كابي طبراني*
شنّت الطائرات الحربية الإسرائيلية الثلثاء الفائت غارةً على اجتماعٍ لقيادات حركة “حماس” في الدوحة. الهجوم، الذي استُهدف فيه على ما يبدو القيادي البارز خليل الحية وآخرون، لم يكن مجرّد عملية تكتيكية جديدة في الحرب الطويلة ضد “حماس”. بل كان إعلانًا استراتيجيًا واضحًا: إسرائيل تخلّت عن أيِّ مظهرٍ من مظاهر التفاوض، واعتنقت نهج التدمير الكامل بدون هوادة. لكن في ذلك، تخاطر إسرائيل بتقويض الأهداف التي تزعم السعي إليها—تحرير الرهائن، تعزيز الأمن الداخلي، والحفاظ على تحالفاتها الدولية.
تكمن رمزية استهداف قادة “حماس” على الأراضي القطرية في ثقلها السياسي. فقطر لعبت دورًا مُرَكَّبًا ومُعقّدًا: تستضيف قادة “حماس”، وتُقدّمُ تمويلًا لغزة بموافقة إسرائيلية ضمنية في مراحل سابقة، لكنها أيضًا كانت وسيطًا أساسيًا في محادثات وقف إطلاق النار. بضربتها في الدوحة، بعثت إسرائيل رسالة مزدوجة: ليس فقط ل”حماس”، بل لقطر ومصر والولايات المتحدة والمجتمع الدولي بأسره—الديبلوماسية لم تعد مطروحة.
غير أن التناقض في الاستراتيجية الإسرائيلية صارخ. فالقيادة الخارجية ل”حماس” لم تَعُد هي المحرّك الأساسي للعمل العسكري. النفوذ الحقيقي بات بأيدي قادةٍ ميدانيين داخل غزة، مُنظَّمين بشكلٍ لامركزي ومَرِنين في مواجهة الحملات العسكرية. اغتيال شخصيات في الخارج لن يُضعِفَ سيطرة “حماس” ميدانيًا. لكنه سيُقوّضُ قنوات التفاوض التي ربما كانت قادرة على تأمين إطلاق سراح نحو 20 رهينة إسرائيليًا ما زالوا لدى الحركة. بعبارة أخرى، إسرائيل تُبعِدُ نفسها عن تحقيق أحد أكثر أهدافها إلحاحًا.
وللغارة تداعيات أوسع بكثير من ساحة غزة. بالنسبة إلى الولايات المتحدة، كانت بمثابة كابوس ديبلوماسي. فقطر حليفٌ رئيس من خارج حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وتستضيف قاعدة العديد الجوية، وهي أكبر منشأة عسكرية أميركية في الشرق الأوسط ومحور استراتيجي لأميركا. الانطباع بأن واشنطن ربما منحت ضوءًا أخضر للعملية، أو على الأقل لم تمنعها، يضعف مصداقيتها في الخليج. الرسالة الموجهة للحلفاء هناك مقلقة: قد تتسامح أميركا مع هجمات على أراضيكم إذا كانت تخدم مصالح إسرائيل.
يأتي هذا التآكل في الثقة في لحظةٍ حرجة. فدول الخليج بدأت بالفعل في تنويع شراكاتها الأمنية، بالانفتاح أكثر على الصين وروسيا. وستُعجّل ضربة الدوحة بهذه النزعة، مع تنامي الشكوك في موثوقية المظلة الأمنية الأميركية. ولا يقتصر الأمر على قطر وحدها، فتركيا—حليفة الدوحة وعضو الناتو—سترى في الضربة استفزازًا جديدًا ضمن توترها المتصاعد أصلًا مع إسرائيل.
أما داخليًا، فتخدم العملية الحسابات السياسية لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. الرجل الذي كان يُنظر إليه يومًا ما كشخصٍ حَذِرٍ في استخدام القوة، اتخذ مسارًا مختلفًا تمامًا منذ هجوم “حماس” في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023 الذي قتل أكثر من ألف إسرائيلي. حكومته، تحت ضغط من اليمين المتطرف، حدّدت تدمير “حماس” كهدفٍ وحيد لا بديلَ منه. بالنسبة إلى نتنياهو، فإنَّ إظهار الصلابة — لو على حساب الديبلوماسية—هو ما يرضي قاعدته الشعبية. الرسالة بسيطة: لا تفاوض، القوة وحدها هي الحل.
