم الذي نصحَ لبنان بعدم الاستعجال وبتأجيل الإبرام مع قبرص، واللجوء إلى تحكيم محكمة العدل الدولية (وهو من بين الإقتراحات التي نقلتها إلى رئيس الجمهورية السابق ميشال عون في لقاءٍ جانبي عقدته معه منذ أربع سنوات). إلّا أنَّ كلَّ هؤلاء تعرّضوا إلى حملةٍ مُمَنهَجة من بعض النواب وصلت إلى حدِّ السخرية من دراساتهم ومواقفهم، وإنه على العكس، فإنَّ الخط القبرصي “قانوني وعادل ومتوازن”. وقد ساندهم في ذلك الموقف رئيس وفد التفاوض اللواء بحري مازن بصبوص والعضو المحامي نجيب عبد المسيح اللذان كانا قد طعنا في السابق بقرارات الحكومة اللبنانية في تبنّي إحداثيات تقدَّمت بها قبرص في 2007. إلّا أنَّ هذه الإحداثيات وردت كما هي تسلسلًا من دون تعديل في المرسوم رقم 6433 بتاريخ 1/10/2011. ثم ها هما اللواء بصبوص والمحامي عبد المسيح قد عدّلا موقفهما وأصبحا الآن مُساندَين للحلِّ “القبرصي”، ويؤيّدهما في ذلك العميد بسام ياسين، الرئيس السابق للوفد المفاوض البحري. وليس واضحًا ما هو موقف اللواء الركن عبد الرحمن شحيتلي: هل لا يزال مُرتَكِزًا على ما كتبه في كتابه الصادر العام الماضي “الحدود اللبنانية البرية والبحرية” بأنَّ الإتفاق مع قبرص مُجحِف؟ أم أنه هو أيضًا عدل عن ذلك وغيّرَ موقفه؟ هذا الكلام قد يكون قاسيًا على هؤلاء المعنيين الذين أعترفُ بأنهم من أفضل ما قدمه لبنان على صعيد الدقة والخبرة والمنهجية. ولكنه ما أقوله لا بدَّ أن يُقال للأمانة والتاريخ.

ويمكنني تلخيص المحاذير التي أراها بمسألة ترسيم الحدود سواء البرية أو البحرية والتي كررتها في الكثير من المقالات والإطلالات الإعلامية، بما يلي:

1- إصرار الدولة اللبنانية بشقَّيها المدني والعسكري على خوض مفاوضات “سرية وتحت الطاولة” مع الدول المعنية وخصوصًا الدول الكبرى منها، بالإضافة إلى شركات النفط والغاز، وإبقاء هذه المفاوضات بعيدة من أعيُنِ الشعب اللبناني بحجّة حصرية الدولة في إتخاذ القرارات الاستراتيجية، معطوفة مع إصرارٍ على استبعادِ جهةٍ سيادية مُحَدَّدة، وهي وزارة الخارجية اللبنانية، عن دائرة القرار. وهذا الإصرارُ مردّه إلى أنَّ لبنان يرى نفسه انعكاسًا للطرف الآخر المُفاوِض. وأعني أنَّ قبرص وإسرائيل والولايات المتحدة ترغبُ بخوض المفاوضات بشكلٍ “سرّي”. فليَخُض لبنان إذًا مفاوضاته بالسرّ!!! لكن هؤلاء يستغلّون فائضَ القوة المُتوفّر لديهم لإجبار لبنان على تقديم التنازلات. ومن الأفضل لهم أن تبقى هذه التنازلات بعيدة من أعيُنِ الشعب اللبناني لكي لا يُعارضها ولا يُشدّد من عضد دولته.

