الإيزيديون في سوريا… شعبٌ يَتَشَبَّثُ بظِلِّهِ بَعدَ انهيارِ آخِرِ خُطُوطِ الحِمايَة

بعد عقودٍ من الاضطهادِ وحروبٍ لا تنتهي، يقفُ الإيزيديون في سوريا بين حنينٍ إلى ديارٍ تكاد تفرغ، وخِشيَةٍ من مستقبلٍ لا يَعِدُ بالأمان. في برزان، إحدى القرى القريبة من مدينة الحسكة، تَظهَرُ القصة بأوضَحِ صورها: مُجتمعٌ يتناقص، وذاكرةٌ تُحاوِلُ النجاة.

سليمان راشو وشقيقه الأصغر شادي يجلسان مع جدتهما (يسارًا) ووالدتهما (يمينًا، في الظل) في منزلهما على مشارف قرية برزان، سوريا، في 24 تموز (يوليو). (تصوير ساندرو باسيل).

الحسكة-هانا ديفيس*

على تخوم قرية برزان الإيزيدية الصغيرة في شمال شرقي سوريا (وهي غير بلدة بارزان العراقية الكردية)، وَقَفَ الطفلُ شادي راشو، ابن الأعوام العشرة، يُرَدِّدُ دُعاءً بصوتٍ خافتٍ يشي بما يحمله من حُزنٍ يفوقُ سنّه. استمرَّ صوتُهُ لبضعِ دقائق، فيما أحاطَ به الحاضرون في صمتٍ عميق، كأنما يصغون لنبضِ قريةٍ تتشبّثُ بما تبقّى من روحها.

يقول شقيقه الأكبر سليمان، البالغ 21 عامًا: “هذا ما يستطيع الأطفال الذين بقوا هنا القيام به.”

فالعائلة، مثل كثيرٍ من العائلات الإيزيدية، فقدت معظم أقاربها الذين شدّوا الرحال إلى أوروبا، بعدما أرهقتهم سنواتٌ طويلة من السياسات التمييزية في سوريا، ثم جاء اضطهاد تنظيم “الدولة الإسلامية” ليُعَمِّقَ جراحهم ويدفعهم إلى المنفى.

الإيزيديون (أو اليزيديون)، وهم أقلية دينية–عرقية تتحدث اللهجة الكرمانجية من اللغة الكردية في الغالب، عاشوا تاريخيًا في مناطق تمتدُّ بين إيران والعراق وسوريا وتركيا. وتستندُ ديانتهم، التي تعودُ جذورها إلى آلاف السنين، إلى مزيجٍ من المُعتقدات، تجمعُ بين عناصر وثنية وزرادشتية ومسيحية وإسلامية.

أشارَ سليمان إلى لوحةٍ مُؤَطّرة تتوسّطُ غرفة المعيشة، تُظهِرُ طاووسًا يُرفرِفُ بجَلال. لدى الإيزيديين، لا يُعَدُّ الطاووس طائرًا فحسب، بل رمزًا مُقَدَّسًا يُعرَفُ باسم “ملك طاووس”، الملاك الذي، وُفقَ معتقدهم، تولّى تزيين الأرض عند بدء الخليقة. وتحت قدميه نُقِشَت صورةٌ صغيرة لمعبد لالش النوراني، أقدس المواقع الدينية للطائفة في العراق، ومركز إشعاعها الروحي عبر القرون.

تاريخٌ أليم

وليس غريبًا أن يتشبّثَ الإيزيديون برموزهم بهذا القدر من الاعتزاز؛ فهذه الجماعة عانت تاريخيًا من الاضطهاد وسوءِ الفهم. فقد أساءت دياناتٌ أُخرى تفسير مكانة ملك طاووس، فاعتبرته تجسيدًا للشر، واتُّهِمَ الإيزيديون، ظلمًا، بعبادة الشيطان. ويقولُ أفرادُ الطائفة إنهم مرّوا عبر 74 حملة إبادة جماعية على مدى آلاف السنين، كان آخرها ما ارتكبه تنظيم “الدولة الإسلامية” الذي قتل أكثر من ثلاثة آلاف إيزيدي، وخطف وسبى وأجبر ما يقرب من سبعة آلاف آخرين على اعتناق الإسلام.