لكن هذه الرؤية تصطدم بالواقع. حماس لا تزال راسخة في غزة، مدعومة بقاعدة شعبية ترى فيها رمزًا للمقاومة رغم المعاناة. كما أنَّ رفضَ إسرائيل عودة السلطة الفلسطينية إلى القطاع يترك فراغًا لا يملؤه سوى “حماس”. عمليًا، ما إن تنسحب القوات الإسرائيلية من أيِّ منطقة حتى تعود “حماس” للظهور، ما يطيل أمد الحرب بلا نهاية واضحة.
الكلفة الإنسانية مروّعة. فقد قُتل أكثر من 64 ألف فلسطيني منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، ثلثهم من الأطفال، إلى جانب نحو ألفَي إسرائيلي. أحياء كاملة في غزة سُوِّيت بالأرض. ورُغم ذلك، لم تُترجَم المكاسب العسكرية إلى إنجازاتٍ سياسية حقيقية. بدلًا من ذلك، دخل الصراع في حلقةٍ مفرغة: حماس تبقى، إسرائيل تُصعّد، وغزة تدفع الثمن.
جيوسياسيًا، تضعف الضربة فُرَص واشنطن في توسيع اتفاقيات “أبراهام” وتعميق التطبيع بين إسرائيل والعالم العربي. فدولة الإمارات، التي كانت رائدة في مسار التطبيع، حذّرت بالفعل من أنَّ ضمَّ الضفة الغربية سيكون “خطًا أحمر”. أما ضربة الدوحة، وقد اعتُبرت إهانة لدولة خليجية، فهي تجعل المصالحة أبعد. وبدلًا من عزل “حماس”، قد تجد إسرائيل نفسها هي المعزولة.
كما تُغيّرُ العملية طريقة النظر لدور الولايات المتحدة. واشنطن تنفي علمها المُسبَق، لكن قلّة في المنطقة تصدّق أنَّ إسرائيل كانت لتضرب الدوحة بدون إبلاغ حليفتها الأولى. إن كانت واشنطن تعلم وسكتت، فمصداقيتها تتآكل. وإن لم تعلم أصلًا، فذلك يثير أسئلة محرجة حول مدى قدرتها على التأثير في إسرائيل. في كلتا الحالتين، سمعتها تتضرّر.
فإلى أين يتجه الصراع؟ بالنسبة إلى “حماس”، الخيارات محدودة: هجمات متفرّقة في إسرائيل أو استعراضات رمزية مثل إعدام الرهائن. ولن يغيّر ذلك موازين القوى. بالنسبة إلى إسرائيل، الاعتماد على القوة وحدها لا يجلب إلّا مكاسب ضئيلة، ويزيد من عزلتها. أما الولايات المتحدة، فالتحدّي أمامها وجودي: كيف تحافظ على نظامٍ إقليمي بينما ينسفه أقرب حلفائها.
في الحقيقة، ضربة إسرائيل في الدوحة لم تكن مجرد عملية عسكرية بل مقامرة استراتيجية—مقامرة على أنَّ القوة تمحو وتُزيل “حماس”، وأنَّ الديبلوماسية بلا جدوى، وأنَّ الدعمَ الأميركي سيبقى غير مشروط مهما حدث. لكن التاريخ يعرض صورة أخرى. فمحاولات الاغتيال السابقة كثيرًا ما ارتدت عكسيًا، تُقوّي “حماس” بدلًا من إضعافها. والمفاوضات تنهارُ حين يُغتال الوسطاء. والحلفاء نادرًا ما ينسون أنَّ سيادتهم عُدّت قابلة للمساومة.
إذا استمرّت إسرائيل في هذا النهج، فإنها تخاطر بتحويل حربها مع “حماس” إلى مواجهة إقليمية أوسع—قد تضعف تحالفاتها وتغرق المنطقة في دوامة أعمق من العنف. المأساة لا تكمن فقط في الأرواح التي أُزهقت، بل أيضًا في تضييق البدائل. بإغلاق باب الديبلوماسية، لا تقترب إسرائيل من السلام؛ بل تدفعه بعيدًا أكثر.
- كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: gabarielgtabarani.com أو عبر منصة “إكس” على: @GabyTabarani