ومن المضحك المبكي أنَّ هذه الدول تُفاوِضُ لبنان من طريق مبعوثين وسفراء أعلنوا أكثر من مرة تَبَرُّمَهم من نظرائهم السفراء اللبنانيين وطالبوا بإستبعادهم من المفاوضات ودائرة القرار مرة تلوَ المرة. خصوصًا وأنَّ السفراء اللبنانيين كانوا يُقارِعون الحجّة بالحجّة نظرًا لخبراتهم ومهاراتهم القانونية والديبلوماسية التي راكموها. ولهذا فإنّهم كانوا يُدخِلون نوعًا من “التوازن” على عملية المفاوضات. لأنَّ المنطق يقول أنَّ السفراءَ يُفاوضون نظراءهم السفراء، بينما الرؤساء يفاوضون الرؤساء (يذكرني في هذا إستقالة 3 وزراء خارجية مصريين واحد تلو الآخر لِما رَؤوه من تهاون الرئيس أنور السادات أثناء مفاوضات كامب دايفيد. فلا أدري مَن سينصف التاريخ، السادات أم وزراء خارجيته؟). كما إنني سمعتُ العديد من المسؤولين يقولون بأنَّ هذه هي ألف باء المفاوضات الديبلوماسية (أي أن تخُاض بالسر). فإذا كان ذلك صحيحًا، فكيف يتمُّ تغييبُ الجهة السيادية المُكَلَّفة بالديبلوماسية في الدولة اللبنانية، أي وزارة الخارجية، عن هذه المفاوضات؟

2- يُبرّرُ المسؤولون اللبنانيون الكبار بأنَّ هذه “السرية” تقعُ ضمنَ صلاحياتهم الدستورية. إلّا أنهم يتغافلون عمدًا أننا لا نعيش في دولة “ملكية” وإنما في “جمهورية” تُستَمَدُّ السلطات الدستورية والسيادية فيها من الشعب. ففي النهاية، حدودُ الجمهورية اللبنانية يُقرّرها الشعب اللبناني وليس أيّ رئيس للجمهورية أو مجلس نواب أو حكومة مجتمعة كانت أو منفردة (مع احترامي لهم جميعًا ولسلطاتهم الدستورية). بل من واجباتهم الدستورية إعلان هذه الحدود والدفاع عنها، وليس تحديدها من دون إطلاع الشعب اللبناني. ومَن يدرُسُ تاريخ الولايات المتحدة مثلًا يعلم بأنه كلّما كانت تتمدّد في القارة الأميركية غربًا بإتجاه المحيط الهادي، أي كلما أضافت ولاية جديدة إلى مكوّناتها الجغرافية، كانت تُخضِعُ الأمر للإستفتاء الشعبي.

وعلى أيِّ حال، فأنا أُدرِكُ تمامًا أنَّ موقعي السابق كسفيرٍ يحجُبُ عني “الصورة الاستراتيجية الكاملة” التي يمتلكها قادة البلاد. ولكن من زاويتي الديبلوماسية هذه بالذات، فإنني أرى بأنَّ غيابَ وزارة الخارجية عن الصورة يُضعفُ كثيرًا الموقف اللبناني السيادي، لا سيما وأنَّ وزارة الخارجية لها إنجازات كبيرة في هذا المضمار: فالسفير جوزيف عقل العضو في المحكمة الدولية للبحار هو الذي أرسل إلينا في 2007 يُحذّرنا بأنَّ الإتفاقَ مع قبرص مُجحِفٌ بحقِّ لبنان (وهو عَرَّضَ نفسه للحرج الشديد لأنَّ موقعه يتطلّبُ الحياد الكامل في هذا الموضوع. وبالطبع لم يتوصّل إلى هذه النتيجة لولا أنه قد استشارَ غيره من قضاة المحكمة). كما إنَّ أحدَ سفرائنا في جنوب أميركا نقل لنا تحذيرًا مُماثلًا في الوقت نفسه. وتمَّ نقلُ هذه التحذيرات والتنبيهات إلى الدولة اللبنانية، مما أدّى إلى إثارة الموضوع أمام لجنة الأشغال العامة والنقل في البرلمان برئاسة النائب آنذاك محمد قباني. كلُّ هذا أدّى إلى فرملة إبرام إتفاقية قبرص وعودة قيادة الجيش للطلب بإعادة النظر في رسم الخط البحري مع قبرص. فماذا عدا عمّا بدا؟

