لم يعد السؤال “كيف نوقف الحرب؟” بل “كيف نُبقي السلام؟”. التقرير التالي يعرض مساراتٍ واقعية لحلّ الدولتين، من “كونفيدرالية الأرض المقدّسة” إلى “أرض للجميع”، ويضع تفاصيل قابلة للتطبيق لطيّ ملف الدم إلى اتفاقٍ عادلٍ ودائم.
الأمير زيد رعد الحسين*
إنَّ صوغَ سلامٍ دائمٍ وعادلٍ وشاملٍ في الشرق الأوسط ينبغي أن يُحاكي بناء جسر. على أحد الجانبين، يتعيّن على مهندسي السلام البناء انطلاقًا من وضعهم الحالي: التفاوض على اتفاقٍ لوقف إطلاق النار، والالتزام به، وتوجيهه نحو تسويةٍ دائمة. وعلى الجانب المقابل، ينبغي على الآخرين أن يُحدِّدوا ملامح تلك التسوية الدائمة، ثم إعادة هندستها عكسيًا لربطها بالجهود الحالية.
إذا اتبعوا هذا المخطط، أمكن للذين يعملون على رؤيةٍ أطول أمدًا للسلام أن يفعلوا ذلك من غير أن يتأثروا بما قد يطرأ في المدى القريب من اضطراباتٍ سياسية أو أحقادٍ هائجة. إنَّ إفراج “حماس” عن جميع الرهائن الإسرائيليين الناجين، وتراجع إسرائيل داخل غزّة، وإنهاء حملتها المروّعة في القطاع (التي وصفَتها لجنةُ تحقيقٍ تابعة للأمم المتحدة وكثيرٌ من الخبراء بأنها إبادة جماعية) يوفِّر متنفسًا ضروريًّا للغاية. كما ينبغي إسناد الفضل للرئيس الأميركي دونالد ترامب وإدارته في المساعدة على تأمين الهدنة الوليدة. لكن هذا وقف إطلاق النار لن يكونَ إلّا استراحةً قصيرة، وانقطاعًا في قصةٍ طويلة كئيبة، إذا لم يُوصَل ويُربَط في نهاية المطاف بتسويةٍ سياسية مستقبلية تستوعب التطلعات المشروعة للإسرائيليين والفلسطينيين معًا: دولتان. قد يبدو مثل هذا الترتيب بعيدًا، غير أنَّ السعي إليه ليس ضربًا من العبث أو الحماقة. فصياغةُ تفاصيل ما قد تبدو عليه دولتان تعيشان جنبًا إلى جنب في سلامٍ ووئامٍ لا تعتمد بالضرورة على المزاج العام السائد اليوم. يمكن للخبراء صياغة التفاصيل الآن بما يُلهِمُ قبولًا واسعًا في المستقبل.
للأسف، كان النهجُ السائد منذ فترة طويلة بالنسبة إلى السلام في الشرق الأوسط هو معالجة التحديات الآنية والعابرة من دون رؤية واضحة للهدف النهائي. هذا ما طُبِّق في اتفاقات أوسلو في التسعينيات وخريطة الطريق للسلام في الشرق الأوسط في العام 2003. واليوم، يُركّز كثيرون مجددًا على الشروط الفورية: كيف نغتنم مبادرة ترامب ذات “النِّقَاط العشرين” ونوسِّع المرحلة الأولى من وقف إطلاق النار بحيث تستقرّ غزّة على نطاق أوسع.
وعلى الرُغم من أنَّ وقف المعاناة في غزّة، إلى جانب تأمين الإفراج عن الرهائن والأسرى، هدفٌ ملحٌّ وضروريٌّ، فإنه يظلُّ شكلًا آخر من وقف إطلاق النار — لا سلامًا دائمًا. إطار ترامب، بصيغته الراهنة على الأقل، يلامس احتمال قيام دولة فلسطينية من دون تفصيلٍ إضافي. وقد قبل الفلسطينيون والدول العربية بالخطة — بدافع الحرص الشديد على إنهاء البؤس والمأساة في غزّة. لكن من الصعب تصوّر قدرتهم على مواصلة دعمها في المدى الأبعد من غير التزام أميركي واضح بحلِّ الدولتين. فهذا، في نهاية المطاف، ما عبّروا عنه حين أيَّدوا “إعلان نيويورك” الذي قادته فرنسا والمملكة العربية السعودية أخيرًا، وقدّم خارطة طريقٍ لحل الدولتين ونال تأييد الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول (سبتمبر).
