لكي يتجنَّبَ لبنان الأسوَأ

تُواجه حكومة نواف سلام لحظة حاسمة في واحدة من أكثر المراحل دقة في تاريخ لبنان الحديث. فالتردُّد في اتخاذِ موقفٍ واضح قد يُحوّلُ الحياد إلى عبء، ويفتح الباب أمام سيناريوهات خطيرة تقودها القوى الأكثر تشدُّدًا في الميدان.

حركة “أمل” بقيادة نبيه بري: هل تستطيع إعادة الطائفة الشيعية و”حزب الله” إلى حضن الدولة اللبنانية؟

مهنَّد الحاج علي*

شهدنا خلال الأيام الأخيرة تحرُّكًا لافتًا باتجاه وقفٍ محتملٍ لإطلاق النار في غزة، بفضلِ الجهود المُكثَّفة التي تبذلها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب. فقد مارست واشنطن ضغوطًا متزايدة على كلٍّ من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وحركة “حماس” للتوصُّل إلى اتفاقٍ يضمنُ إطلاقَ سراح الرهائن، وإنهاء الحرب الدائرة، وتهيئة الأرضية لانتقالٍ ديموقراطي في الحكم يُقصي “حماس” عن المشهد السياسي.

وبغضِّ النظر عمّا إذا كانت هذه المبادرة ستُتوَّجُ بالنجاح في نهاية المطاف أم لا، فإنَّ الزُخمَ المُتجدِّد الذي أفرزته يمنحُ حكومة رئيس الوزراء نواف سلام في لبنان فُرصةً ثمينة للاستفادة من الدعم العربي والغربي الذي تحظى به، لإعادةِ التفاوُض حول شروط وقف إطلاق النار الذي تمَّ التوصُّلُ إليه في 27 تشرين الثاني (نوفمبر) من العام الماضي. وتُتيحُ هذه الفرصة العملَ على إنهاءِ الاعتداءات الإسرائيلية، وإعادة مسار نزع سلاح “حزب الله” إلى طريقه الصحيح ضمن جدولٍ زمنيٍّ واضح ومُحدَّدِ المعالم.

ورُغمَ أنَّ وقفَ إطلاق النار صمدَ لما يُقارب عامًا كاملًا، إلّا أنه لا يزال بعيدًا من تحقيق الاستدامة المنشودة. فهذا الترتيبُ الأحادي الجانب، الذي أبقى لإسرائيل حرّية تنفيذ ضرباتٍ يومية داخل الأراضي اللبنانية متى شاءت، شكّل عبئًا ثقيلًا على “حزب الله”. ومع ذلك، فإنَّ الأمن المؤقت الذي وفّرته الاتفاقية لإسرائيل يبقى هشًّا بالقدر نفسه، ما دامَ يفتقرُ إلى اتفاقٍ طويل الأمد مع بيروت يُرسّخ الاستقرار على نحوٍ دائم.

بالنسبة إلى “حزب الله”، اقترنَ ما يُسمى بوقف إطلاق النار بارتفاعٍ كبير في عددِ الضحايا، إذ قُتِلَ أكثر من 200 من أعضاء الحزب وحلفائه و105 من المدنيين منذ دخوله حيّز التنفيذ. وقد جعل الحزب، من حيث لا يدري، شبكةَ أعضائه وأنصاره عُرضةً للاستهداف المباشر، فتحوّلوا إلى أهدافٍ سهلة في ساحةٍ مفتوحة. في الوقت ذاته، تُواصِلُ إسرائيل منعَ أيِّ محاولةٍ لإعادة الإعمار في جنوب لبنان، من خلال استهدافها المنتظم لآليات البناء والمشاريع المدنية. إنَّ غيابَ الأمن وتوقُّف جهود إعادة بناء المدن والقرى يُنذران بتآكل شعبية “حزب الله” في المدى الطويل، وهو أمرٌ يُدركه الحزب جيدًا، لذلك يعلمُ أنَّ الصمت ليس خيارًا استراتيجيًا ناجعًا وحكيمًا. لكن يبقى السؤال الجوهري: ما الذي ينتظره “حزب الله” تحديدًا؟

يسعى الحزب اليوم إلى اقتناصِ فُرصةٍ مناسبة لإعادة التفاوُض على شروط وقف إطلاق النار مع إسرائيل، وتحويل تلك المفاوضات إلى بوّابةٍ لترتيباتٍ داخلية جديدة داخل لبنان. غير أنَّ تحقيقَ هذين الهدفَين يبدو بالغ الصعوبة، إن لم يكن شبه مستحيل، في ظلِّ الظروف الراهنة.