وعلى الرُغمِ من أنَّ السنوات الماضية شهدت تحسُّنًا نسبيًا في أوضاع الإيزيديين في شمال شرقي سوريا، مع الاعترافِ الرسمي بهم وتوفير قدرٍ من الحماية في ظلِّ الإدارة الكردية المُسَيطِرة على المنطقة، إلّا أنَّ هذا الشعور بالأمان بدأ يتلاشى أخيرًا. فمع وصول حكومة أحمد الشرع إلى السلطة، عادت المخاوف لتُخَيِّم على أبناء الطائفة. إذ تواجه القوات الكردية المدعومة أميركيًا ضغوطًا متزايدة للاندماج في “الجيش الوطني” التابع للشرع، وهو فصيلٌ تتهمه منظمات حقوقية بالتورُّط في انتهاكات ضد أقليات دينية أخرى.

تقول ليلى محمو، إحدى مديرات “البيت اليزيدي” —وهي منظمة جامعة تُعنى بالدفاع عن حقوق الإيزيديين في سوريا— بنبرةٍ لا تخفي قلقها: “نحنُ جميعًا خائفون من الحكومة الجديدة. رأينا ما حدث للعلويين والدروز. إنهم يعتمدون العقلية نفسها التي استخدمها تنظيم “داعش””.

برزان قرية صغيرة إلى حدٍّ تكاد لا تُرى على الخرائط، تقع شمال مدينة الحسكة بقليل، وتتألف من بضع عشرات من البيوت الطينية، كثيرٌ منها اليوم مهجورٌ لا يَصدحُ فيه سوى صمتِ الريح.

في العام 1947، وَصلَ أسلاف سليمان إلى هذه البقعة بحثًا عن ملاذٍ آمن يزرعون فيه محاصيلهم ويُربّون ماشيتهم، فوجدوا في هذا الامتداد الصحراوي المعزول ما يشبه الوطن. تنحدر العائلة أساسًا من العراق، غير أنّ حضورَ الإيزيديين في سوريا يعودُ إلى قرون، لا سيما في مناطق مثل عفرين شمال غربي البلاد، حيث استقرّت جماعاتٌ إيزيدية منذ القرن الثاني عشر على الأقل.

في القرية، لا يزال عمّ سليمان الأكبر، أحمد درويش رشو، البالغ 88 عامًا، يعتني بأشجار الزيتون وخضروات الأرض، رُغمَ جسده الذي أثقلته السنون. يرتدي ثوبًا أبيضَ كاملًا، وتعلو وجهه شوارب إيزيدية كثيفة مُتدلّية، في مظهرٍ يُجسّد هويةً لا تزال صامدة رُغمَ كلِّ ما مرَّ بها. يُوضّحُ رشو أنَّ عائلته —مثل غالبية الإيزيديين في سوريا— كانت بلا جنسية طوال عقود، ما حرمهم من أيِّ حقوقٍ رسمية في أراضيهم. فقد ظلَّ الإيزيديون على هامش الدولة السورية، تفتقرُ طائفتهم للاعتراف الرسمي، الأمر الذي ساهم في إفقار شريحةٍ واسعة منهم. وفي ظلِّ حكم نظام الأسد، حُظِّرَ عليهم الاحتفال بأعيادهم الدينية أو رفع رموزهم، وأُلزِمَ أبناؤهم بحضور دروس التربية الإسلامية في المدارس الحكومية.

