يعيشُ الشرق الأوسط لحظةً مَفصليّة تتقاطعُ فيها مشاريع القوة والدين والسياسة، فيما تُعيدُ خطّة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لإنهاء الحرب في غزة طرحَ الأسئلة حول مصير حركة “حماس” ومستقبل الإسلام السياسي بأطيافه المختلفة. فبين تراجُع التيار الإخواني وانكفاء السلفية الجهادية وتقلُّص نفوذ “محور المقاومة” الإيراني، يبدو أنَّ فكرة “الإسلام السياسي” تُواجِهُ اختبار البقاء الأصعب في تاريخها الحديث.
ملاك جعفر عبّاس*
طَرَحَت خطّةُ الرئيس الأميركي دونالد ترامب لإنهاء الحرب في غزة، التي تنصُّ على نزعِ سلاح “حركة المقاومة الإسلامية” (حماس) وخروجها من القطاع، والمُترافقة مع موجةِ الاعترافات الدولية المُتتالية بالدولة الفلسطينية المشروطة بخروجِ الحركة ليس عسكريًا فحسب بل سياسيًا أيضًا من المشهد الفلسطيني، جُملةً من التساؤلات العميقة حول مدى استعداد “حماس” للتوقيع على وثيقة وفاتها، وحول ما إذا كانت، إن فعلت، ستنتهي فعلًا. فـ”حماس” ليست مجرّدَ تنظيمٍ مسلّح أو كيانٍ سياسي، بل هي فكرة، والأفكارُ بطبيعتها لا تموت. غير أنَّ “حماس” في واقع الأمر ليست فكرةً مجرّدة تمامًا، بل تُمثّلُ إحدى نقاط التقاطُع الجوهرية بين مشروعَي الإسلام السياسي: السُنّي الذي يقوده تنظيم “الإخوان المسلمين” العالمي، والشيعي الذي تتزعمه إيران تحت راية ما يُعرف بـ”محور المقاومة والممانعة”. من هنا، يبرزُ السؤالُ الأجدر بالبحث: هل لا تزال “الفكرة” التي تُمثّلها “حماس” تمتلكُ مقوّمات الحياة في ظلِّ التحوّلات الجذرية التي عصفت بالإقليم خلال العقد الأخير عمومًا، وخلال العامين الماضيين على وجه الخصوص؟ وما الذي تَبَقّى من الإسلام السياسي، بفرعَيه السُنّي والشيعي، ليُتيحَ لـ”حماس” وللقوى المتحالفة معها إمكانية النهوض مجددًا بعد تلك المقتلة التي ألمّت بها؟
من “الربيع العربي” إلى “طوفان الأقصى”
لا بُدَّ من الإضاءة بدايةً على شكلِ المشهد عند لحظة السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023. فبعدَ نحو مئة عام من العمل السياسي كان حضور “الإخوان المسلمين” انتهى منذ ما يقرب من عشرة أعوام في مصر مع وصول الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى سدة الحكم. وتراجعَ حضورهم بشكلٍ دراماتيكي في تونس حيث خرجوا من المشهد السياسي إلى حدٍّ كبير بعد اعتقال زعيم حركة “النهضة” راشد الغنوشي. وفي المغرب مُني حزب العدالة والتنمية بخسارةٍ انتخابية قلّصت حضوره بشكلٍ كبير في برلمان 2021. أمّا في السودان فقد خرج التيار الإسلامي من السلطة مع الإطاحة بحكم عمر البشير في 2019. وتقلّص نفوذهم في ليبيا مع تشتّت المشهد السياسي. وكان الأردن البلدَ الوحيد الذي ما زالت فيه أفكار التنظيم، الذي حُلّ رسميًا في العام 2020، تحظى بقدرٍ من القبول، طالما التزمت بالعمل في إطار الدستور وتحت راية حزب “جبهة العمل الإسلامي”، الذراع السياسية ل”الإخوان المسلمين” هناك. أمّا غزة، فكانت فعليًا المعقل الأخير لتيار الإسلام السياسي السُنّي في المنطقة، إذ احتفظت حركة “حماس” بزمام الحكم فيها منذ انقلابها على السلطة الوطنية الفلسطينية في العام 2007، لتغدو آخر مساحة يتنفس فيها هذا التيار بعد انحساره في معظم العواصم العربية.
