العراق بَعدَ الانتخابات: ديموقراطِيّةٌ مُعَلَّقة بينَ البنادق والتوازُنات

كابي طبراني*

في الحادي عشر من تشرين الثاني (نوفمبر)، تَوَجَّهَ العراقيون إلى صناديق الاقتراع لانتخابِ برلمانٍ جديد، في لحظةٍ قيلَ إنها اختبارٌ لقدرةِ البلاد على الحفاظ على استقرارٍ نادر في منطقةٍ تغلي بالحروب. لكنَّ المشهدَ الانتخابي كشفَ مرّةً أخرى أنَّ الديموقراطية في العراق لا تزالُ حَبيسةَ السلاح، وأنَّ الذين قاتلوا بالأمس في ساحاتِ المعارك باتوا اليوم يحكمون من خلال صناديق الاقتراع.

رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني دخلَ السباقَ الانتخابي مُتقدّمًا على منافسيه، مُستَندًا إلى إنجازاتٍ اقتصاديةٍ ملحوظة ومرحلةٍ من الهدوء الأمني غير المسبوق منذ سنوات. فبينما اشتعلت جبهات الشرق الأوسط من غزة إلى صنعاء، بقي العراق بمنأى عن العواصف، مُستفيدًا من توازُنٍ دقيق بين واشنطن وطهران. غير أنَّ هذا الهدوء الظاهري يخفي تحته واقعًا أكثر تعقيدًا: نفوذًا متجذّرًا للفصائل المسلحة التي لم تُغادر المشهد، بل أصبحت جُزءًا من منظومة الحكم.

في قلب هذا المشهد تقفُ قوات “الحشد الشعبي”، وهي شبكة من الفصائل الشيعية التي نشأت في العام 2014 لمواجهة تنظيم “داعش”، ثم تحوّلت إلى قوةٍ عسكريةٍ وسياسيةٍ واقتصاديةٍ هائلة. فالحشد، الذي يُفتَرَضُ أنه تابعٌ للدولة، باتَ في الواقع دولةً داخل الدولة: يسيطر على وزارات، ويدير شركاتٍ ضخمة، ويتحكّم بشبكاتٍ ماليةٍ ومناطقيةٍ واسعة.

الحكومات المُتعاقبة، بما فيها حكومة السوداني، تعاملت مع “الحشد الشعبي” باعتباره ضرورةً أمنيةً وسياسيةً لا يمكن تجاوزها. مُحاولاتُ تقليص نفوذه كانت محدودة ومؤقتة، لأنَّ الحشد يملك مفاتيح الأمن والاقتصاد والانتخابات. وكما يقول أحد السياسيين في بغداد: “لا يُمكن بناء الدولة من دون الحشد، لكن لا يمكن بناؤها بوجوده أيضًا”.

هذه المفارقة هي جوهرُ الأزمة العراقية. فالنظامُ القائم ليس ديموقراطيةً بالمعنى الكلاسيكي، بل هو “ديموقراطية الميليشيات”؛ نظامٌ يُستَخدَمُ فيه التصويت لتثبيت موازين القوة القائمة لا لتغييرها. اندماجُ الجماعات المسلحة في العملية السياسية لم يُؤدِّ إلى نزع سلاحها، بل إلى تقنين (أو قوننة) سلطتها. الميليشيات لم تَعُد تُهدّد الدولة، لأنها أصبحت هي الدولة.

الولايات المتحدة تنظر بقلقٍ إلى هذا المشهد، وتعتبرُ أنَّ الجماعات الموالية لإيران تُقوِّضُ سيادة العراق وتُهدّدُ مصالحها. وقد أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب عن تعيينِ مبعوثٍ خاص إلى بغداد، في خطوةٍ فسّرها الساسة العراقيون على أنها بدايةُ مرحلةِ ضغطٍ جديدة على الحكومة المقبلة. لكنّ النفوذ الأميركي تراجع كثيرًا؛ فالفصائل لم تَعُد تعملُ من الهامش، بل أصبحت جُزءًا من مؤسسات الدولة نفسها، تملك الشرعية الانتخابية إلى جانب القوة المسلحة.

أما بالنسبة إلى إيران، فالعراق بات الرئة التي تتنفّسُ منها بعد انهيار شبكتها الإقليمية في لبنان وسوريا واليمن. ف”الحشد الشعبي” اليوم هو الامتدادُ الأقوى لما تبقّى من “محور المقاومة”، لكنه في الوقت ذاته يُشَكِّلُ عبئًا على بغداد التي تُحاولُ تجنّبَ أيِّ مواجهةٍ مباشرةٍ مع إسرائيل أو الولايات المتحدة. خلال الحرب الإسرائيلية–الإيرانية القصيرة في حزيران (يونيو) الماضي، التزم الحشد صمتًا مدروسًا، إدراكًا منه أنَّ أيَّ انخراطٍ عسكري قد يفتح الباب أمام ضرباتٍ مُدَمِّرة داخل العراق.