وتشيرُ ليلى محمو إلى أنَّ هذا التهميش المُستَمِرّ، إضافةً إلى الفقر، دفع أعدادًا مُتزايدة من الإيزيديين إلى مغادرة البلاد حتى قبل ظهور تنظيم “الدولة الإسلامية”. ثم جاء العام 2014 ليُشَكّل نقطةَ الانهيار الكبرى؛ إذ ومع تمدد التنظيم الإسلامي المُتطرّف وسيطرته على مساحات واسعة من سوريا والعراق، فرَّ نحو نصف الإيزيديين من سوريا، فانخفض عددهم من حوالي 60 ألفًا في العام 2012 إلى ما بين 34 و40 ألفًا فقط اليوم.

من بين أبناء أحمد درويش رشو التسعة، فرّ ستة من برزان، واستقرّوا جميعًا في ألمانيا. هناك، يشعر أحمد بقلقٍ بالغ على مصير ثقافته الإيزيدية، إذ يخشى أن تتبدّدَ التقاليدُ الصارمة للطائفة في ظلِّ الاندماج داخل المجتمعات الغربية. فوفق الأعراف الإيزيدية، يُعدّ الزواج من خارج الديانة سببًا للاستبعاد من الجماعة، كما يُحدِّدُ النظامُ الطبقي الداخلي —الذي يفصل بين القادة الدينيين والوجهاء وسائر أبناء الطائفة— قواعد الزواج ومكانة الأفراد. ويعتقد أحمد أنَّ الحفاظ على هذا النظام سيكون أكثر صعوبة مع تشتت الإيزيديين في أصقاع العالم.

لكن أثناء حديثه، تلقّى أحمد اتصالًا من أحد أبنائه، بركات راشو، الذي يعيش في هانوفر مع أطفاله السبعة، ليُقَدّم رؤيةً أكثر تفاؤلًا. فمن وجهة نظره، لا يزال مستقبل الهوية الإيزيدية قابلًا للحماية، بل وحتى للازدهار، ما دام أبناء الطائفة مُتَمسّكين بتقاليدهم ومُتضامنين في ما بينهم. يشير بركات إلى أنّ ألمانيا تحتضن اليوم أكثر من 350 ألف إيزيدي، وأنّ الجاليات في الشتات تضغط باتجاه إنشاء معابد ومتاحف تراثية في المناطق التي يتركز فيها وجودهم. ويضيف بثقة: “الأمر يعتمد علينا… وعلى تضامننا.”

بحلول العام 2018، كان تنظيم “الدولة الإسلامية” قد فقد معظم أراضيه، فيما حصل الإيزيديون الذين تقلّص عددهم على اعترافٍ رسمي داخل مناطق الإدارة الكردية الناشئة آنذاك، والتي بسطت سيطرتها على جُزءٍ كبيرٍ من شمال شرقي سوريا إضافةً إلى مناطق من ريف حلب الغربي.

ومع هذا الاعتراف، تنفّس الإيزيديون شيئًا من الحرية التي حُرموا منها طويلًا. فقد تمكّنوا للمرة الأولى في تاريخ سوريا الحديث من ممارسة شعائرهم الدينية علنًا، كما تأسّست مؤسسات ثقافية، أبرزها “البيت الإيزيدي”، بهدف صون تراث الطائفة وتعريف المجتمع المحلي والعالمي بمعتقداتها.

أحمد درويش راشو في غرفة معيشته في منزله بالقرب من برزان في 24 تموز (يوليو) (تصوير ساندرو باسيل).

انحسار الأمان

لكن هذا الشعور بالأمان الذي ناله الإيزيديون بعد سنواتٍ من الاضطهاد، سرعان ما أثبت هشاشته أمام تقلُّبات الحرب السورية. ففي مطلع العام 2018، وجد الإيزيديون في عفرين أنفسهم تحت سيطرة “الجيش الوطني السوري”، وهو تحالفٌ من فصائل المعارضة المدعومة من تركيا، وذلك عقب هجوم واسع قلب موازين القوة في المنطقة.