وقد شهدت تلك التيارات والأحزاب ما يمكن وصفه بـعصرها الذهبي عقب اندلاع انتفاضات ما عُرف بـ”الربيع العربي”، إذ دفعتها موجة التغيير الشعبي إلى واجهة المشهد السياسي في أكثر من بلد. غير أنَّ هذا الصعود لم يلبث أن تهاوى سريعًا تحت وطأة صراع المحاور الإقليمي من جهة، وسوء الإدارة السياسية والتنظيمية من جهة أخرى، إلى جانب استعداء هذه التيارات لشرائح اجتماعية واسعة كانت أيّدت الثورات في بداياتها أملًا في تحقيق الحرية والعدالة الاجتماعية ومكافحة الفساد. وقد استبشرت تلك الشرائح خيرًا بصعود الإسلاميين إلى الحكم، باعتبارهم دُعاة للعدالة والديموقراطية وحقوق الإنسان، لكنها سرعان ما وجدت نفسها تحت سلطة أقلية مُتشدّدة دينيًا، انشغلت بقضايا مثل تعدُّد الزوجات وفَرضِ الحجاب أكثر بكثير مما انشغلت بالشؤون الاقتصادية والتنموية التي تمسّ حياة الناس مباشرة.
لم تستطع تلك الأنظمة الإسلامية الناشئة أن تنتظم ضمن إطار القانون الوضعي أو أن تُقدِّمَ نموذجًا ناجحًا للحكم، فلجأت إلى عسكرة المجتمع أو أسلمته قسرًا في محاولةٍ لفرض رؤيتها الدينية على الواقع.
أما تيار السلفية الجهادية، الأكثر تشدُّدًا، فقد تلقّى ضربةً قاصمة أنهت وجوده الفعلي في العراق مع سقوط “الدولة الإسلامية” (داعش) تحت ضربات التحالف الدولي و”الحشد الشعبي” العراقي، ليتناثر مقاتلوه في البادية السورية ضمن جيوبٍ معزولة ومتباعدة. كما تقلّصَ نفوذ “هيئة تحرير الشام”، المعروفة سابقًا بـ”جبهة النصرة”، إلى محافظة إدلب، حيث تمكّن أبو محمد الجولاني من ترسيخ حكمه الإسلامي هناك، محاولًا الحفاظ على ما تبقّى من مشروعه بعد انحسار المدّ الجهادي في الإقليم.
في المقابل، كان “محور المقاومة والممانعة” يعيش ذروةَ صعوده، إذ تمكّنت إيران من بسط نفوذها السياسي والعسكري على القرار في لبنان وسوريا والعراق واليمن عبر الجماعات الموالية لها، ما جعلها اللاعب الأكثر تأثيرًا في تلك الساحات. وسعت طهران في الوقت نفسه إلى فتح قنواتِ تواصُل مع المملكة العربية السعودية عقب اتفاق بكين، في محاولةٍ لتهدئة التوترات في الملف الشيعي–السُنّي من جهة، والتخفيف من وطأة أزماتها الاقتصادية المتفاقمة من جهة أخرى، وهي أزماتٌ فاقمها مزيجٌ من العقوبات الدولية والفساد البنيوي والترهُّل الإداري الذي حلّ محلّ الحوكمة الرشيدة في طهران والعواصم الأربع التابعة لنفوذها.
غير أنَّ هذا الصعود اصطدمَ بموجةِ احتجاجاتٍ غير مسبوقة هزّت ركائز المحور في أكثر من بلد. فقد اندلعت الانتفاضة العراقية في مطلع تشرين الأول (أكتوبر) 2019، تزامُنًا مع ثورة 17 تشرين الأول (أكتوبر) في لبنان، ومع احتجاجات أزمة الوقود في إيران في الشهر نفسه، لتصل جميعها إلى مستوى غير مسبوق من التحدّي لسطوة المحور على العواصم الثلاث. وقد اتّضحَ حَجمُ القلق الإيراني من خلال شدّة القمع الذي واجهت به السلطات تلك الانتفاضات، وما تلاها من إرهاصاتٍ استمرّت حتى عشية عملية “طوفان الأقصى”، حين اندلعت مُجدَّدًا تظاهرات الحجاب في إيران في أيلول (سبتمبر) 2023، إلى جانب الاحتجاجات المعيشية المتواصلة في لبنان والعراق حتى منتصف العام نفسه.