لا شكّ في أنَّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وحلفاءه ما زالوا يعارضون من حيث المبدَإِ قيام دولة فلسطينية — بل سعوا إلى إجهاض إمكانية تأسيسها. إلّا أنَّ هذا الموقف ليس ثابتًا؛ فالمواقف العامة والضغوط السياسية تتغيَّر باستمرار، وقد يفكّر قادة إسرائيل على نحوٍ مختلف في المستقبل. وفي هذه الأثناء، على الإسرائيليين والفلسطينيين الذين يريدون بناء حلّ الدولتين أن يمضوا قدمًا. ولحسن الحظ، بذلت منظمات المجتمع المدني الإسرائيلية والفلسطينية في السنوات الأخيرة جهودًا مشكورة لرسم صورةٍ أكثر تفصيلًا للسلام.
هناك اليوم ثلاث صيغٍ رئيسة محتملة لحل الدولتين. الأولى اقتراحٌ تقليديٌّ نسبيًّا قدّمه رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود أولمرت ووزير الخارجية الفلسطيني الأسبق ناصر القدوة، يبدأ من حيث انتهى إليه المفاوضون قبل نحو عقدين. أمّا الاثنتان الأخريان فتدفعان باتجاه إنشاء كيانَين كونفيدراليين يضمّان دولتين متداخلتين بطرقٍ مختلفة: “كونفيدرالية الأرض المقدسة” التي طرحها الوزير الإسرائيلي السابق يوسي بيلين والمحامية الفلسطينية هِبَة الحسيني، ومبادرة “أرضٌ للجميع: دولتان، وطن واحد” التي صِيغت على مدى سنواتٍ من المشاورات المشتركة بين طيفٍ واسع من قيادات المجتمع المدني الإسرائيلي والفلسطيني، وتقودها اليوم الناشطتان ماي بونداك ورُلى هَردَل. تبحث هذه الخطط الكونفيدرالية عن وسائل مبتكرة لتجاوز العقبات التي جعلت بلوغ سلامٍ دائم صعبًا في الماضي. ومثلُ هذا التفكير الإبداعي بعيد المدى أمرٌ حاسم. فبينما يسعى الفلسطينيون إلى لَمِّ شتات حياتهم في غزّة ويعود آخرُ الرهائن الإسرائيليين إلى منازلهم، يصبح من الضروري أن نشرع في تشييد الضفة الأخرى من الجسر، مع إيلاء وزنٍ كامل للمقترحات البراغماتية التي قدّمها الإسرائيليون والفلسطينيون من أجل حلٍّ موثوقٍ ودائمٍ يقوم على دولتين.
البدايات الخاطئة
يستلزم فهم هذه المبادرات النظر أولًا إلى ثلاثة عقود من الجهود نحو حلّ الدولتين. فمن خلال سلسلة محادثاتٍ ثنائية بدأت مع مسار أوسلو في العام 1993، اتفق الإسرائيليون والفلسطينيون على نهجٍ تدريجي لصناعة السلام يَختَتَمُ باتفاقٍ حول “قضايا الوضع النهائي” الخمس: الحدود، والمستوطنات الإسرائيلية، والقدس، وحق عودة اللاجئين الفلسطينيين، والترتيبات الأمنية. وقد اعتُبرت هذه القضايا عصيّةً إلى حدٍّ يُستحسن تركُها للنهاية حين تتراكم الثقة بين الجانبين.