فعلى صعيد الهدف الأول، تتطلّب إعادة التفاوض على وقف إطلاق النار استعادةَ قدرٍ من الردع العسكري والسياسي، وهو أمرٌ لا يمكن تحقيقه طالما أبقت إسرائيل على إطارٍ زمني مفتوح لأي تصعيدٍ محتمل، تردّ فيه على عمليات “حزب الله” متى شاءت. ومن دون تغييرٍ في الموقف الأميركي، سيبقى ميزان القوة مُختلًا بشكلٍ واضح، إذ لا تزال إسرائيل قادرة على تدمير أحياءٍ سكنيةٍ بأكملها، وتهجير سكان المدن والبلدات، بل وحتى التلويح ببناء مستوطناتٍ على أنقاضها، من دون أن تُواجِهَ تبعاتٍ جدّية. والأسوأ من ذلك أن تدفّقَ الدعم العسكري إليها لا يزالُ مستمرًا، حتى من دولٍ تُظهِرُ معارضتها العلنية لحملتها.

داخل لبنان، لا يزال التوصّل إلى اتفاقٍ داخلي مع “حزب الله” مهمةً شديدة التعقيد، إذ يواصل الحزب رفضه القاطع لفكرة نزع سلاحه، متمسِّكًا في المقابل بالدعوة إلى حوارٍ وطني حول ما يُسميه “الاستراتيجية الدفاعية الوطنية”. غير أنَّ هذا النهجَ يطرحُ إشكاليات عميقة لسببين أساسيين. أوّلًا، من المرجّح أن يستمرَّ هذا الحوار إلى أجلٍ غير مُحدَّد، ما يتيح للزمن أن يُضعِفَ تدريجًا ما تبقّى للحكومة اللبنانية من نفوذٍ محدود في ظلِّ التحوّلات الجيوسياسية المتسارعة. ثانيًا، من غير المتوقع أن توافق الولايات المتحدة أو إسرائيل، أو حتى أبرز القوى السياسية اللبنانية، على أيِّ صيغةٍ تُبقي على البنية العسكرية لـ”حزب الله” أو ترسانته من الصواريخ والطائرات المُسَيَّرة، حتى وإن وُضِعَت هذه القدرات تحت الإشراف الإسمي للجيش اللبناني.

تُضافُ إلى هذه التحديات عقبةٌ أخرى تتمثّلُ في التحوّل المتزايد داخل قيادة “حزب الله” نفسها، والدور الإيراني المُتعاظم في رسم توجهاتها، خصوصًا بعد فقدان الحزب جُزءًا كبيرًا من قياداته العليا خلال المواجهة الأخيرة مع إسرائيل. فقد كشفت الضربات الإسرائيلية خلال العام الماضي عن مستوى غير مسبوق من التدخُّل الإيراني المباشر في صنع القرار داخل الحزب، بما يفوق ما كان يُعتَقَدُ سابقًا. وقد برز ذلك بوضوح في سلسلة الأحداث التي شهدها العام 2024، بدءًا بمقتل الجنرال محمد زاهدي —الذي قيل إنه كان عضوًا في مجلس شورى “حزب الله”— في الهجوم على السفارة الإيرانية في دمشق في نيسان (أبريل)، مرورًا بإصابة السفير الإيراني في بيروت مجتبى أماني في ما عُرف بـ”هجمات أجهزة النداء” (البيجر) في أيلول (سبتمبر)، وصولًا إلى اغتيال نائب قائد “فيلق القدس” عباس نيلفوروشان في العملية نفسها التي قُتل فيها الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله. ويقول بعض التقارير أيضًا إنَّ الجنرال الإيراني محمد رضا فلاح زاده، وهو أحد كبار قادة الحرس الثوري، تولّى الإشراف على “حزب الله” بعد مقتل نصر الله، وأنه نجا لاحقًا من ضربةٍ إسرائيلية أودت بحياة أحد كبار القادة العسكريين في الحزب.

وإذا كان النفوذ الإيراني داخل “حزب الله” بهذا العمق في عهد نصر الله، فمن الصعب التخيّل بأن الأمين العام الحالي، الشيخ نعيم قاسم، يتمتّع بهامشٍ أوسع من الاستقلالية. في هذا السياق، تبرز الأهمية المحتملة لحركة “أمل”، بقيادة رئيس مجلس النواب نبيه بري، التي قد تلعب دورًا محوريًا في إعادة توجيه التحالف الشيعي نحو مقاربةٍ سياسيةٍ أكثر تجذّرًا في المصالح اللبنانية الطائفية، وأقل ارتهانًا للحسابات الإقليمية التي ترسمها طهران.

