روسيا أسقطت الأسد

محمّد قوّاص*

قبلَ أيامٍ من رحلته إلى نيويورك خطيبًا على منبر الأمم المتحدة، كشف الرئيس السوري أحمد الشرع للسوريين أوّلًا (من خلال “الإخبارية” السورية) وللرأي العام الدولي ثانيًا، أنَّ روسيا كانت شريكة مع “هيئة تحرير الشام” في مسارٍ قادَ إلى سقوط نظام بشّار في سوريا. لم يصدف الكشف على هامش الكلام، بل كان عملًا مقصودًا يُرادُ به بعثَ رسائل جديدة بشأن السياسات التي تعتمدها دمشق، والتي سنكتشف يومًا بعدَ آخر أنها مُتأسّسة على وقائع ما زال كثيرها مجهولًا.

نفهمُ الآن لماذا اعتبر الشرع، منذ الأيام الأولى للتحوّل السوري، أنه لا يريد خروجًا لا يليق بعلاقة روسيا القديمة مع سوريا. كان ذلك في 29 كانون الأول (ديسمبر) الماضي بعد 3 أسابيع من سقوط النظام السابق ولجوء زعيمه إلى الأحضان الروسية. أتى الموقف أيضًا بعد طلبات ملحّة حملتها الوفود الأوروبية المتهافتة على دمشق “تتوسّل” زعيمها الجديد طرد قواعد فلاديمير بوتين وجنده من البلد. قبل ذلك الإعلان بتسعة أيام، وصلت باربَرا ليف، مساعدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى مُترئّسة وفدًا جاء يستطلع لصالح إدارة الرئيس جو بايدن أحوال “سوريا الجديدة”. تجنّبت ليف ووفدها الاستعجال في الاعتراف بالأمر الواقع. لم يتم لقاء الشرع في قصر الشعب بل في إحدى الفنادق الكبرى للعاصمة. استمعت إليه باهتمام. قالت في أواخر الشهر الماضي أنها رأت فيه “قائدًا سياسيًا وليس مجرد قائد عسكري”، مُنَوِّهةً ب”تفكيره وطريقة صياغته للأمور”.

عَوّلَ الشرع كثيرًا على هذا اللقاء. جاءته نصائح السعودية وتركيا بأن يمرَّ بنجاح في هذا “الامتحان”. بدا أنَّ “تقدير الموقف” الذي قدمته الديبلوماسية الرفيعة لإدارتها اعتُمِدَ من قبل “الدولة العميقة”. مشت على هديه الإدارة اللاحقة. ونهل الرئيس دونالد ترامب منه زادًا سهّل إصغاءه إلى تمنيات وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والرئيس التركي رجب طيّب أردوغان برفع العقوبات عن سوريا.

التقط الشرع من لقاء ليف رسالةً واستنتاجًا. كانت الولايات المتحدة، وما زالت مَعنيّة، بإجلاء النفوذ الإيراني نهائيًا من سوريا. لم تكن، وما زالت غير، معنيّة كثيرًا بمستقبل الوجود الروسي في سوريا. والأرجح أنَّ العلاقة التي ربطت ترامب بالرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، منذ الولاية الأولى، أسقطت أي تحفّظات أميركية على وجودٍ روسي هو جُزءٌ من تاريخ سوريا الحديث الذي خبرته واشنطن وتعاملت معه منذ عقود.

أدركَ الأوروبيون هذا المتغيّر. توقفوا عن ابتزاز رئيس سوريا الجديد برَهنِ موقفهم الإيجابي ودعمهم الموعود بإغلاق قواعد روسيا العسكرية في سوريا. صمتوا. لم يعد ذلك على جدول أعمال وزراء خارجية أوروبا في دمشق، ولم يكن الأمر مطروحًا في محادثات الشرع مع نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون في الإليزيه في باريس في أيار (مايو) الماضي.

تحرّر أمرُ العلاقة بين سوريا وروسيا من كوابح غربية وبات شأنًا ثنائيًا حذرًا مدروسًا متأنّيًا. شجعت أنقرة والرياض دمشق على كسر التحفّظ والغموض. تبادل البلدان زيارات الوفود. تهاتف الرئيسان وكأنهما ضالعان في ما آلت إليه أمور سوريا هذه الأيام. كشف الشرع إحدى طلاسم السقوط السريع والمدوّي لنظام الأسد. كانت كل التقييمات السابقة، بما فيها تلك الإيرانية التي حملها الجنرال قاسم سليماني إلى بوتين، تقول: “بدون حماية روسية سيسقط النظام”. عمليًا هذا ما حصل. توقفت موسكو عن فعل الحماية فحدثت النهاية.

يعلن الشرع في المناسبة نفسها أنَّ القطيعة مع إيران لن تكون نهائية. لكنه من خلال “فضح” شراكة روسيا في إسقاط الأسد يُبلّغ طهران أنَّ روسيا أصبحت “صديق”، فيما إيران ما زالت مصنّفة عدوًّا. لا تريد دمشق فقدان صداقة دولة نووية كبرى كروسيا، العضو الدائم في مجلس الأمن الدولي والمالك لحق النقض. وتريد دمشق تبديد أوهام أطراف في سوريا تعوّل على دعم روسيا للانقلاب على الوضع الراهن. تعتبر دمشق وواشنطن وأنقرة، وحتى للمفارقة تل أبيب، أنَّ حضور روسيا يمثل عامل توازن يراها كل طرف من زاويته. ولا يزعج سوريا أن يوفّر المتنافسون فضاءات تنفّس لسوريا الباحثة عن أمانها والسلام.

Exit mobile version