بعد أنّ أقصت الجزائر شريكيها التقليديين، فرنسا وإسبانيا، شرعت بسرعة في توطيد علاقاتها مع إيطاليا، في خطوةٍ تحمُلُ تداعياتٍ جيوسياسية واسعة على المنطقة.
دالية غانم*
عندما وصل الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إلى روما في 24 تموز (يوليو) في زيارةٍ رسمية، جاءت اللغة الديبلوماسية التي تبادلها مع رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني زاخرة بالحماسة. لقد وصف كلا الزعيمين علاقتهما بأنها شراكة مُتنامية الأهمية لخدمة طموحاتهما الإستراتيجية الأوسع. وأكّد تبون أنّ إيطاليا “شريكٌ أساسي وجادّ في مواكبة الزخم الاقتصادي الطموح للجزائر”، فيما أعلنت ميلوني أنّ عزم بلادها للتحوّل إلى “مركز ومحطة عبور للطاقة نحو أوروبا” لا يمكن أنّ يتحقّق “من دون التعاون القَيِّم مع الجزائر”.
وراء مصافحات القمة الثُنائية وتوقيع أكثر من 40 اتفاقية، شملت مجالات تمتدّ من كابلات البيانات البحرية إلى تصنيع السيارات، يتكشّفُ تحوُّلٌ هادئ لكنه جوهريٌّ في المشهد الجيوسياسي للبحر الأبيض المتوسّط. بالنسبة إلى إيطاليا، تُشكّلُ هذه الشراكة حجر الأساس لـ”خطة ماتي لأفريقيا”، وهي رؤية ترمي إلى ترسيخ موقعها كجسرٍ حيوي يربط أوروبا بجارتها الجنوبية في القارة الأفريقية. أما بالنسبة إلى الجزائر، تُعدُّ هذه الشراكة ثمرةَ جهدٍ مدروس للتخلّص من جاذبية علاقاتها المتوتّرة مع فرنسا وإسبانيا، وبناء مركز قوّة جديد يرتكزُ على شريكٍ أوروبي محوري.
يتجاوز المحور الجزائري–الإيطالي بكثير مجرد صفقة غاز، إذ يُعيدُ رسمَ خريطة النفوذ في المتوسط، مانحًا الجزائر نفوذًا ديبلوماسيًا راسخًا داخل الاتحاد الأوروبي، وورقة توازن قوية أمام النفوذ التاريخي لمحور باريس–مدريد–الرباط، الذي دأبت الجزائر على اعتباره تهديدًا إستراتيجيًا يهدف إلى عزلها. ومع استمرار تقلّبِ ديناميات المنطقة المتوسّطية، يبقى السؤال الجوهري: هل هذا المحورُ الجديد مَبنيٌّ ليدوم، أم أنه مجرّدُ شراكةٍ هشّة مبنية على المصالح المؤقتة؟
شراكةٌ وُلِدَت في رَحمِ الأزمة
كان المحرّكُ الأساس لهذا التحالف، بلا شك، هو الطلبُ على الطاقة. فمع توقُّفِ إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا عقب غزو أوكرانيا في شباط (فبراير) 2022، وجدت إيطاليا، التي كانت تعتمد بشدّة على عملاق الطاقة الروسي “غازبروم”، نفسها مُضطَرَّة للتوجّه جنوبًا. وتكشفُ البيانات عن انعطافةٍ حادّة: ففي العام 2021، استوردت إيطاليا 29 مليار متر مكعب من الغاز من روسيا، في مقابل 22.5 مليار متر مكعب من الجزائر. وبحلول العام 2023، انهارت الواردات الروسية إلى 2.9 ملياري متر مكعب فقط. فسُدّت هذه الفجوة الكبيرة بزيادة واردات الغاز الطبيعي المسال، خصوصاً من الولايات المتّحدة وقطر، فيما حافظت الإمدادات الجزائرية على مستوى قوي بلغ 25.5 مليار متر مكعب. وبحلول العام 2024، توقّفت إمدادات الغاز عبر الأنابيب من روسيا بالكامل تقريبًا، لتبرز الجزائر بوصفها ركيزة الطاقة الأساسية التي لا غنى عنها لإيطاليا، وهو واقعٌ رسّخته صفقة بقيمة 1.35 مليار دولار بين شركة “إيني” الإيطالية و”سوناطراك” الجزائرية.
ومع ذلك، إنّ النظرَ إلى هذه القصة من زاوية المحروقات وحدها يغفل البُعدَ الجيوسياسي الأوسع. بالنسبة إلى الجزائر، لا تُمثّلُ إيطاليا مجرد زبون متنامٍ، بل بديلًا قويًا من شركائها التقليديين. وتجلّى الدليل الأبرز على ذلك في القطيعة الديبلوماسية مع إسبانيا في العام 2022، حين غيّرت مدريد موقفها الحيادي الطويل تجاه قضية استقلال الصحراء الغربية وتبنّت موقف المغرب. فأتت استجابة الجزائر سريعة وحاسمة، إذ علّقت معاهدة الصداقة الموقّعة بين البلدين قبل عقدين، وفرضت مقاطعة تجارية شاملة كبّدت الشركات الإسبانية خسائر تُقدّر بنحو 930 مليون يورو (986 مليون دولار) في خلال ثلاثة أشهر فقط، في إشارةٍ واضحة إلى استعداد الجزائر لتحمّل الخسائر الاقتصادية من أجل فرض خطوطها الحمراء السياسية. وبينما انهارت علاقة الجزائر بمدريد، وتوتّرت علاقاتها مع باريس بسبب سلسلة من الخلافات الديبلوماسية المتكرّرة شملت قضايا الذاكرة التاريخية وقيود التأشيرات والسياسة الفرنسية في الساحل، لتصل بين العامين 2024 و2025 إلى أدنى مستوياتها منذ عقود، كان محور روما–الجزائر يترسّخ، في إشارةٍ إلى أنّ الجزائر لم تَعُد مستعدة لقبول شروط غير مواتية من محاوريها الأوروبيين التقليديين.
