البروفِسور بيار الخوري*
شهدَ لبنان خلال الشهرين الماضيين ارتفاعًا لافتًا في حوادث الحافلات المدرسية، مع تسجيلِ أربعة حوادث خطيرة منذ بداية العام الدراسي، توزّعت بين بشامون وعرمون وشحور وزحلة، وكُلُّها تضمّنَت انقلابًا أو فقدان سيطرة أو تصادُمًا أدّى إلى إصاباتٍ بين التلاميذ. هذا الرقمُ يُثيرُ سؤالًا طبيعيًا حول ما إذا كانَ يُشكّلُ نسقًا اعتياديًا قياسًا بالسنوات الماضية، غير أنّ غياب الإحصاءات الرسمية الدقيقة يجعل الجواب مرتبطًا بالملاحظة النوعية أكثر من المقارنة الرقمية. ورُغمَ أنَّ لبنان عرف عبر السنوات عددًا من الحوادث المشابهة، إلّا أنَّ تراكم أربعة حوادث كبيرة ضمن فترةٍ قصيرة نسبيًا وقبل حلول فصل الشتاء، يوحي بوجود ارتفاعٍ ملحوظ في الوتيرة، أو على الأقل تكثّفٌ في الحوادث التي تبلغ الإعلام بسبب خطورتها وطبيعتها العنيفة.
من منظورٍ دولي، وجود حوادث في النقل المدرسي ليس أمرًا استثنائيًا، حتى في الدول المُتقدّمة. ففي الولايات المتحدة مثلًا يُسجَّلُ سنويًا الكثير من الحوادث المرتبطة بحافلات نقل الطلاب، إلّا أنَّ معظمها طفيف وغير مُرتبط بانقلاب أو إصابات جماعية، كما إنّ معدّلات السلامة هناك تعتبر مرتفعة جدًا بالمقارنة مع باقي وسائل النقل. هذا يعني أنَّ الحوادث بحدِّ ذاتها ليست مؤشرًا إلى خلل، بل إنّ خطورتها وتكرارها ضمن فترة قصيرة، كما هو حاصل في لبنان، هو العنصر الذي يثير القلق ويجعل المقارنة الدولية غير مطمئنة، خصوصًا أنّ طبيعة الحوادث المحلية تُظهِرُ ضعفًا واضحًا في معايير السلامة الأساسية.
الإطار القانوني اللبناني الذي ينظم النقل المدرسي قائم منذ التسعينيات، وتحديدًا عبر القانون 551/96 الذي يفرضُ وجودَ مراقب في كل حافلة ويُحدّد المسؤوليات المدنية على السائق والمالك وإدارة المدرسة، إضافةً إلى اشتراط تأمينٍ إلزامي يُغطّي الأضرار. كما إنَّ المرسوم 4018/2010 يحدد عدد الركاب ويسمحُ فقط بالجلوس وفقًا لما هو مُصَرَّحٌ به في الرخصة، مع حظر الكراسي الإضافية والتحميل الزائد. وهناك أيضًا مواصفات فنية صادرة عن “ليبنور” يفترضُ أنَّ توجُّهَ مواصفات الباص المدرسي من حيث السلامة، فيما تؤكد وزارة التربية دور المدارس في ضمان التزام السائقين والشركات بهذه المعايير. إلّا أنّ المشكلة تكمن بوضوح في التطبيق، لا في النصوص نفسها. فلا وجود لآلية رقابية مركزية ومنتظمة تضمن الفحص الفني الدوري لكلِّ الحافلات المدرسية بمعايير مُوَحَّدة، ولا يبدو أنّ الالتزامَ بالقانون، سواء من قبل المؤسّسات التعليمية أو شركات النقل أو السائقين، يخضع لتدقيق فعلي، ما يجعل الكثير من البنود القانونية مجرّد توصيات لا تُنفّذ.
هذه الحوادث المُتكرّرة توحي بانهيارٍ تدريجي في منظومة مراقبة صلاحية الآليات، خصوصًا في ظلِّ الانهيار العام الذي يطال مؤسسات الدولة وانعكاسه المباشر على فحص المركبات، وصيانتها، والرقابة على التزامها بمعايير السلامة. وإذا أضفنا إلى ذلك الارتفاع العام في حوادث السير في لبنان خلال الأشهر الأخيرة، يصبحُ من الطبيعي الربط بين هذه الوتيرة والحالة المُتَدَهورة للبنية التحتية والمراقبة. المدارس تعتمد غالبًا على شركات نقلٍ خاصة أو مالكين أفراد يستخدمون حافلات قديمة او حافلات متعددة برقم تسجيل واحد، تقلّصت صيانتها بفعل تراجع القدرة الشرائية وارتفاع أكلاف قطع الغيار، فيما لا تمتلك وزارة التربية ولا القوى الأمنية القدرة على إجراء تفتيش دوري صارم. وهكذا تتحوّل الحافلات المدرسية إلى وسيلة نقل تفتقر أحيانًا إلى الحد الأدنى من شروط السلامة، رُغمَ أنها تحمل الفئة الأكثر حساسية من المواطنين.
في المحصّلة، ورُغمَ غيابِ السجلِّ الوطني الدقيق الذي يسمح بمقارنة كمية صارمة مع السنوات السابقة، إلّا أنّ المعطيات المتوافرة تشير إلى نسق غير طبيعي من الحوادث، وتكشف بوضوح فراغًا رقابيًا كبيرًا يجعل القانون غير مُفعّل، ويُظهر أنّ منظومة النقل المدرسي باتت جُزءًا من الانهيار الأشمل للسلامة المرورية في لبنان. هذا الواقع لا يشي فقط بمشكلة عابرة، بل بمؤشّرٍ إلى تآكل قدرة الدولة على ضبط الجودة والصلاحية في قطاعٍ حسّاس، ما يعني أنَّ استمرارَ هذا المسار سيجعل من كلِّ بداية موسمٍ دراسي فترة عالية المخاطر ما لم يُعاد بناء منظومة رقابية فعّالة تفرض تطبيق القوانين القائمة فعلًا لا نظريًا.
- البروفسور بيار الخوري هو باحثٌ أكاديمي لبناني وكاتب في الاقتصاد السياسي. وهو حاليًا عميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا. يمكن التواصل معه عبر البريد الإلكتروني التالي: info@pierrekhoury.com
