العراق و”الحشد الشعبي”: صراعُ السيادة

إذا ظلّت قوات “الحشد الشعبي” غير خاضعة للتنظيم أو ظلت جهود مواجهة نفوذها غير مُرَكّزة، فقد تُعيق هذه الميليشيات جهود البلاد الإيجابية لتحقيق الاستقرار.

عناصر من “الحشد الشعبي” يشاركون في تشييع القائد حيدر الموسوي من كتائب سيد الشهداء في بغداد، في 22 حزيران/يونيو 2025.

جوناثان فينتون-هارفي*

في أواخر تموز (يوليو) الفائت، تعثّرت مُجدَّدًا مسيرةُ العراق الطويلة والشاقة نحو الاستقرار، حين اقتحمَ مقاتلون من قوات “الحشد الشعبي” مبنى وزارة الزراعة في بغداد. وقادت العملية كتائب “حزب الله”، وهي فصيلٌ بارز مُتحالف مع إيران داخل الحشد.

وبحسبِ السلطات العراقية، هدفت الكتائب إلى عرقلةِ تعيين مدير جديد للوزارة، بعدما أُقيلَ سلفه أخيرًا إثر اتهاماتٍ بالفساد ضده، إذ كان يُسَهّلُ مَنحَ عقودٍ زراعية مُربحة لعناصر الميليشيات. ومع وصول قوات الشرطة إلى الموقع، اندلعَ تبادلٌ لإطلاق النار أسفر عن مقتل ثلاثة أشخاص، بينهم مدني وضابط شرطة وعنصر من الحشد، إضافةً إلى إصابة تسعة موظفين من الوزارة.

ورُغمَ فشلِ الهجوم في مَنعِ تعيين المدير الجديد، فإنَّ الحادثة تعكسُ بوضوح مُعاناة بغداد في فَرضِ السيطرة على الفصائل المتمرّدة والمارقة داخل “الحشد الشعبي”، في وقتٍ تَبذلُ السلطات جهدًا تشريعيًا واسعًا لتنظيم عمله. وتبرزُ هنا خطورةُ الموقف بالنسبة إلى العراق، إذ يبقى تنظيمُ الحشد أمرًا حاسمًا لتجنّبِ تكرار مثل هذه المواجهات الدامية.

ظهرت قوات “الحشد الشعبي” في العام 2014 عقبَ إصدار المرجع الشيعي الأعلى آية الله علي السيستاني فتوى دعا فيها العراقيين إلى حمل السلاح لمواجهة تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش). وقد استجابت لهذه الدعوة تعبئة واسعة ضمّت نحو 60 ألف مقاتل، بعضهم موالٍ للسيستاني، فيما كان آخرون قد تلقّوا بالفعل التدريب والدعم من “فيلق القدس” المسؤول عن العمليات الخارجية في  الحرس الثوري الإيراني.

ورُغمَ إدماجِ عشرات الفصائل التابعة لـ”الحشد الشعبي” رسميًا في العام 2016 ضمن القوات المسلحة العراقية، فإنَّ العديدَ منها ما زالَ يعملُ بصورةٍ شبه مستقلة أو يتلقّى توجيهاته مباشرة من طهران.

وفي 16 تموز (يوليو)، أنهى البرلمان العراقي القراءة النهائية لمشروعِ قانونٍ يسعى إلى إنهاء هذه الفوضى عبر تحويلِ ما يقرب من 60 فصيلًا مُتفرّقًا يشكّلونَ “الحشد الشعبي” إلى كيانٍ حكومي دائم، يتمتّعُ بهيكلٍ تنظيمي واضح ورُتَبٍ ومزايا عسكرية وتسلسُلٍ قيادي رسمي. كما ينصُّ المشروع على منح القائد الأعلى للحشد رتبة وزير، وإنشاء أكاديمية عسكرية خاصة بقواته.

وبينما بات القانون جاهزًا للطرح على التصويت في أي وقت، يبقى مصيره غير مضمون على صعيد الإقرار والتنفيذ. ويرى أعضاءٌ من “الإطار التنسيقي الشيعي” –وهو تكتل برلماني مقرّب من الحشد– أنَّ هذه الخطوة تُمثّلُ اعترافًا متأخِّرًا بالقوة التي خاضت معارك ضد تنظيم “داعش”، ويؤكدون أنها قد تسهم في سدّ بعض الثغرات التي تعاني منها القوات المسلحة العراقية النظامية.