فُلّة شكرو، البالغة 48 عامًا، كانت واحدة من آلاف الإيزيديين الذين أُجبروا على ترك منازلهم. تقول إنَّ ميليشيات “الجيش الوطني السوري” حاصرت قريتها لما يقرب من خمسين يومًا، قبل أن تدفع السكان جميعهم تقريبًا إلى النزوح. وعلى مدى تلك الفترة، جرى تدمير أو تدنيس أكثر من نصف المزارات الإيزيدية في عفرين، ما جعل من الصعب —وربما المستحيل— على مَن بقي من أبناء الطائفة ممارسة طقوسهم الدينية علنًا.

اتجه معظم الناجين إلى مناطق بقيت تحت السيطرة الكردية، مثل حَيَّي الشيخ مقصود والأشرفية في مدينة حلب، أو إلى منطقة تُعرف بـ”كانتون الشهباء” في ريف حلب الشمالي. غير أنَّ هذا الملاذ لم يَدُم طويلًا؛ ففي كانون الأول (ديسمبر) 2024، وأثناء الهجوم الخاطف الذي شنّه المتمرّدون السوريون للإطاحة ببشار الأسد، طرد “الجيش الوطني السوري” المدعوم من تركيا القوات الكردية من الشهباء، ما أجبر آلاف الإيزيديين على الفرار مُجَدَّدًا.

وبعد أشهرٍ قليلة، في نيسان (أبريل)، انسحبت القوات الكردية أيضًا من حَيَّي الشيخ مقصود والأشرفية، وسلّمت السيطرة للحكومة السورية، امتثالًا لاتفاق تم التوصل إليه في آذار (مارس) بين الرئيس أحمد الشرع والزعيم الكردي مظلوم عبدي، قائد “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد).

تعيش فُلّة شاكرو اليوم في حي الشيخ مقصود، حيث لجأت عقب فرارها من عفرين. لكنها تقول إنّ هذا الملاذ المؤقت لم يَعُد يُشعِرها بالأمان. فمع انتشار القوات السورية الجديدة في المنطقة، بات الإيزيديون يحدّون من تحركاتهم، ويتردّدون في مغادرة الحي كما اعتادوا سابقًا. تقول شاكرو بنبرةٍ يختلط فيها التعب بالأسى: “لا نعيش حياة جيدة… بالكاد نعيش. أين الحرية؟ أين الأمن؟”.

فالشرع، الذي يتولّى الحكم اليوم، هو قيادي سابق في “جبهة النصرة”، التنظيم الذي كان مرتبطًا بـ”القاعدة” في سوريا. وقد أدخل عددًا كبيرًا من الجهاديين السلفيين إلى مواقع حكومية وعسكرية حساسة، بينهم عناصر سابقون في ميليشيات “الجيش الوطني السوري” التي هاجمت عفرين في العام 2018.

ومن بين هذه التعيينات المُثيرة للقلق، اختياره للعميد أحمد الهايس —قائد فصيل “أحرار الشرقية” سابقًا— ليكون مسؤولًا عن جُزءٍ واسع من شمال شرقي البلاد. ويُتَّهَمُ الهايس بشكلٍ مباشر بالتورُّطِ في انتهاكاتٍ خطيرة ضد أقلّياتٍ دينية وعرقية، من بينها الاتجار بالنساء والأطفال الإيزيديين أثناء سنوات الصراع.

ورُغمَ محاولات الحكومة السورية الجديدة طمأنةَ الأقليات بأنها ستكون محمية، فإنَّ مشروعَ الدستور الذي طُرِحَ يُعيدُ التذكيرَ بمخاوفهم العميقة. فهو يُعرّفُ الإسلامَ باعتباره “المصدر الرئيسي” للتشريع، ولا يعترف بحرية المعتقد إلّا للأديان السماوية الثلاثة: اليهودية، المسيحية والإسلام، ما يعني عمليًا استثناء الإيزيديين.

تقول شاكرو، بصوتٍ يخفت عند نهايات الجمل: “نشعر بالإقصاء الآن… كأنَّ لا أحدَ يُريد أن يُشرِكنا.”