ومثالٌ آخر عن الإستبعادِ المُتعَمَّد للخارجية إستجابةً لمطالب السفراء والمبعوثين الأجانب، هو أنَّ مركزَ الاستشارات القانونية والأبحاث قد قام بدراسات عدة تؤكد أحقّية النقطة 29 البحرية وما بعدها بموجب القانون الدولي. ولكن تمَّ إستبعادُ مدراء هذا المركز عن مفاوضات الترسيم. كما إنه إمعانًا في السرّية، فقد رفض رئيس الحكومة (آنذاك) نجيب ميقاتي الإفراج عن الدراسة المهمة التي أجرتها هيئة الهيدروغرافية البريطانية، لأنه اعتبرَ أنه هو ”شخصياً“ مَن طالب بهذه الدراسة ويحقُّ له الاحتفاظ بها بالأدراج المغلقة. كذلك رفض الرئيس (آنذاك) ميشال عون الإفراج عن إتفاقية هوكستاين البحرية والخريطة المُصاحِبة لها مما اضطرَّ الجميع للبحث عنها في وسائل الأعلام الأجنبية لمُعاينتها ودراستها. وقد رسمتُ خريطةَ الإتفاق ونشرتها في جريدة “الديار” في 15/11/2024، استنادًا إلى جدول الإحداثيات الذي نُشِرَ في وسائل الأعلام الأجنبية. وقد شكّك هوكستاين في إحدى مقابلاته في كل ما نُشِرَ حول الإتفاق بما فيها الخرائط “المُفتَرَضة” هنا وهناك. فإذا كان ما يقوله صحيحًا، فأينَ هي نسخة الخريطة “الأصلية”؟ ولماذا لا تُنشَرُ ليَطَّلِع عليها الشعب اللبناني؟ وعلى سياقِ سياسة إتباع “السرّية” المُفرِطة، فإنَّ رئيسَي مجلس النواب والحكومة لم يُرِدا الإفراجَ عن النصوص المتعلّقة بإتفاقية إنهاء الأعمال العدائية والخريطة المرافقة ومناقشتها أمام نواب الأمة في هيئة المجلس. وما نُشِرَ في وسائل الأعلام اللبنانية كان مأخوذًا بالأحرى من مصادر إسرائيلية وأميركية.

ولا يفوتني مثالٌ آخر عن التهميش المُتَعَمَّد لوزارة الخارجية هو عندما أثار الوزير السابق محمد عبيد مسألة النصوص المتعلقة بالحدود البحرية في إتفاقية 17 آيار (مايو) 1983. فلجأتُ إلى زملائي في مركز الدراسات القانونية والاستشارات لتفحُّص الخرائط المُصاحبة للإتفاق كون رئيس المركز آنذاك، السفير أنطوان فتال، هو من ترأّسَ هذه المفاوضات في الناقورة. فوجدنا نسخة خريطة واحدة بالأبيض والأسود كُتِب على خلفها بأنَّ الأصل (وسائر خرائط 17 أيار)، موجودة لدى المديرية العامة للأمن العام؟!؟ فلماذا لم يُسمَح لوزارة الخارجية بالاحتفاظ بهذه الخرائط أو بنسخ عنها في محفوظاتها وهي نفسها من خاضت هذه المفاوضات؟ وهل هذه الخرائط الأصلية ما زالت محفوظة في المديرية العامة للأمن العام؟ أما أنها وُضِعت في الأدراج وأصبحت طي النسيان؟ وأخيرًا طُلِبَ من وزير الخارجية يوسف رجي أن يُسلِّمَ الوثائق والخرائط البريطانية والفرنسية التي تلقّاها حول ترسيم الحدود إلى قيادة الجيش لأنَّ الموضوع “تقني ومُعقَّد”.