كان يُمكنُ أن ينجحَ هذا النهج لو وُجِدَت آلية تُلزِمُ الطرفين بالجداول الزمنية المُتَّفق عليها مهما كانت الظروف — ولو لم تكن تلك الظروف مضطربة إلى هذا الحد. فقد نالت هجماتُ متطرّفين إسرائيليين و”حماس” من العملية منذ بدايتها تقريبًا. ففي العام 1994 نفّذ متطرفٌ إسرائيلي-أميركي عمليةَ إطلاق نار جماعي بحقّ فلسطينيين في المسجد الإبراهيمي بالخليل. وفي العام التالي اغتال متطرفٌ إسرائيلي رئيس الوزراء إسحاق رابين. وبعد أشهر، قتلت القوات الإسرائيلية المهندس يحيى عيّاش، فردّت “حماس” بسلسلة تفجيراتٍ مروِّعة استهدفت حافلات. كلُّ هذه الهجمات أنهكت عملية السلام، وسرعان ما سقطت الجداول الزمنية من الاعتبار. وتدهورت العملية أكثر في العام 1996 عقب انتخاب بنيامين نتنياهو رئيسًا للوزراء بعدما خاض حملته ضد أوسلو. ولم تكن لدى الإسرائيليين أو الفلسطينيين رؤيةٌ أوضح لكيفية حسم قضايا الوضع النهائي، فيما استمرَّ بناء المستوطنات بوتيرةٍ متسارعة في الضفة الغربية وغزّة.
استعادَ مسار أوسلو زخمًا عابرًا في 1999 عقب تولّي إيهود باراك رئاسة الوزراء. حاول باراك إنقاذ أوسلو بالقفز مباشرة إلى مفاوضات الوضع النهائي. لكن المحاولة فشلت أيضًا. فبعد انتهاء محادثات كامب ديفيد في العام 2000، أحجم ياسر عرفات عن قبول عرض باراك بالكامل — ويعزو بعضهم ذلك ليس إلى “تعنُّت” عرفات بقدر ما يعود إلى استعجال التفاوض وسوء الكيمياء الشخصية بين الرجلين.
ومع ذلك، طرح الرئيس الأميركي بيل كلينتون في ختام محادثات كامب ديفيد “معاييره” المقترحة للسلام، بما فيها فكرة تبادل الأراضي. وكانت حجته بسيطة: إذا أمكن الاتفاق بدقة على الحدود الفاصلة بين إسرائيل والأراضي الفلسطينية، أمكن حلّ مسألة المستوطنات الشائكة. تقضي مقترحاته بأن تُرَسَّم الدولتان على أساس “الخط الأخضر” (حدود ما قبل حرب الأيام الستة في العام 1967 التي سيطرت فيها إسرائيل على الضفة وغزّة) مع تعديلاتٍ ما. يتنازل الفلسطينيون عن 4–6% من مساحة الضفة لإسرائيل بلا تعويضٍ إقليمي، وعن 1–3% إضافية مقابل أراضٍ تمنحهم إياها إسرائيل من أماكن أخرى. وبهذا التعديل تحتفظ إسرائيل بنحو 80% من كتلة المستوطنين، بينما يُعاد توطين المستوطنين الذين ستبقى منازلهم ضمن أراضي الدولة الفلسطينية داخل إسرائيل.
غدت فكرة “تبادل الأراضي” المفتاحَ الرئيس لمحاولات فتح بقية القضايا. فخلال السنوات التالية دخلت هذه الفكرة في خطط أخرى للتوصل إلى اتفاقٍ نهائي مثل مبادرة “صوت الشعب” في تموز (يوليو) 2002، ثم “اتفاق جنيف” في كانون الأول (ديسمبر) 2003. وقدّم الأخير، الذي صاغته شخصياتٌ مدنية من الطرفين، نموذجًا لاتفاق سلامٍ إسرائيلي-فلسطيني وخطوطًا عامة لحلّ الدولتين، لكنه لم يُقدِّم تفاصيل كافية حول كيفية تطبيق تبادل الأراضي.