في شمال شرقي البلاد، تابعَ الإيزيديون بقلقٍ مُتزايد التطوُّرات الأخيرة في حلب بعد انسحاب الإدارة الكردية منها، مُبدينَ خشيتهم أن يتكرّرَ السيناريو ذاته على أراضيهم في أيِّ لحظة.

يقول إسماعيل ضيف، البالغ 47 عامًا، وهو مدير “البيت الإيزيدي” في برزان ويعمل إلى جانب ليلى محمو: “لا شكَّ أنَّ هناك مخاوف كثيرة.” ويضيف بلهجةٍ لا تخلو من التحفّظ: “الحكومة التي تُديرُ سوريا اليوم تضمُّ عشرات الفصائل التي تلطّخت أيديها بدماء السوريين.”

ويُشيرُ ضيف إلى أنه عقب هجوم كانون الأول (ديسمبر)، استقبلت مناطق الشمال الشرقي ما يقرب من 2600 إيزيدي فرّوا من ريف حلب. كثيرون منهم كانوا يعيشون في مخيّمات نزوحٍ داخل “كانتـون الشهباء”، التي تعرّضت —بحسب قوله— لهجماتٍ من قبل “متطرّفين”.

من جانبها، تقول محمو إنها تأمل بأن تظلَّ مناطق شمال شرقي سوريا تحت سيطرة قوات سوريا الديموقراطية، مؤكدةً : “نحنُ نريد أن تبقى “قسد” مسؤولةً عن أمن المنطقة.”

قلقٌ من مستقبلٍ غامض

لكن هذه الآمال تصطدمُ بواقعٍ سياسيٍّ مُتَغيِّر؛ إذ تضغطُ الولايات المتحدة على القوات الكردية للإسراع في تنفيذ اتفاق الاندماج مع دمشق. وفي 16 تشرين الأول (أكتوبر)، أفادت وكالة “أسوشييتد برس” بأنَّ مظلوم عبدي حقّقَ تقدُّمًا في المحادثات مع الحكومة السورية، وتمَّ الاتفاقُ على “آليةِ دَمجٍ” تنضمُّ بموجبها قواته إلى الجيش السوري الجديد كوحدة واحدة كبيرة.

هذا التطوُّر أثار قلقًا كبيرًا بين أبناء قرية برزان. فبحسب سليمان، لا يُوجدُ ما يدفعهم للثقة بالسلطات السورية الجديدة، قائلًا إنه لن يُغامِرَ بدخولِ دمشق خشية ما قد يواجهه عند نقاط التفتيش. فحتى الإجراءات الروتينية —كالحصول على جواز سفر— باتت تتطلّبُ السفر إلى العاصمة، وهو أمرٌ يراه كثيرون محفوفًا بالخطر.

لم يَخفِ العمُّ الأكبر، أحمد درويش رشو، شعوره العميق بالإحباط تجاه الولايات المتحدة. فبالنسبة إليه، كانت واشنطن قد لعبت دورًا حاسمًا في حماية مجتمعه من تنظيم “الدولة الإسلامية”، لكنها اليوم —كما يرى— تديرُ ظهرها للإيزيديين عبر دعمها للرئيس السوري الجديد. قال بحزمٍ وهو يصرُّ على أن يُنشَرَ كلامه كما هو: “نحنُ مستاؤون مما تفعله أميركا.”

وتتشارك ليلى محمو وإسماعيل ضيف المخاوف ذاتها، إذ يخشيان أن يؤدّي غياب “قوات سوريا الديموقراطية” إلى وقف الجهود الرامية للعثور على آلاف الإيزيديين المُختَطفين الذين ما زال مصيرُهم مجهولًا منذ سنوات. يقول ضيف إنَّ تنظيم “الدولة الإسلامية” خطف 6417 إيزيديًا، ولم يُطلق سراح سوى نحو النصف —3573 شخصًا— بينما لا يزال الباقون في عداد المفقودين. ويُنسّق “البيت الإيزيدي” بشكلٍ وثيق مع السلطات الكردية للبحث عنهم، بمن فيهم الأطفال الذين ما زال بعضهم محتجزًا في مخيم الهول، المعسكر الشاسع الذي يؤوي بقايا التنظيم.