سياسة السوداني الخارجية، المَبنية على ما يُسمّيه “الحياد البنّاء”، تحاول السير على حافة السكين: الحفاظ على علاقاتٍ مع واشنطن وطهران في آنٍ واحد، والانفتاح على الخليج وتركيا. وقد سعى إلى إعادة الشركات النفطية الأميركية الكبرى مثل “شيفرون” و”إكسون موبيل” إلى السوق العراقية، في محاولةٍ لرَبطِ الاستقرار الداخلي بمصالح اقتصاديةٍ أميركيةٍ مباشرة. لكنّ هذا التوازُن هشّ؛ فأيُّ تغييرٍ في المزاج السياسي الأميركي أو أيُّ تصعيدٍ إقليمي يمكن أن يقلب المعادلة رأسًا على عقب.

في الداخل، تبدو الأزمة أعمق من السياسة الخارجية. المجتمع العراقي مُتعَب. بعد أكثر من عشرين عامًا على سقوط صدام حسين، تراجعت الثقة بالديموقراطية إلى أدنى مستوياتها. الفسادُ والبطالة وسوء الخدمات تُنهِكُ جيلًا شابًا يُشكّلُ أكثر من نصف السكان. نسبة المشاركة في الانتخابات انخفضت من نحو 80 في المئة في العام 2005 إلى ما يقارب 56% اليوم، في مؤشرٍ إلى فقدان الأمل. أما حركة تشرين الأول (أكتوبر) الاحتجاجية التي هزّت البلاد في العام 2019 فتمَّ إسكاتها بالرصاص، على أيدي الجماعات نفسها التي باتت اليوم جُزءًا من السلطة.

الزعيم الشيعي مقتدى الصدر، الذي كان يومًا صوتَ الشارع، اختار مقاطعة الانتخابات الأخيرة، مُنَدِّدًا بما سماه “فساد السلاح”. غيابُهُ تركَ الساحة مفتوحة أمام الكتل المدعومة من الفصائل، لكنه لا يزالُ رقمًا صعبًا. فلو تعثّرت مفاوضات تشكيل الحكومة أو تفجّرَ الخلاف بين المكوّنات الشيعية، يُمكنُ للصدر أن يعودَ إلى الشارع في أيِّ لحظة، ومعه احتمال انفجارٍ جديد.

الأسابيع والأشهر التي تلي الانتخابات ستكون أكثر حساسية من يوم التصويت نفسه. تشكيل الحكومة في العراق عملية مُعقَّدة ومُمتَدّة، تتطلّبُ توافقاتٍ بين أطرافٍ مُتصارعة ومُسلّحة. وكلّ مرة تتأخر فيها التسويات، يزداد خطر العودة إلى العنف.

ومع ذلك، يُدركُ معظمُ قادة العراق أنَّ الفوضى لم تَعُد في مصلحتهم. فأسعارُ النفط مرتفعة، والاستثمارات الأجنبية بدأت تعود، والشوارع هادئة نسبيًا. حتى “الحشد الشعبي”، رُغمَ نفوذه، يُدركُ أنَّ أيَّ مواجهةٍ جديدة قد تجلب على العراق ضرباتٍ قاسية من الخارج. ربما يكون هذا الإدراك —لا القوانين أو المؤسّسات— هو الضمانة الوحيدة لبقاء الهدوء.

الانتخاباتُ الأخيرة لم تكن مجرّدَ تنافسٍ على مقاعد البرلمان، بل استفتاءً على مستقبل الدولة نفسها: هل يمكن للعراق أن يتحرّرَ من سلطة البنادق ويُعيدُ الاعتبار لصوت الناخب؟ أم أنَّ صناديق الاقتراع ستبقى أداةً لتجميل واقعٍ تصنعه القوة لا الإرادة الشعبية؟

لقد صوّتَ العراقيون، وانتهى الاقتراع، لكنّ المعركة الحقيقية بدأت الآن — معركة بقاء الدولة في وجه من ادّعوا حمايتها. بين السلام الهشّ والاضطراب الكامن، يقفُ العراق اليوم على حافةِ توازنٍ دقيق، قد يصمد، وقد ينهار في أيّ لحظة.

Exit mobile version