3- إنَّ حدودَ لبنان لن تُحدّدها أيُّ دولة أجنبية مُنتدِبة مثلما حصل في اتفاقية سايكس-بيكو السرّية، حتى ولو كانت افتراضيًا برعايةِ منظمةٍ دولية مثل الأمم المتحدة (أصلاً الأمم المتحدة لا تقوم ب”ترسيم” حدود الدول كما أخبرني رئيس مركز الخرائط في نيويوك). وأنَّ واجبَ السلطات الدستورية اللبنانية حفظ سلامة هذه الحدود وترسيخها أو تثبيتها أو تحديدها، لا أن ترسمها بالشكل الذي تقرره هي من دون الرجوع إلى الشعب الذي هو مصدر السلطات. فعندما كانت بريطانيا وفرنسا تُرَسِّمَان حدود منطقة الشرق الأوسط بعد إنتهاء الحرب العالمية الأولى، فإنهما كانا يُرَسِّمان حدودَ ولايات وأقاليم ومستعمرات أجنبية تحت مظلة ما يمكن الإطلاق عليه ب”الأمن القومي الإستعماري”. فهما لم يكونا مُنخرطَين برسم حدود بلادهما!!! وإلّا لما لجأا إلى الإتفاقات السرية!!! فهل الرئيس الأميركي دونالد ترامب على سبيل المثال، يستطيع تعديل الحدود مع كندا، ويقول للأميركيين لن أخبركم بتفاصيل الإتفاق لأنه موضوعٌ استراتيجي وأمني؟ وفي المقابل فإنَّ ترامب بصفته رئيسًا يتمتع بصلاحيات السلطة التنفيذية يمكنه أن يُعيدَ رسم خارطة الشرق الأوسط بأكملها من دون الرجوع إلى الشعب الأميركي ليطلب موافقته! فالسياسة الخارجية وإعادة رسم خرائط المنطقة تقعُ ضمن اختصاصاته الدستورية! فهل إذا كانت الدول الإستعمارية قد رسمت حدود مستعمراتها بشكل “سري”، نقوم نحن في الدول المستقلة ذات السيادة بتقليدهم، ونرسم حدودنا بشكل “سري”؟! علمًا بأنَّ تفاصيل هذه السياسة الخارجية بخصوص المنطقة يجري عرضها بشكل دوري على مختلف لجان الكونغرس لمناقشتها.

4- إصرار القيادات العليا في الدولة اللبنانية العميقة على حصر هذه المفاوضات بين أيديهم والخوض فيها، مع أنهم لا يتمتعون بالخبرات المطلوبة لمقاربة ترسيم الحدود البرية أو البحرية. فالدولة اللبنانية لم تقم بأيِّ “ترسيمٍ” للحدود بالمعنى التقني الدقيق للكلمة. إنما هي “ورثت” هذا الترسيم من الدولتين المُنتدِبَتَين فرنسا (على صعيد الحدود مع سوريا) وبريطانيا (على صعيد فلسطين). وجلّ ما فعلته هو تثبيت هذه الحدود أو تحديدها أو تعليمها. فترسيم الحدود لا يتعلق فقط بالتحديات الأمنية أو بمشاريع التحاصص الاقتصادية، بل هي أيضًا عملية تضرب في عمق التاريخ والذاكرة الجماعية الثقافية للشعوب، والمتطلبات الجيوسياسية، وحاجات سكان الأطراف والتخوم المعيشية. فهي قرارات سيادية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.

5- وأنّى للقيادات العليا اللبنانية أن تتكوَّنَ لديها هذه الخبرات في ترسيم الحدود؟ فالدول الكبرى تبنّت منذ إنتهاء الحرب العالمية الثانية المبدأ القانوني (Uti posseditis juris). وملخصها أنَّ لا تعديلَ في الحدود التي رسمها الإستعمار الأوروبي بعد إستقلال دول  العالم الثالث المستقلة حديثًا. أي أنَّ ميزان القوى الدولي الذي انتقل بالفعل إلى القطبين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، ولكن في ما خص الحدود التي رسمتها الدول الأوروبية الاستعمارية، وهي من أصابها من ضمور وانحلال بعد إنتهاء الحرب، تبقى كما هي. فالقطبين الأعظمين لم يكونا راغبَين بإثقال كاهلهما أثناء الحرب الباردة بإعادة ترسيم الحدود على الصعيد الدولي!!!