ويُضيفُ ضيف أنَّ الحكومة السورية الجديدة لم تُظهِر أيَّ مبادرة في البحث عن عشرات الإيزيديين الذين يُعتقد أنهم لا يزالون محتجزين في مناطق مثل إدلب وحلب وحماة. ويُحذّرُ من أنه إذا انسحبت “قسد”، فسيصبح من شبه المستحيل الوصول إلى أولئك المفقودين أو تحرير مَن قد يكون منهم ما زال حيًّا.

مديحة إبراهيم الحمد، وهي ناشطة ومخرجة أفلام إيزيدية في العشرين من عمرها، تشارك القلق ذاته. فهي تخشى أن يكونَ المجتمع الدولي قد طوى صفحة معاناة الإيزيديين. في طفولتها، عاشت المأساة بكلِّ تفاصيلها؛ فقد اختُطِفت من منزلها في سنجار بالعراق وهي في العاشرة، وبِيعَت جاريةً لمقاتل من “داعش”، وبقيت ثلاث سنوات في الأسر حتى بلغت الثالثة عشرة.

لا يزالُ مصيرُ والدَي مديحة مجهولًا حتى اليوم. وعندما تحدّثَت إليَّ في نيويورك، المدينة التي أصبحت موطنها الجديد، لم تستطع حبس ارتعاشة صوتها وهي تقول: “أين أمي؟ أين أبي؟”. وتضيف: “أشعر بحزن شديد على شعبي… كثيرون ما زالوا مفقودين، وكثيرون يعيشون في مخيمات.”
تدعو مديحة المجتمع الدولي إلى توفير موارد أكبر للبحث عن المختطفين، فقصتها ليست سوى واحدة من آلاف القصص التي عاشتها نساء وفتيات إيزيديات خلال سنوات العنف.

في برزان، يتمسّك سليمان بالأمل في البقاء في قريته، ومواصلة ما بقي من العادات التي ورثها عن أبيه وجدّه. لكن أفراد الجيل الأكبر، ممن عاشوا تحوُّلات العقود الماضية، يتحدثون بنبرة أقل تفاؤلًا بشأن مستقبل المجتمع الإيزيدي. تقول جدته، سهام درويش مصطفى، البالغة 67 عامًا، إنَّ أبناءها الذين غادروا البلاد “لن يعودوا على الأرجح”.

تتجوَّلُ سهام خارج منزل العائلة، تمرّ على حظيرةِ الدجاج والأغنام، ثم تتوقّفُ عند قبر زوجها. يعلوه سقفٌ إسمنتي مُدَبّب يجعل شاهده يشبه، عن قصد أو مصادفة، معبد لالش المقدّس… كأن قطعةً صغيرة من روح المعبد أُعيدت إلى هذه الأرض البعيدة.

رشّت سهام الماء على قبر زوجها، كأنها تمنحه لحظة راحة من قيظ الصحراء. ثم أفرغت ما تبقّى في زجاجتها داخل الحوض الحجري الصغير عند رأس القبر، مُبتسرةً آخر أمنياته: أن يبقى الماء متاحًا للطيور التي تحطّ هنا بحثًا عن الحياة. من حولها، تمتد قبور أخرى غطّاها الغبار والنسيان، لا أحد يمرّ بها سواها، وكأنها آخر من يواصل طقوس الوفاء في قرية تتناقص أصواتها يومًا بعد يوم.

تقول سهام إنَّ عودة أولادها وأقاربها كانت كفيلة بأن تُعيدَ بعض نبضٍ إلى برزان، وربما تمنح المجتمع الإيزيدي فرصة أخرى للبقاء على هذه الأرض. تستدير بعدها مُبتَعِدة، تاركةً قطرات الماء الأخيرة تتساقط في الحوض، قبل أن تهمسَ وكأنها تُودِع سرًّا أثقلته السنين: “لكنَّ الناس… خائفون.”

Exit mobile version