على الرُغم من تلك الجهود، جرف تصاعدُ العنف وازديادُ انعدام الثقة وتباعدُ الأولويات الديبلوماسية. وبحلول 2003 بلغت العلاقات حضيضًا جديدًا مع استمرار الانتفاضة الثانية التي أشعلتها زيارةٌ استفزازية للسياسي الإسرائيلي أرييل شارون إلى الحرم الشريف في أيلول (سبتمبر) 2000. فشلت حينها مبادرتان مهمتان في نيل تأييد إسرائيل: “المبادرة العربية للسلام” في آذار (مارس) 2002 بقيادة ولي العهد السعودي (آنذاك) الأمير عبدالله بن عبد العزيز، و”خريطة الطريق” التي قدّمتها “اللجنة الرباعية” (روسيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة) في أواخر نيسان (أبريل) 2003. وقد حدّدتا إطار قبول حلّ الدولتين إقليميًا: اعترافٌ عربيٌ شامل بإسرائيل مقابل إنهاء احتلال الأراضي الفلسطينية. كما أظهرتا رغبة المجتمع الدولي في دفع الطرفين نحو اتفاق. لكن إسرائيل ظلّت غير مقتنعة بالمبادرة العربية، وقدّمت بالنسبة إلى “خريطة الطريق” 14 تحفظًا. ورأت حكومة شارون أنه لا يمكن فعل شيء قبل وقف الانتفاضة، فيما اعتقدت دول عديدة بإمكان متابعة العمل على إنهائها والتفاوض نحو حلّ الدولتين في مسارَين متوازيين.
لم تُستأنف فكرة تبادل الأراضي إلّا بعد انحسار الانتفاضة وتبدُّل القيادة لدى الطرفين: أولمرت في إسرائيل في العام 2006، ومحمود عباس رئيسًا للسلطة في العام 2005. لكنهما عجزا عن الاتفاق على النسبة الدقيقة للأراضي المتبادلة. وبعد عامين من المفاوضات تعثّر الجانبان في نطاق 4–6%. وكانت تلك آخر مفاوضاتٍ جادة مباشرة حول قضايا الوضع النهائي.
الماضي مُقدِّمةٌ للحاضر
بعد نحو عقدين، عاد أولمرت —بصفته مواطنًا— ليقف خلف مبادرةٍ جديدة مع ناصر القدوة. واستأنفت “خطة أولمرت–القدوة” من حيث انتهت محادثات أولمرت–عباس في العام 2008، لكنها تضيف لغة إبداعية حول غزّة والقدس. وقد اقترحا نسبة 4.4% لتبادل الأراضي، مع إنشاء ممرٍّ يربط غزّة بالضفة.
وتنفرد هذه المبادرة —وإنْ باتت تشبه جوانب من “خطة النقاط العشرين”— بأنها تركّز أيضًا على إنشاء هيكل حوكمةٍ تقنيّ لغزّة يسمّى “مجلس المفوّضين”، بخلاف نظيره في خطة ترامب، يكون مرتبطًا بـ”مجلس وزراء” السلطة الفلسطينية.
وتُجرى انتخاباتٌ عامة بعد عامين إلى ثلاثة أعوام من تأسيس المجلس. ويُنشر “وجودٌ أمنيٌّ عربي مؤقت” في غزّة للعمل مع قوّة أمنية فلسطينية خاضعة لمُساءلة “مجلس المفوَّضين”. وستسدّ هذه القوةُ الفجوة الأمنية وتمنع الهجمات على إسرائيل. كما يُعقَد مؤتمر مانحين لتمويل إعادة إعمار غزّة.
تُقسَّم القدس إلى عاصمتين على طول الخط الأخضر، مع إدراج الأحياء اليهودية التي بُنيت بعد حزيران (يونيو) 1967 على الجانب الفلسطيني ضمن تبادل الأراضي. وتُدار البلدة القديمة عبر “وصايةٍ” من خمس دول، بينها إسرائيل ودولة فلسطين، وفق قواعد يضعها مجلس الأمن الدولي. وتعترف الخطةُ بالدور الخاص لملك الأردن في رعاية المقدّسات الإسلامية. ولن تكون هناك سيادةٌ حصرية لأيِّ دولة على ما يُعرف بـ”الحَوْض المقدّس”، ويُتاح لجميع المصلّين الوصول إلى المواقع المقدسة من دون قيود. وتكون الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح باستثناء الأمن الداخلي.
ولا تُقدّمُ الخطة توصياتٍ حاسمة لكل قضايا الوضع النهائي؛ إذ تُترَكُ ملفّات المستوطنين والمستوطنات واللاجئين وتدابير الأمن الإضافية —بما في ذلك احتمال نشر قواتٍ دولية على طول نهر الأردن— لمفاوضاتٍ لاحقة.
