راشد فايد*
تقولُ الذاكرة عن الأحياء القديمة إنه كان لكلٍّ منها من يسمّى بالقبضاي، وهذه كلمة تركية (على ما أذكر) تعني القوي صاحب السطوة والهيبة، ولم تكن الصفتان لصيقتين بصاحبهما الى أبد الآبدين، بل قد يلمع اسم قبضاي جديد قد يزيحه عن الزعامة أو يقاسمه إياها، تبعًا لميزان القوى على الأرض.
كان غير مُستبعَد الإئتلاف بين قبضايات الحي الواحد، وقد يقرُّ الجميع بسيادة أحدهم على الآخرين، لسبب قد يكون وجاهة عائلته، أو إمكاناتها المالية، وحسن تدويرها زوايا الاختلافات والخصومات العارضة أو المستعصية، وقد يكون قبول الآخرين بالزعيم المتقدّم على الآخرين، أحيانًا كنوعٍ من الخضوع، أو تجنُّب خراب البصرة، وفي أحيانٍ كثيرة، قد يخرج عليه من عائلته شابٌ يعتقدُ أنَّ الأوانَ حانَ لتبوُّئه مقام القيادة ولو بديلًا لوالده، فتدور الصدامات في العائلة الواحدة بين أبناء العمومة والأخوة، وتتحرك شهية شباب العائلات الأخرين وترون المواجهة وصولًا إلى حمل السلاح، والفوضى ما يُبرّرُ تدخُّل الوسطاء، من داخل الحي، ومن الجوار، إلى أن تُصبحَ الكلمة الحاسمة لأهل الخارج، بعد أن يُضخِّمَ هؤلاء المشهد بادعاء أنَّ أهلَ الديار باتوا عاجزين عن إدارة شؤونهم بأنفسهم، ولا بُدَّ من التدخُّل لوقف انتحارهم الذاتي.
هو ذا المشهد اللبناني منذ “اتفاق القاهرة”: غطاءٌ اسلامي للهيمنة الفلسطينية، ومثله شيعي تحديدًا، وعربي عمومًا، للوصاية السورية، ومسيحي للإجتياح الاسرائيلي، فاستسلامٌ وطني جامع أمام الهيلمة الأسدية برضى المجتمع الدولي والعربي إلى أن انقلب الاميركي على إرث الرئيس باراك أوباما، واستراتيجيته في تحالف الأقليات، ليطلق دونالد ترامب التحالف الابراهيمي الوئيد.
لعبت كلُّ طائفة دور القبضاي في وجه الآخرين، ولم يُمهلها التاريخ حين خلع كلًّا منها من دورها المهيمن، وقد استنفذت حظوظها في السيطرة على القرار السياسي والميداني، وفيما بدا أنَّ الدولة العميقة ستعود إلى دورها الوطني، حلَّ قبضايٌ جديد في وجهها يقول إمّا نحنُ الدولة أو لا دولة، وبرُغم أنَّ صوته يتسرّب من الدمار ومن جثث البريئين من قراره، بما سماه الإشغال والإسناد، ومن بين الدمار الاقتصادي والمالي، فإنه يستمرُّ في عبثيةٍ زعمَ القدرة على استئناف الحرب، برُغم القرارات الأممية التي وافق عليها وتعهّدَ بالالتزام بها، وبرُغم تأييده خطاب القسم الرئاسي، وتبنيه بيان الحكومة ومنح نوابه الثقة بما تعهدت به، مُتناسيًا أنَّ وراء الدعم العربي والدولي لجنة خماسية عربية ودولية تترقّب أن يفي لبنان بتعهّداته من نزع السلاح إلى إعادة الإعمار، ومُتجاهلًا ما فقد من قياديين ومقاتلين و70 في المئة من قدراته القتالية، على ذمة الرواة.
من أسف أنَّ ما وافق عليه وزراء الحزب إياه في مجلس الوزراء حوّل تأييد الآخرين لتطبيقه الى تهمة خيانة وطنية، مُستخفًّا بعقول اللبنانيين، خصوصًا حين يدعو الدولة الى التصدّي لاسرائيل، فيما حيّد نفسه عن مواجهتها سوى بالبيانات والخطب، التي لا تخفي المعروف. واضحٌ أنَّ زمن القبضايات في لبنان اندثر وليس مُتاحًا أن يستمرَّ في ابتزاز الدولة، وأنَّ تدويرَ الزوايا في مجلس الوزراء أقرب إلى مهلةٍ جديدة لن تغير، في الآتي من الأيام، ما رسمته الإرادة الوطنية الحرة من تمسُّكٍ بالسيادة وحصرية السلاح وبناء الدولة، وإعادة الإعمار، وإلّا لِمَ انتُخب العماد جوزيف عون رئيسًا للجمهورية وسمّي القاضي نوّاف سلام رئيسًا للحكومة؟
حجّمت المرحلة قبضايات الداخل والإقليم، وما الإعتداء على قطر إلّا إشهار فجور اسرائيلي مُعلَن يُترجَمُ كل يوم في غزة وفي لبنان وسوريا، ويكاد ردُّ فعل الرأي العام والعربي والاقليمي والدولي على المجازر وخرق سيادات الدول يصبح من الروتين اليومي في المنطقة والعالم، ولولا التظاهرات الاعتراضية في أغلب دول أوروبا وأميركا اللاتينية، لبدت اسرائيل قادرة على إلغاء الحدود بين الدول حين تريد، ومن دون استئذان أحد حتى الولايات المتحدة الأميركية. لكن القحة الاسرائيلية تجاوزت حدود المعقول، وصار روتينيًا، إعلانها اليومي عما تنوي تدميره في غزة ومَن تنوي اغتياله، والمفاخرة الصهيونية بتجويع أهل غزة، واحتلال مواقع في جنوب لبنان واستهداف أبنائه، حتى تكاد تعلن نفسها قبضاي المنطقة وشرطيها الجديد وسيدة البحر والبر والجو في الإقليم بلا أي رادع. ومن أين يأتي الرادع طالما أنَّ بيان مجلس الأمن أدان فعل الاعتداء على قطر، فيما جهّل الفاعل وكاد يطيّب خاطر المعتدي ويهنئه على فعلته بانتهاك سيادة قطر الوطنية، وأمن دول الخليج، وهزأ بالتزام واشنطن حماية أجوائها؟
- راشد فايد هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني. يُمكن التواصل معه عبر البريد الإلكتروني التالي: rachfay@gmail.com