مع ذلك، يواجه مشروع القانون مُعارضةً من مسؤولين في واشنطن وكردستان العراق، الذين يُحذّرون من أنه يُخاطرُ بتعزيز وترسيخ نفوذ إيران وتمكين قوة عسكرية أقوى من أجهزة الأمن العراقية نفسها. وتشعر الولايات المتحدة، التي تُصنّفُ كتائب “حزب الله” منظّمة إرهابية، بقلقٍ بالغ إزاء منع إيران من اكتساب المزيد من النفوذ في المنطقة. وفي اتصالٍ هاتفي مع رئيس الوزراء محمد شياع السوداني الشهر الماضي، حذّر وزير الخارجية ماركو روبيو من أنَّ قانون قوات “الحشد الشعبي” من شأنه “مأسسة وترسيخ النفوذ الإيراني والجماعات الإرهابية المسلحة، مما يُقوّض سيادة العراق”.

لكن، يغفل كلا الجانبين في هذا النقاش عن تفاصيل دقيقة بالغة الأهمية. إذ تميل الجماعات شبه العسكرية وحلفاؤها إلى المبالغة في تضخيم نقاط ضعف قوات الأمن العراقية لتبرير استقلاليتها، بينما يتجاهل منتقدو قوات “الحشد الشعبي” تنوُّع المصالح التي تمثّلها، ويصوِّرونها على أنها مجرّدُ أداةٍ للنفوذ الإيراني.

صحيحٌ أنَّ الفصائلَ المُتشَدِّدة الموالية لإيران، مثل كتائب “حزب الله” وعصائب أهل الحق، تتمتعان بنفوذٍ كبير، إذ تضمُّ كلٌّ منهما نحو 10 آلاف من أصل 238 ألف مقاتل من قوات “الحشد الشعبي”، حسبما أفادت التقارير. وهذا يجعلهما من بين أكبر فصائل الحشد من بين عشرات الفصائل. كما سعى حلفاء إيران داخل التكتل منذ فترة طويلة إلى الهيمنة على البرلمان العراقي من خلال الضغط على المسؤولين وصياغة تشريعات تدعم نفوذ طهران. كما دعوا علنًا إلى انسحاب القوات الأميركية من العراق وضغطوا من أجله.

في الوقت نفسه، هناك فصائل قومية متحالفة مع السيستاني تستقطب مقاتلين من مجتمعاتٍ شيعيّة يشكك أعضاؤها في النفوذ الإيراني أو يُعادونه تمامًا. إحدى هذه الوحدات، فرقة العبّاس القتالية، ذهبت إلى حدِّ إدانة غارة كتائب “حزب الله” الشهر الماضي. وتُمثّلُ فصائل أخرى من قوات “الحشد الشعبي”، مثل فوج بابل، فوج الحق التركماني (قوّة التركمان)، والفوج 80، المجتمعات الكلدانية والتركمانية والإيزيدية في العراق على التوالي.

من الواضح أنَّ قوات “الحشد الشعبي” غير المُنَظَّمة تُشكّلُ تهديدًا طويل الأمد لاستقرار العراق. في الشهر الفائت، شنّت قوات الميليشيات هجمات بطائرات مُسيّرة على أهداف عسكرية ومدنية في كردستان العراق، بما في ذلك قواعد عسكرية أميركية وبنية تحتية للطاقة مملوكة لأجانب – وهي قضية أثارها روبيو في مكالمته مع السوداني. وبينما التزمت قوات “الحشد الشعبي” بالهدوء إلى حد كبير خلال الحرب الأخيرة التي استمرّت 12 يومًا بين إيران وإسرائيل، ويعود ذلك جُزئيًا إلى دعوات بغداد لضبط النفس، فإنَّ تجدُّدَ الصراع قد يُعمّق انقساماتها، ويجذب الفصائل المتحالفة مع إيران إلى القتال بينما تبقى فصائل أخرى على الهامش.

ومع ذلك، إذا أُريد لجهود الحكومة المستمرّة للسيطرة على قوات “الحشد الشعبي” أن تنجح، فسيتطلّبُ ذلك توازنًا دقيقًا. وكما يقرُّ السوداني نفسه، تلعب قوات “الحشد الشعبي” دورًا مهمًا، حيث تسيطر ميليشياتها على العديد من نقاط التفتيش في جميع أنحاء البلاد، مما يُساعد على ترسيخ الأمن في أعقاب هزيمة تنظيم “الدولة الإسلامية”. لكن هذه السيطرة تسمح أيضًا للمقاتلين بتحصيل “رسوم” غير رسمية من السائقين والتجار والمسافرين، تُشكّلُ مصادرَ دخلٍ لبعض فصائل “الحشد الشعبي” – وهي ممارسة حاولت الحكومات العراقية المتعاقبة الحدَّ منها. ورُغمَ بعض النجاح في قمع هذه الممارسة، لا تزال فصائل أخرى، مثل عصائب أهل الحق، تعمل عند نقاط التفتيش وتمارسها متحديةً أوامر الحكومة.