لقد ألغى التفوُّقُ الإسرائيلي الساحق في القوة النارية منطقَ الاستنزاف التقليدي الذي اعتمدَ عليه “حزب الله” في حروبه السابقة. فمع اختلال ميزان القوى بشكلٍ كبير، سواء على صعيد القدرات العسكرية أو التكنولوجيا المتطوّرة، لم يَعُد بمقدور الحزب أن يفرضَ على إسرائيل مُعادلة المواجهة التدريجية التي لطالما راهن عليها. إنَّ فرضَ أي شكلٍ من أشكال الردع على الإسرائيليين بات يتطلّبُ تدخُّلًا أميركيًا مباشرًا للحدِّ من ردود الفعل العسكرية الإسرائيلية المفرطة، إلى جانب مواجهة حكومة نتنياهو لضغوطٍ داخلية متزايدة وحالةٍ من عدم الاستقرار السياسي. غير أنّ تحقّقَ هذه العوامل يبدو أمرًا بعيد المنال في أحسن الأحوال، ما يجعل لبنان عُرضةً لدفع ثمنٍ باهظٍ لأي خطَإٍ في الحسابات أو التقديرات الاستراتيجية.

من هذا المنطلق، يتعيّنُ على الحكومة اللبنانية أن تغتنمَ الفرصة المتاحة للتحرّك على جبهتين أساسيتين. أوّلًا، يجب أن تعملَ بجدٍّ على كسب ثقة ودعم الفئات الأكثر تضرُّرًا من الضربات الإسرائيلية المستمرّة، وخصوصًا داخل المجتمع الشيعي في الجنوب. ويمكن أن تبدأ هذه الجهود بإطلاق استراتيجية وطنية شاملة تُسهّل عودة النازحين إلى مناطقهم الحدودية. وحتى في ظلِّ محدودية الإمكانات، تستطيع الحكومة تحسين مستوى الخدمات الأساسية في الجنوب — من خلال إنشاء مدارس مؤقتة، وعيادات طبية متنقلة، وشبكات دعم اجتماعي فعّالة. إنَّ تجاهُلَ هذه المهام الحيوية، والانشغال بدلًا من ذلك بخلافاتٍ سياسية ضيِّقة مع “حزب الله”، لن يؤدّي إلّا إلى تعزيز خطاب الحزب وتثبيت حضوره في البيئة الشعبية التي تشكّل قاعدة نفوذه.

أما الجبهة الثانية، فتتمثّل في وضع إطارٍ وطني شامل لعملية نزع السلاح، بالتنسيق مع حركة “أمل” —الحليف السياسي الأبرز لـ”حزب الله”— وبالتشاور مع طهران. إذ تملك حركة “أمل” المصلحة والقدرة معًا على الدفع نحو تسويةٍ سياسية متوازنة، وهو ما برز جليًا في وقتٍ سابقٍ من هذا العام عندما أبدت دعمها لتأييد لبنان للخطة التي قدّمها المبعوث الأميركي توم برّاك. فقد رسمت تلك الخطة خارطة طريق تدريجية نحو نزع سلاح “حزب الله”، ووقف الأعمال العدائية، وانسحاب القوات الإسرائيلية، تمهيدًا لمرحلة إعادة الإعمار. كما إنَّ تنفيذَ مثل هذه الصفقة قد يُمهّدُ الطريق نحو ترسيمٍ نهائي للحدود البرية بين لبنان وإسرائيل، استكمالًا للاتفاق البحري الذي أُبرِمَ خلال إدارة الرئيس جو بايدن، بما يعزز فرص الاستقرار الإقليمي ويُعيدُ إلى لبنان شيئًا من سيادته المفقودة.

إنَّ استمرارَ الحكومة اللبنانية في موقفها السلبي الراهن ينطوي على مجازفةٍ كبرى، إذ يهدّد بترك زمام المبادرة بيد الطرفين الوحيدين القادرين حاليًا على فرض وقائع جديدة على الأرض. فمن جهة، قد يُقدِمُ “حزب الله” على تصعيدٍ عسكريٍّ جديد في محاولةٍ لاستعادة توازن الردع المفقود، ومن جهةٍ أخرى قد تستغلُّ إسرائيل هذا الجمود لتوسيع نطاق منطقتها العازلة وتعميق وجودها العسكري في الجنوب، مما يعني إطالة أمد احتلالٍ فعلي يُقوّضُ فرص التعافي السياسي والاقتصادي الهشّ الذي يحاول لبنان التمسُّك به. وفي ظل هذا المشهد المأزوم، يصبح التحرك الحكومي السريع والمسؤول ليس خيارًا سياسيًا فحسب، بل ضرورةً وجودية لتجنّب انزلاق البلاد نحو مرحلةٍ جديدة من عدم الاستقرار.

Exit mobile version