جميع الطرق تنطلق من الجزائر
والأهم أنّه يجري توسيع أساس هذه الشراكة عمدًا ليتجاوز قطاع المحروقات، بهدف تحصينها من تقلبات أسواق السلع وضغوط التحوّل الأخضر في أوروبا. تتبع الشراكة نهجًا مُزدَوِج المسار، يقومُ على استخدام الغاز الجزائري كـ”وقودٍ مرحلي” يضمن أمن الطاقة في الوقت الراهن، بالتوازي مع تطويرٍ مشترك لمصادر الطاقة المتجدّدة للمستقبل. ويجري الدفع بهذه الرؤية طويلة المدى عبر مبادراتٍ استراتيجية طموحة، أبرزها مشروع “ممر الهيدروجين الجنوبي” (SoutH2 Corridor) المقترح، وهو خط أنابيب بطول 3,300 كيلومتر لنقل الهيدروجين الأخضر المُنتَج في الجزائر إلى قلب أوروبا، بما يتماشى مع هدف الاتحاد الأوروبي استيراد 10 ملايين طن من الهيدروجين المتجدّد بحلول العام 2030. ويمنح هذا المشروع إيطاليا موقع المحور لكلٍّ من الغاز الطبيعي والطاقة الخضراء المستقبلية، فيما يفتح أمام الجزائر مسارًا لاستثمار إمكاناتها الهائلة في الطاقة الشمسية وطاقة الرياح بعد تجاوز العالم عصر الوقود الأحفوري.
وتظهر المكاسب الجيوسياسية لهذه الشراكة بالفعل. إذ يوفّر محور روما–الجزائر الجديد ثقلًا ديبلوماسيًا مضادًا لمحور باريس–مدريد–الرباط. وفي ملفات حاسمة مثل الأزمة في ليبيا ومنطقة الساحل، تقاربت مواقف إيطاليا والجزائر، وغالبًا ما اصطدمت بالمبادرات التي تقودها فرنسا. ففي ليبيا، يدعم البلدان الحكومة المُعترف بها من الأمم المتّحدة في طرابلس، في حين كان يُنظر إلى فرنسا على أنها تدعم ضمنيًا المشير خليفة حفتر في الشرق. وبالمثل، في منطقة الساحل، عارضت روما والجزائر التدخّل العسكري في النيجر عقب انقلاب 2023، ودعتا إلى انتقالٍ تفاوضي، بينما أيّدت فرنسا جهود المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (الإيكواس) لعكس مسار الانقلاب.
هذا التقارُب الديبلوماسي هو ثمرةٌ مقصودة لعلاقةٍ جديدة يوفّر فيها أمن الطاقة الأساس للتعاون السياسي، ما يُقلّصُ دور الفاعلين الأوروبيين التقليديين. ولكن لا تخلو هذه الإستراتيجية من مخاطر؛ إذ يشير المشكّكون بحقّ إلى محدودية قدرة الجزائر على تصدير الغاز وإلى المخاطر السياسية الداخلية، فيما يحذّر آخرون من أنّ إيطاليا قد تكون ببساطة تستبدل تبعيتها لموسكو بتبعية للجزائر.
وهذه مخاوف مشروعة. مع ذلك، تطغى في الوقت الراهن المكاسب الاستراتيجية على هذه المخاوف. بالنسبة إلى إيطاليا، تؤمّن هذه الشراكة إمدادات الطاقة وتُعزّزُ مكانتها كمحورٍ أوروبي للطاقة. أمّا بالنسبة إلى الجزائر، فالمكاسب أكبر بكثير، إذ تمثّل هذه الشراكة شريانًا اقتصاديًا حيويًا، وتُقلّصُّ جذريًا اعتمادها التاريخي على فرنسا وإسبانيا، وتصيغ موقعها الإستراتيجي في قلب المتوسط. وقد يدفع ذلك عواصم مثل باريس ومدريد إلى مراجعاتٍ صعبة، خصوصًا أنه لم يعد بإمكانهما التعامل مع موقعهما التقليدي باعتباره أمرًا مسلَّمًا به. كما يزيد هذا المحور الضغوط الإستراتيجية على المغرب على حدوده الشرقية، مما يؤدي إلى تفاقم المعضلة الأمنية الإقليمية. لم يعد السؤال يدور حول ما إذا كانت خريطة البحر الأبيض المتوسط تتغيّر، بل حول مدى سرعة تكيُّف الأطراف الإقليمية الأخرى مع الواقع الجديد الذي يرسمه محور روما-الجزائر، وما هي التحرّكات المضادة الجديدة التي ستثيرها هذه المناورة.
- دالية غانم هي زميلة أولى ومديرة برنامج الصراعات والأمن في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية. وتركّز بحوثها على السياسات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بما في ذلك قضايا العنف السياسي، والتطرّف، والعلاقات المدنية العسكرية، والدراسات الجندرية. وكانت غانم سابقًا مديرة برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ومحلّلة أولى في المعهد الأوروبي للدراسات الأمنية التابع للاتحاد الأوروبي.