أفضت تلك الاحتجاجات إلى تقلُّصِ الحاضنة الشعبية لنظام الملالي وأذرعه الإقليمية، بحيث انكمشَ التأييد إلى دائرةٍ ضيِّقة من العقائديين والمُستفيدين ماديًا من منظومة النفوذ الممتدة من طهران إلى بيروت. ومع ذلك، استطاعَ النظام الإيراني أن يفرضَ استمراريته من خلال القبضة الأمنية الصارمة، بعد أن كانت ملايين الجماهير قد هتفت يومًا باسم الخميني مبشّرةً بعصر الثورة الإسلامية، قبل أن ينقلبَ الحلم تدريجًا إلى واقعٍ من القمع والاحتقان الشعبي.
وضمنَ ديناميات هذَين المحورين كانت حركة “حماس” قد أعادت وَصلَ ما انقطع خلال سنوات الحرب السورية مع “محور المقاومة”، وأقصت قيادتها الإخوانية المتمثّلة بخالد مشعل ومَن معه لصالح قيادة عسكرية في غزة بقيادة يحيى السنوار تُدينُ بالولاء لإيران وقيادة سياسية في الخارج متمثّلةً باسماعيل هنية تلعب على التقاطعات الإيرانية مع قطر وتركيا.
إنهيار السردية وبحث الإسلام السياسي عن صيغة بقاء
عند لحظة “طوفان الأقصى”، كانت سردية الإسلام السياسي القائمة على فكرة أنَّ الإسلامَ دِينٌ ودولة قد تآكلت داخليًا بفعلِ فشلِ الأداء السياسي، البعيد من الدين، في تحقيقِ أيٍّ من آمال الشعوب المقهورة والمُفلِسة والغارقة في أزماتها في دولةٍ تحميهم وتؤمّنُ مستقبلَ أبنائهم بالعيش الكريم. كانت المراهنة على عملية السابع من تشرين الأول (أكتوبر) لاستعادةِ الزخمِ أمامَ الحاضنة المُتآكلة من جهة، ولتخريب مسار التطبيع السعودي-الإسرائيلي طمعًا في خلقِ توازُناتٍ تُحافظُ على مناطق النفوذ في الإقليم والسيطرة على ال”فيتو” الفلسطيني من جهة أخرى.
فشلَ الرهانُ أمامَ آلة البطش الإسرائيلية. فالحكومة اليمينية المتطرّفة في تل أبيب أطلقت العنانَ لآلةِ قتلٍ بلا مكابح قصمت ظهر المحور في لبنان باغتيال الأمين العام ل”حزب الله”، السيد حسن نصر الله، وقضت على معظم مقدراته، وأبادت غزة عن بكرة أبيها مع معظم قيادات “حماس”، ونجحت في لجم اندفاعة “الحشد الشعبي” في العراق للدخول في المعركة، وأرجعت البرنامج النووي والصاروخي الإيراني سنوات إلى الوراء. أمّا في الأردن، فقد دفعت المغامرات الأمنية غير المحسوبة إلى حظر حزب “جبهة العمل الإسلامي” وقضت على آمال “الإخوان المسلمين” بلعب دورٍ في الحياة السياسية.