وقد شاهدتُ بأمِّ عيني عندما تسلّمتُ ملفَّ مزارع شبعا في وزارة الخارجية لمدة 5 سنوات خلال فترة 2003-2007 كم من مرّة منعني الأرشيفَين الفرنسي والبريطاني من الحصول على نسخٍ من خرائط أساسية كان يتم الإشارة إليها في الوثائق الرسمية لديهما وتُعزّزُ الموقف اللبناني في إثبات لبنانية مزارع شبعا. وكنتُ أحدّدُ لهما هذه الخرائط وأسماءها وأرقامها منعًا لأيِّ التباس. فكان يأتي الجواب أحيانًا بأنَّ هذه الخرائط “غير مُتوفِّرة”. وفي مرة أخرى تمَّ إبلاغي بأنَّ مصالح الدولة العليا (raison d’état) تمنع تسليمي نسخًا عن هذه الخرائط. ولهذا، كان من الأفضل على أقطاب “الدولة اللبنانية العميقة” منذ البداية، ونظرًا لتشابُك هذه المسألة وتعقيداتها، أن يُكلِّفوا خبيرًا أو وزيرًا مختصًّا بأن يُتابعَ هو موضوع مفاوضات الترسيم، لا أن يغوصوا هم شخصيًا في تلك المفاوضات عن درايةٍ أو عدم دراية مُستَندين إلى عددٍ قليلٍ من مستشاريهم.

6- غيابُ الخبرات المطلوبة في كلِّ مرحلة من مراحل المفاوضات في تسلسلها الزمني حتى يومنا هذا على الرُغم من أنَّ الخبرات اللبنانية القانونية والخرائطية قد بدأت تتراكم بشكلٍ جدّي منذ العام 2000. أي منذ بدء معالجة مشكلة مزارع شبعا والإهتمام الفعلي بوجود ثروات غاز نفطية في شرق البحر الأبيض المتوسط. فحكومة الرئيس فؤاد السنيورة أرسلت مدير عام وزارة النقل لتوقيع الإتفاق البحري مع قبرص مع أنه لا خبرةَ لديه على الإطلاق في مجال المنطقة البحرية الاقتصادية الخاصة أو في ترسيم الحدود البحرية. وهما ليستا من اختصاصاته التي كان يزاولها دوريًا في وظيفته الأصلية. كما إنه لم يصطحب معه ضمن وفده المفاوض خبيرًا عسكريًا أو ديبلوماسيًا ليعاوناه كما أبلغني السفير اللبناني آنذاك يوسف صدقة. وقد حاول السفير صدقة عبثًا تنبيهه مرات عدة إلى بعض الأخطاء حتى ولو كان يُعرّضُ نفسه لإمتعاض السلطات القبرصية المُنتَدَب إليها.

ومع أنَّ هذه الخبرات الميدانية قد بدأت تتراكم كما ذكرت آنفًا منذ العام 2000، إلّا أنها ما زالت مُتواضِعة جدًا على المستوى الوطني مُقارنةً مع دولٍ نفطية عربية أخرى مثل السعودية والكويت وقطر والإمارات. هذه الدول تحشد، منذ اكتشافات النفط في الحزيرة العربية، نُخبةَ مواطنيها في قطاعَي الغاز والبترول. كما إنَّ هذه الخبرات اللبنانية “الخجولة” التي تتوفّرُ حاليُا لا يُمكِنُ مقارنتها على الإطلاق بخبرات الدول الكبرى الإستعمارية في رَسمِ الخرائط وتَرسيمِ الحدود التي تمتدُّ لمئات السنين التي سبقت. وخبرات الدول الأوروبية هذه قد تمَّ تجييرها للأسف في خدمة إسرائيل بحججٍ مختلفة ومنها الحفاظ على “أمن إسرائيل وسلامتها”. فكلّما حشدَ لبنان آراءَ الخبراء الذين تتلمذوا في العقد الأخير في المعاهد الغربية على القوانين الدولية المُتعلِّقة بترسيم الحدود البحرية، يقوم التحالف الأميركي-الإسرائيلي الذي يؤيد الموقف القبرصي بحشدِ خبراتٍ تفوق ما أعدّه لبنان وتُوقِعُ فيه الهزيمة في كل محطة من محطات التفاوض البحري. ثم أنَّ السرّية التي اتبعتها الدولة تطلّبت تقليص عدد أصحاب القرار والخبراء الذين يخوضون المفاوضات إلى أضيق الحدود، مما فاقم الموقف اللبناني ضعفًا.