كونفيدرالية في الأرض المقدسة
روّج الوزير والسياسي الإسرائيلي السابق يوسي بيلين، أحد المهندسين الأصليين لعملية أوسلو والمفاوض المخضرم الذي شارك أيضًا في قمة كامب ديفيد في العام 2000، ومحادثات طابا في العام 2001 بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، واتفاقية جنيف في العام 2003، لجهد ثانٍ، يمكن القول إنه أكثر إبداعًا. ومنذ العام 2021، يدعو هو والمحامية الفلسطينية هبة الحسيني إلى اتفاقٍ يُطلقُ عليه اسم “كونفيدرالية الأراضي المقدسة”. وستتكوَّن هذه الكونفيدرالية من دولتين تقوم على تبادلٍ للأراضي يقتصرُ على حوالي 2.5% من إجمالي الأراضي. وعلى عكس اقتراح أولمرت-قدوة، يركز هذا الاقتراح على هيكل الدولتين ويطرحُ بعضَ الحلول لقضايا الوضع النهائي الشائكة. يتمثل انحرافه الرئيسي عن الصيغة الأكثر شيوعًا لمقترح أولمرت-قدوة في فكرة الإقامة الدائمة للمستوطنين الإسرائيليين واللاجئين الفلسطينيين، وهي فكرة لا تزال جديدة: إذ يمكن للإسرائيليين الذين لا تشمل مستوطناتهم تبادل الأراضي البقاء في منازلهم كمقيمين دائمين في فلسطين المستقبلية، ويمكن لعدد مماثل من اللاجئين الفلسطينيين السعي إلى الحصول على إقامة دائمة في إسرائيل. ويتناول المقترح بتفصيل أنواع الاختصاصات القانونية المحتملة التي ستنطبق على هؤلاء المقيمين الدائمين.
من خلال إدخال فكرة “الإقامة الدائمة”، يحاول بيلين والحسيني معالجة مسألتَي الحدود والمستوطنات دفعةً واحدة — كما حاولت “تبادلات الأراضي” في عهد كلينتون. كما يسعيان إلى حلّ سؤال “إلى أين يذهب اللاجئون” عبر إتاحة أكثر من العدد الرمزي المقترح في أوسلو، وفي الوقت نفسه تجنُّب الحاجة إلى نقلٍ قسريٍّ واسعٍ للمستوطنين وما قد يصاحبه من فوضى. لكن يتعيّن على الطرفين التفاوض على جدولٍ زمني دقيق يسمح أولًا للدولة الفلسطينية بأن تصبح فاعلةً بالكامل، ثم لقيام الكونفيدرالية.
ومثل خطة أولمرت–القدوة، يدعم مقترح الكونفيدرالية تقسيم القدس إلى عاصمتين. لكنه بدل وصاية خماسية على “الحوض المقدّس”، يفضِّل لجنةً مشتركة إسرائيلية-فلسطينية تتولى أيضًا التخطيط البلدي. ورُغمَ أنه يتطلع إلى أن تغدو القدس كلها “مدينةً مفتوحة” في النهاية، فإنه يدعو إلى فتح البلدة القديمة فور قيام الكونفيدرالية. كما يقترح عددًا من المؤسّسات الكونفيدرالية، بينها “لجنة لحقوق الإنسان”. وفي الأمن، يدعو إلى امتناع الطرفين عن أي تعاونٍ عسكري مع دولٍ أو كياناتٍ معادية للطرف الآخر — من دون تفصيلٍ في سياق اتفاقٍ شامل.
إلّا أَّن “بند الخروج” في مقترح الكونفيدرالية قد يشكّل ثغرة: إذ يتيح لأيٍّ من الدولتين الانسحاب، ما قد يُغري القوى الرافضة في كلا المعسكرين بالدفع لإسقاط الترتيب كما حدث مع أوسلو. سيعارض بعض السياسيين الكونفيدرالية منذ البداية، وسيستغل آخرون مشاكل “الأسنان اللبنية” لحشد التأييد ضدها، مستندين إلى دعم قوى خارجية. لذا ينبغي حذف “بند الخروج”، أو على الأقل ربطه بفترة طويلة —50 سنة مثلًا— قبل السماح بأيِّ انسحاب.