أسقطت مغامرة “طوفان الأقصى” الشرعية القتالية للمحور، وأظهرت عدم جدوى عسكرة المجتمع، إلّا أنَّه تمَّ توظيفها في تحقيق الغلبة الداخلية. فبعد أكثر من عام على اتفاق وقف الأعمال العدائية بين إسرائيل و”حزب الله”، لم يتمكّن الأخير من الردِّ ولو برصاصة واحدة على ألاف الاعتداءات الإسرائيلية على بُنيته وقادته وبيئته وعدد كبير من المدنيين منهم أطفال. وها هي “حماس” تُواجهُ مصيرًا أكثر قتامةً إن وَقَّعت أو لم تُوقِّع على خطة ترامب لوقف الحرب، فيما إيران تتهيأ لدخول العقوبات الأممية حيّز التنفيذ وتحبس الأنفاس تحضيرًا لجولةٍ أخرى من الحرب تشتدُّ نذرها كلما اقترب نتنياهو من خسارة ائتلافه الحكومي.
وحده أحمد الشرع يبدو باقيًا ويتمدّد… حتى الآن، ليس لأنَّ نسخته من الإسلام السياسي هي الأنجح، بل لأنه نحّى جانبًا “أبا محمد الجولاني” واختار طوعًا خلع الجلباب وارتداء ربطة العنق، فاتحًا باب التواصل مع الولايات المتحدة وإسرائيل وروسيا وإيران، بدعمٍ سعودي-تركي واضح، طمعًا في فكِّ عزلة بلاده السياسية والاقتصادية. يتعامل الرجل بكثير من البراغماتية بالنسبة إلى نِشأته السياسية، يُدركُ أن مُعضِلته الأساسية هي في حاضنته السلفية الجهادية التي تتشكل منها حكومة الظل الاسلامية والذراع الأمنية الفعلية على الأرض، وفي الوقت عينه ربما يُدركُ أنَّ تلك الأدوات ستكونُ العامل الرئيس في تقويض حكمه وتقسيم بلاده إن لم يُحسِن ضبطها. لكنَّ المدرسة التركية في الأحزاب الإسلامية علّمته التكيُّف مع مُتطلّبات الحكم ومؤسّسات الدولة كما تكيفت هي بفعل سنوات قاومت فيها قمع العلمانيين إلى ان وصلت إلى الحكم وتآلفت معه، فتحوّل حزب العدالة والتنمية إلى نسخةٍ أقرب الى الإسلام المحافظ من الإسلام الراديكالي ضمن له استمرارية الحاضنة الشعبية متعددة الاطياف.
فيما خلا منصب المرشد العام للثورة الإسلامية في إيران ببُعدَيه الديني والسلطوي لم تُنتِج تجارب الإسلام السياسي مؤسّسات بديلة للدولة الوطنية، ولا هي أفرزت مُجتمعًا أكثر عدالةً او حَوكمة رشيدة أو تديُّنًا، ولم يكن أداؤها أفضلَ حالًا في مواجهة إسرائيل من أداء الأنظمة “المتخاذلة” و”العميلة” التي تعاديها. فلم تتمكّن لا من انهاء إسرائيل ولا من استعادة أرض فلسطين، إلّا أنها لا شك رفعت كلفة الدم والتدمير ووسّعت الهوّة المجتمعية إلى حدٍّ باتَ شبحُ التقسيم يُهدّدُ كل دولة من الدول التي دخلتها هذه الإيديولوجيا. ومن المؤكّد أنه لا يُمكنُ إطلاق احكام نهائية على أفول مشروع فكري يمتدُّ على مساحة العالم العربي والإسلامي، إلّا أنَّ شروطَ بقائه في عصر الذكاء الاصطناعي واتساع الهوّة الفكرية بين “جيل z” وجيل لم يقرأ إلّا سيد قطب وابن تيمية والخميني لم تعد متوافرة، وسيكون لزامًا عليه أن يجري الكثير من المراجعات ويتكيّف مع كثيرٍ من المتغيّرات قد تفقده جوهره وتحوّله في أحسن الأحوال إلى نسخ محلّية من حزب العدالة والتنمية التركي.
- ملاك جعفر عباس هي كاتبة سياسية وإعلامية لبنانية حاورت شخصيات عربية وعالمية عدة خلال عملها في شبكة “بي بي سي نيوز عربي”. وقد تخصصت في دراسة مكافحة الإرهاب والجماعات المسلحة في جامعة كينغز كولدج لندن. يمكن التواصل معها عبر منصة “ “Linkedin على: linkedin.com/in/malakjaafar