البروفِسور بيار الخوري*
القصف الإسرائيلي لقطر شَكّلَ محطّةً فارقة في الوعي الأمني والسياسي لدول الخليج. لسنوات، اعتمدت إحدى المقاربات الخليجية على فكرةِ أنّ الانفتاحَ الجُزئي على إسرائيل في مجالات الاقتصاد والتكنولوجيا (من خلال دولة الإمارات ومملكة البحرين) يُمكنُ أن يُوفّرَ مظلّةَ استقرار ويُخفّفَ التهديدات. غير أنّ الضربة التي وقعت في قلب قطر أثبتت أنَّ إسرائيل لا ترى في المنطقة شريكًا مُحتملًا بل ساحة عمليات عسكرية مفتوحة تستخدمها لفرض معادلاتها. هذه الصدمة فجّرت موجةَ إدانةٍ رسمية وشعبية، ووضعت مشاريعَ التوسُّع الإسرائيلي في صدارة القلق الخليجي من جديد.
في ظلِّ هذا المناخ، ظهرَ تحوّلٌ ملحوظٌ في خطاب إيران و”حزب الله” تجاه المملكة العربية السعودية. رئيس مجلس الأمن القومي الايراني علي لاريجاني، وبعد لقائه ولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان، تحدّثَ عن أنَّ “الرؤية باتت أوضح” لدى السعوديين، مؤكِّدًا أنَّ الرياض تُدركُ أكثر من أيِّ وقتٍ مضى طبيعة الخطر الإسرائيلي. أما الشيخ نعيم قاسم، الأمين العام ل”حزب الله”، فوَجَّهَ دعوةً صريحة إلى فتح صفحة جديدة مع الرياض بعد أحداث الدوحة. هذه المواقف عكست انتقالًا من خطابِ الاتِّهامِ والتصعيدِ إلى خطابٍ يسعى إلى إيجادِ أرضيةٍ مُشتركة عنوانها مواجهة إسرائيل.
تزامَنَ هذا التحوُّل مع حملة سعوديةـفرنسية للاعتراف بدولة فلسطين، وهي خطوةٌ استراتيجية تهدفُ إلى إعادة تثبيت موقع الرياض كقوة عربية-اسلامية ودولية مؤثّرة في تسوية قضية فلسطين. بالنسبة إلى إيران، ورُغمَ رفضها المبدئي لحلِّ الدولتين وتمسُّكها بخطاب “فلسطين من البحر إلى النهر”، فإنها لا تستطيعُ تجاهل أنَّ هذه المبادرة تضغطُ على إسرائيل وتزيدُ عُزلتها الديبلوماسية. هنا يبرز تقاطعٌ عملي: السعودية تتحرّكُ عبر القنوات الدولية، بينما المحور يواجه إسرائيل بخطابٍ أكثر تشدُّدًا، لكنَّ الطرفَين يتقاطعان بطريقتين مختلفتين في إضعاف الموقف الإسرائيلي.
وعلى المستوى الأعمق، يتّضحُ أنَّ الطرفَين يشتركان في هاجس تفادي حرب واسعة. إيران، التي أنهكتها سنواتٌ من الاستنزاف في سوريا والعراق واليمن ولبنان واخيرًا في طهران والمدن الايرانية نفسها، لا تريدُ فتحَ جبهةٍ شاملة مع إسرائيل قد تستنزفها اقتصاديًا وعسكريًا. وفي المقابل، ترى السعودية ودول الخليج أنَّ أيَّ مُواجهةٍ كبرى ستُعرّضُ استقرارَ المنطقة ومشاريعها التنموية الحيوية للخطر، فضلًا عن تهديد شرايين الطاقة العالمية. هذا الهاجس المزدوج جعلَ الحاجة إلى لغةٍ أكثر هدوءًا أمرًا واقعيًا، وفتح نافذةً للتقاطُع بين الرياض وطهران في ظرفٍ دقيق.
هكذا تتبلورُ لوحةٌ جديدة: قصفُ قطر كشفَ حدودَ الرهان على إسرائيل كشريك سلام، الحملة السعوديةـالفرنسية عزّزت الضغطَ الدولي على تل أبيب، والمخاوف المشتركة من الحرب الواسعة فرضت تقاربًا في اللغة بين “محور الممانعة” والسعودية. النتيجةُ أنَّ الخطابَ الحالي لطهران وحلفائها لم يَعُد “يطبّع” او “يُصَهيِن” الرياض كما في الماضي، بل يُعيدُ تعريفها في صورة قوة إقليمية تشارك الآخرين القلق من إسرائيل وتتحرّك، بطريقتها، للحدِّ من توسُّعها. هذه أكثر من مجرد تبدّلات شكلية في الكلمات، بل تعبيرٌ عن براغماتية تتأسّس على مصلحةٍ مشتركة أوسع: تثبيت الاستقرار الإقليمي في لحظةٍ يتجاوز فيها جنون التطرّف الإسرائيلي حدود العقل.
- البروفِسور بيار الخوري هو أكاديمي لبناني وكاتب في الإقتصاد السياسي. وهو عميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا. يُمكن التواصل معه على بريده الإلكتروني: info@pierrekhoury.com