في وقت سابق من هذا الشهر، أعلن السوداني عن إجراءاتٍ تأديبية ضد المتورّطين في مداهمة وزارة الزراعة، وفصل لاحقًا اثنين من القادة المتورّطين. تعكس هذه الخطوات جهود الحكومة لتأمين السيطرة على “الحشد الشعبي”، لكن نجاح هذه الجهود -بما في ذلك مشروع القانون المُعَلَّق في البرلمان- سيتأثر أيضًا بالجهات الفاعلة الإقليمية والدولية.

إنَّ تراجُعَ نفوذ إيران في الشرق الأوسط، عقب الحملة الناجحة التي شنّتها إسرائيل ضد “حزب الله” العام الماضي في لبنان وسقوط نظام بشار الأسد في سوريا، قد يدفعها إلى مضاعفة جهودها في العراق. في آب (أغسطس)، زار المسؤول الأمني الإيراني البارز علي لاريجاني العراق للتصديق على مذكرة تفاهم بشأن التعاون الأمني بين البلدين، في مسعىً يُقال إنه لحماية مصالح الجمهورية الإسلامية في العراق، لا سيما من خلال الميليشيات المدعومة من طهران في قوات “الحشد الشعبي”.

مع ذلك، فإنَّ نفوذ إيران الذي كان يومًا ما بلا منازع في العراق أصبح محلَّ نزاع، حيث تُعمّق دول الخليج العربي، مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، علاقاتها التجارية من خلال استثمارات الطاقة والبنية التحتية. علاوةً على ذلك، عززت تركيا دعمها الأمني للحكومة العراقية، بما في ذلك توفير التدريب وتبادل المعلومات الاستخبارية للجيش العراقي.

قد تُعزّزُ هذه الجهود بشكلٍ طفيف قدرة الدولة العراقية على السيطرة على قوات “الحشد الشعبي”، لكن من المرجح أن تحتاجَ قوات الأمن في بغداد إلى دعمٍ أعمق وأكبر لتحقيق النجاح، بما في ذلك من الشركاء الغربيين. ففي النهاية، قد لا تكون جميع فصائل قوات “الحشد الشعبي” على استعدادٍ للتنازل طواعيةً عن السيطرة للدولة.

في حين تمكنت بغداد من قمع أفرادٍ وقياداتٍ من “الحشد الشعبي”، فإنَّ اتِّباع مسارٍ أكثر منهجيةً من الأعلى إلى الأسفل، مثل المساعي التشريعية المرتقبة، يُعدّ بدايةً ضروريةً لتغيير دائم. يشغل منصب رئاسة “الحشد الشعبي” منذ تأسيسه، السياسي العراقي المخضرم فالح الفياض، وقد حوّلت قيادته المنظمة إلى ما يشبه كتلةً سياسيةً عسكريةً قادرةً على التأثير في البرلمان، بدلًا من أن تكون قوةً أمنيةً محايدة.

الأهمُّ من ذلك، أنَّ تخصيص بغداد ميزانية لقوات “الحشد الشعبي”، والتي بلغت حوالي 3.5 مليارات دولار في العام 2024، يوفر أيضًا نفوذًا. وقد يزداد هذا النفوذ إذا استمر ضعف نفوذ إيران الإقليمي، الذي يعاني أصلًا من ضغوط، إذ قد يدفع الفصائل المتحالفة مع طهران إلى التعاون مع بغداد لضمان بقائها.

بدون تنظيم، قد تؤثر هذه الفصائل في الانتخابات البرلمانية المقبلة، المقرر إجراؤها في تشرين الثاني (نوفمبر) 2025. تهيمن الأحزاب المتحالفة مع قوات “الحشد الشعبي” في “إطار التنسيق الشيعي” حاليًا على البرلمان الوطني ومجالس المحافظات بعد نجاحها في الانتخابات المحلية التي أُجريت في كانون الأول (ديسمبر) 2023، وإن كان ذلك يرجع إلى حد كبير إلى انخفاض نسبة المشاركة وسط مقاطعة دعا إليها رجل الدين الشيعي النافذ مقتدى الصدر احتجاجًا على النفوذ السياسي للميليشيات.

قد يزيد الضغط المتضافر لإصلاح قوات “الحشد الشعبي” قبل انتخابات هذا العام من فُرَصِ الحدِّ من التلاعب السياسي وتحقيق نتيجة أكثر عدالة، مما يدعم موقف رئيس الوزراء السوداني ويعزز شرعية جهود حكومته في إخضاع الميليشيات. إذا ظلت قوات “الحشد الشعبي” غير خاضعة للتنظيم أو ظلت جهود مواجهة نفوذها غير مُرَكّزة، فقد تُعيق هذه الميليشيات جهود البلاد الإيجابية لتحقيق الاستقرار.

Exit mobile version