أرضٌ للجميع
أمّا المقترح الثالث —”أرضٌ للجميع”— فقد انطلق في العام 2012 وتقوده اليوم الناشطتان الإسرائيليتان ماي بُونداك ورُلى هَردَل. وهو يدفع فكرة الكونفيدرالية أبعد: يثبّت الحدود بين إسرائيل وفلسطين على “الخط الأخضر”من دون أي تعديل، ويستعيض عن تبادل الأراضي بمبدَإِ “الإقامة الدائمة” المفتوحة. ووفقًا للمبادرة لا توجد قيودٌ على أعداد الإسرائيليين أو الفلسطينيين الذين يمكنهم طلب صفة “مقيم دائم” في الدولة الأخرى، مع اعتماد نهجٍ مرحلي لتجنّب إغراق إسرائيل بأعدادٍ كبيرة من العائدين الفلسطينيين، أو إغراق الدولة الفلسطينية بأعدادٍ كبيرة من الإسرائيليين الراغبين في الانتقال خارج المستوطنات السابقة. حجر الزاوية هنا هو حرية الحركة لكلا الشعبين، وحقّهما في الاستقرار بأيٍّ من الدولتين باعتبارهم “مقيمين” يصوّتون في الانتخابات المحلية لا “مواطنين”. الفكرة بسيطة: لدى الإسرائيليين والفلسطينيين ارتباطٌ وجدانيٌ عميق بكل الأرض “من النهر إلى البحر”، ويجب ترسيخ هذا المبدَإِ في أيِّ سلامٍ عادل ودائم.
في القدس، تتقاطع “أرض للجميع” مع المبادرتين السابقتين: تكون عاصمةً مشتركة للدولتين، بحرية حركةٍ كاملة، وإدارةٍ مشتركة للبلدة القديمة، على الأرجح بمشاركة دولية. وبدل تقسيمها بجدرانٍ أو أسوار، تقترح أن تبقى القدس “موحّدة، مفتوحة، ومشتركة”، مع تفويض إدارة المدينة كلها لهيئةٍ خاصة — حكومةٍ محلية مشتركة أو بلديتين تحت مظلةٍ كونفيدرالية.
وفي الأمن، تُقِرّ بأن على كل دولة أن تُشرفَ على أمن إقليمها السيادي، وتدعو —خلافًا لغيرها— إلى نزع سلاحٍ جُزئي متبادل ومُتَّفَق عليه للدولتين، وترفض نشر قواتٍ أجنبية من طرفٍ واحد من دون موافقة الطرفين، وتؤيد قوةَ حدودٍ إسرائيلية-فلسطينية مشتركة.
أكبر التهديدات لهذه الخطة —كما في غيرها— قد يأتي من الداخل، من معارضي أي تسوية. ولمنع “المخرّبين الداخليين” من إجهاض حلّ الدولتين، ينبغي تضمين آلياتٍ متينة لحل النزاعات، واستراتيجية تنمية اقتصادية قوية تدعمها قوانين رصينة لدى الجانبين، وقراراتٌ معقولة بشأن التعليم واللغة وسائر الحقوق المدنية. أما “خط الدفاع الأخير” فيجب أن يكون ترتيبًا أمنيًا إقليميًا بضماناتٍ موثوقة للاستقرار الدائم — وهي ثغرةٌ لا توفِّر هذه المقترحات رؤيةً كافية لسدّها.
وبالمقارنة مع “كونفيدرالية الأرض المقدّسة”، تقدّم مبادرة “أرض للجميع” تفاصيل أقلّ حول المؤسّسات الكونفيدرالية، لكنها تضع خطةً مفصّلة لحقوق الإنسان، وتؤكد ضرورة التزام الطرفين بمبدَإِ حقوق الإنسان الكونية المشتركة. وبدل “لجنة حقوق إنسان” تقترح هيئةً استئنافية —”محكمة عليا لحقوق الإنسان”— تنظر في القضايا بعد صدور أحكام محاكم البلدين. وبوصفي مفوَّضًا أمميًا سابقًا لحقوق الإنسان، فإنني أؤيد هذا التوجّه بقوة.
