لُعبَةُ الأُمَم: الرَقمُ السوري الذي باتَ صعبًا

محمَّد قوَّاص*

يَحقُّ للعالم أن يتفاجأ من سرعة انهيار نظام بشّار الأسد قبل عام. 11 يومًا استغرقتها حملة “هيئة تحرير الشام” بقيادة أبي محمد الجولاني من إدلب إلى دمشق. ورُغمَ ما نقلته المشاهد والأخبار عن معارك وصداماتٍ وهجماتٍ مُتبادَلة وتدخُّلٍ للطيران الروسي، غيرَ أنَّ السرعة القياسية، ما بين بدء الهجوم وفرار بشّار الأسد وإعلان سقوط نظامه، تركت للمُخَيَّلة أن تتفقّدَ سيناريوهات مؤامراتية ما فوق سورية.

تدور رواية “الثوار” حول مظلومية عانى منها الشعب السوري، لا سيما المعارضين منه، أدّت إلى اندلاع ثورة سلمية، تحوّلت إلى دموية من نار وبارود وغاز وبراميل. وتفخر تلك الرواية بتضحياتٍ جسام بذلها السوريون ودفعوا أثمانًا مُوجِعة من أجلها، قادت إلى تحقيقِ إنجازٍ سوري خالص مُخالفٍ لاجندات العواصم المَعنيّة.

تكشفُ المعلومات أنَّ العواصم، لا سيما تركيا، وُضِعَت في صورة عملية “ردِّ العدوان” في 27 تشرين الثاني (نوفمبر) 2024 للانتقام من هجمات ارتكبها نظام الأسد، وأنَّ سقفَ العملية لم يَكُن يتجاوز ريف حلب الغربي. استنتَجَ المهاجمون ضعف الدفاعات المقابلة. تسلّم الجولاني، وفق ما كشفه، رسالةً روسية تطلب منه الاحتفاظ بما حقّق والتوقُّف، مُهَدّدةً بعظائم الأمور. استنتج رجل سوريا الجديد مأزقًا في صفوف النظام، فأمر بالزحف نحو دمشق.

لا يُحِبُّ خصومُ التحوُّل في سوريا الرواية الرومانسية للرحلة من إدلب إلى دمشق. فإذا ما كان الأسد قد اعتبر منذ العام 2011 أنَّ ما يتعرّض له نظامه هو “مؤامرة كونية”، فإنَّ لسانَ حال المُعادين للرئيس أحمد الشرع ونظامه يقول إنَّ سقوطَ النظام هو نتيجةُ تلك المؤامرة الشهيرة، بحيث قرّرت الغرف المغلقة، رُغمَ تناقُض أجندات الدول المُنخَرِطة بالصراع السوري، إغلاق حقبة الأسد والقضاء على نظامه.

وفيما يعتمدُ الفريقُ الأخير على نظرية المؤامرة لإقناع نفسه بروايةٍ تُفسِّرُ هروب زعيم النظام وكبار حاشيته، فإنه بالاستناد إلى سوابق في سوريا أو غيرها، يٌعَوَّلُ على مؤامرةٍ كونية مُضادة تُعيدُ النظام السابق إلى الحياة برئيسه وشقيقه ولاحقًا نجله.

ومع ذلك فإنَّ الآمالَ التآمرية الناهلة من مُعجِزات النظام الدولي، تصطدمُ أوهامها مع واقع “إعجازي” صنعه الشرع وفريقه داخل المشهد الدولي العام من باريس إلى واشنطن مرورًا بموسكو وبكين وانطلاقًا من الرياض وعواصم عربية أخرى.

لا بُدَّ من الاعتراف أنَّ نظامَ الأسد لم يسقط قبل ذلك لأنَّ إراداتٍ دولية كانت سائدة تمنعُ هذا السقوط وإن ظهرت عواصم تدعم المعارضين للتلاعب بموازين قوى أي نهايات. لكن لا بُدَّ من الاعتراف أيضًا أنَّ العامل السوري كان أساسيًا ومَفصَليًا في قرار إسقاط النظام وتوفير أدواته وظروفه المؤاتية، ليس فقط من خلال بأس المهاجمين وحسن تدريبهم وكفاءة تسليحهم، بل أيضًا بسبب انهيار دفاعات الخصوم على نحوٍ يعترفُ الشرع وفريقه أنه لم يكن في الحسبان.

ما يخرُجُ هذه الأيام من معلومات جديدة-قديمة من موسكو وطهران، وقبل ذلك من بغداد، يتقاطَعُ ليكشف أنَّ تلك العواصم قرّرت الانكفاء والتوقُّف عن دعم نظام الأسد لسببٍ وحيد تردّدَ وأُعيدَ تأكيده: “الجيش السوري لا يريد القتال”. ولا أمل في دعمٍ خارجي مهما كان مهمًّا إذا لم يكن ذلك الجيش أساسًا ومُستعدًّا للقتال. بَلّغت العواصم الأسد بهذه الحقيقة. دقَّقَ في صحتها، تأكد من واقعها. فأعطى أمر الاستسلام وسقوط نظامه، ثم هرب إلى منفاه.

تكشف الفيديوهات المُسَرَّبة مؤخَّرًا بشأن “سعادة” الجنود بلقاء الرئيس وتدافع كبار الضباط على تقبيل يده عن مدى زيف الواجهات وتملّقها الكاذب. المشهدُ يَفضَحُ أعراضَ انهيارٍ مُتدرّج باتجاه دَركِ رفض القتال من أجل ذلك الوهم الكاذب. والأرجح أنَّ ذلك الجيش كان أدرك عبث الحرب وهراء استمرار ذلك النظام، بحيث أنَّ أسبابًا سورية خالصة أجبرت دعائم الأسد في موسكو وطهران (وحزبها في لبنان) على الإقرار بنهاية “الملهاة” الخبيثة لصالح رقم سوري صعب يستنتجه العالم كل يوم.

Exit mobile version