7- إحتكار الدول الأجنبية، والكبرى منها على الأخص، تكنولوجيات التنقيب والبحث عن النفط والغاز في البحر والبر، والوسائل المتاحة للنقل البري والبحري، والمشاريع العملاقة لمدِّ خطوط الأنابيب، والتي يشفعها أيضًا التمويل المطلوب الذي يقدر بمليارات الدولارات والتي لا يمكن لبلد صغير مثل لبنان توفيره. إصافة إلى أنَّ هذه الدول هي مَن تشتري هذه المادة وتستهلكها. بحيثُ أصبح لبنان وغيره من الدول الصغرى رهائن لهذه القرارات التي تتخذها هذه الشركات ولعواصم الدول المشرفة عليها. فلا يستطيع الاعتراض أو تعديل القرارات، وإنما يجد نفسه بشكلٍ مُتكرّر في موقعِ المُستَسلِم لها. وهذا يُذكّرني بما قالته لي إحدى الإعلاميات التي حملت لواء النقطة 23 البحرية بدلًا من النقطة 29، بأنه لا يهم إختيار هذه النقطة أو تلك، فالأمر سيّان. أي أنَّ القرارَ اللبناني لا يمكن تطبيقه على أرض الواقع نظرًا للتفاوت الكبير في ميزان القوى الإقليمي والدولي.

8- إفلاس الخزينة اللبنانية بسبب الفساد والهدر والمحاصصات الطائفية وعدم تمكّن الدولة اللبنانية من تمويل أيِّ مشروعٍ أو دراسة أو تنقيبٍ من دون اللجوء إلى الإستدانة من الخارج أو الإستعانة بالخبرات الأجنبية بحجّة عدم توفُّر الإمكانات المحلية. وأصبحنا لا نخطو خطوةً بدون أن نُعلنَ بأننا سنُكلِّفُ “شركات دولية مشهود لها” من أجل إضفاء المشروعية على قرارات الحكومة. وهذا يؤدّي إلى تفاقُم مشكلة الإرتهان للقرارات المُتَّخَذة خارج الحدود.

9- المطامع التي يُعلنها العدو الإسرائيلي بشكلٍ صلف في البر والبحر والتي لا يخفيها ويُعمِّدها بالنار والدم، ولا تترك للبنان مُتَنَفسًا للردِّ عليها إلّا بشقِّ الأنفس حيث يجد نفسه معزولًا من دون حلفاءٍ دوليين أو إقليميين حقيقيين بينما تواصل إسرائيل التمدُّد الجغرافي برًّا وبحرًا بإحتلالها لمواقع مختلفة في الجنوب وفي جبل الشيخ وتُهدّدُ بالدخول إلى البقاع، وتُنادي برسم مناطق إقتصادية وأمنية عازلة، كما تعرض أراض للبيع في الجنوب للمستثمرين الراغبين.

وتأكيدًا لما أوردته أعلاه، أتقدّمُ ربطًا بجُملةٍ من الملاحظات التي تُبَيِّنُ كيفَ أنَّ قرار الحكومة الأخير بتاريخ 23/10/2025 مملوءٌ بالشوائب، والتناقضات، والأخطاء. وحيث أنَّ “لوبي قبرص-شركات النفط والغاز” في لبنان قد اختار أن يتبنّى موقف قبرص بدلًا من موقف بلاده (كذا)، فيمكن، في هذا السياق، التركيز على الكيفية التي رسمت قبرص حدود المناطق البحرية الخاصة بها كما تُظهِرها الخريطة المُرفقة:

ختامًا، وبناءً على ما سبق، هل يمكن إجراء إنقلاب في مقاربة لبنان الإستراتيجية لترسيم الحدود البرية والبحرية؟ في رأيي

يمكن للدولة اللبنانية تصحيح الخلل الفادح في ميزان القوى الإقليمي والدولي من طريق إتخاذ الخطوات التالية:

فهل تقلب الدولة اللبنانية العميقة الطاولة على المتفاوضين؟ أم تُنفّذُ ما هو مطلوب منها؟

Exit mobile version