في المحصّلة، تُعَدّ “أرضٌ للجميع” الأجرأ، لأنها تفكّ ارتباطها بالنماذج السائدة. وتكمن عمليتها في قدرتها على استيعاب مُعضِلة المستوطنات التي أعاقت كل محاولةٍ سابقة للسلام. غير أنَّ المبادرات الثلاث جميعًا تحمل قيمةً حقيقة: إذ تُقدّمُ حلولًا واقعية لإنهاء سنواتٍ من العنف الفادح والقهر.
العبور إلى الضفة الأخرى
لولا جهود هؤلاء “الحالمين العمليين” لتعذّر رسم مستقبلٍ للشرق الأوسط. فمع أنَّ نتنياهو قد رحّب بخطة ترامب وقَبِل الإشارة المحتملة إلى “دولةٍ فلسطينية”، لا يزال غير واضحٍ حقًا ما الذي يريده لبلده والمنطقة. فإلى جانب إدارة وضعٍ غير قابلٍ للاستمرار، لا يبدو أن لديه خطةً سوى ما يطرحه ائتلافه اليميني المتطرّف من “إسرائيل الكبرى” — وهو تصوّرٌ يستتبع محو الفلسطينيين في غزّة والضفة الغربية. وهذا المسار مقزِّز وغير قابلٍ للحياة، وهو مرفوضٌ من غالبية الإسرائيليين. وللوصول إلى سلامٍ يتجاوز هدَن غزّة القصيرة، لا بدّ من وجهةٍ نهائية تضع حدًا دائمًا للصراع.
إن صراعًا متجذرًا وعنيفًا كصراع الشرق الأوسط يُثير بطبيعة الحال الشكوك والتشاؤم. ومع ذلك، ثمة أسباب حقيقية للتفاؤل الحذر. فالجهات الفاعلة الإقليمية والدولية تسعى جاهدةً إلى إيجاد سبل للحد من العنف وتمهيد الطريق لسلام دائم: فقد ساعدت قطر، بالتنسيق مع مصر والولايات المتحدة، في دفع الأطراف نحو وقف إطلاق النار في غزة؛ وتواصل مصر قيادة الجهود العربية بالتعاون مع الدول المجاورة، وخصوصًا الأردن؛ وحشدت المملكة العربية السعودية، إلى جانب فرنسا والنروج، الدعم الديبلوماسي والمالي العالمي لحل الدولتين القابل للتطبيق. ويتزايد اعتراف دول العالم بالدولة الفلسطينية، مما يُشير إلى تنامي الاهتمام والإنخراط الدولي.
وهنا تغدو المقترحات الخلّاقة والبراغماتية التي طوّرها الإسرائيليون والفلسطينيون —خطة أولمرت–القدوة، و”كونفيدرالية الأرض المقدسة”، و”أرضٌ للجميع”— لا غنى عنها. فهي تطرح مساراتٍ واقعية نحو حلٍّ دائمٍ على أساس الدولتين، وتعالج حزمةً من القضايا المعقّدة. وليست هذه الرؤى تمريناتٍ نظرية؛ بل تمثّل الطريق العملي الوحيد للمضي قدمًا لإنهاء الصراع وضمان استقرارٍ إقليمي. صحيحٌ أن الحفاظ على الزخم في التدابير القصيرة الأمد —تقليص الأعمال العدائية، وتسهيل الدعم الإنساني، وتنسيق الضغط الديبلوماسي الإقليمي— أمرٌ أساسي. لكن هذه الإجراءات لن تنجح إلّا إذا ارتبطت صراحةً بتشييد الضفة الأخرى من الجسر: حلٌّ طويل الأمد لسلامٍ عادلٍ ودائم بين الفلسطينيين والإسرائيليين. لا طريق غير ذلك.
- الأمير زيد رعد الحسين هو رئيس “المعهد الدولي للسلام” وعضو مجموعة “الحكماء”. شغل منصب مفوّض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان بين 2014 و2018، وقبل ذلك كان سفير الأردن لدى الولايات المتحدة والأمم المتحدة.