
هنري زغيب*
كان في السائد أَن الرسامة الفرنسية فرنسواز جيلو (Gilot) (1921-2023) كانت الوحيدة التي، بين سائر عشيقات بيكاسو (1881-1973)، تخلَّت عنه وانصرفَت تبني وحدها مسيرةً فنيةً لها ناجحةً. سوى أَن الرسامة والمصورة الفوتوغرافية الفرنسية هنريات تيودُورا ماركوفيتْش، واسمها الفني “دُورا مار” (Dora Maar) (1907-1997) لم تتخلَّص من سَطْوَته عليها، فدمَّر شخصيتَها بساديَّته المعروفة حيال جميع النساء في حياته. لذا بقيَتْ طويلًا في الظلّ بعد غيابها، إِلى أَن ظهرت أَخيرًا في معرض استعادي لأَعمالها تَظْهر للمرة الأُولى (رسومًا وصُوَرًا فوتوغرافيةً بِعَدَسَتِها) افتُتِحَ في 6 حزيران/يونيو، ويستمر حتى 14 أَيلول/سبتمبر 2025، في متحف لازارو غالديانو – مدريد، بتنظيم من غالري لوڤي Loewe الإِسبانية العريقة (تأَسست في مدريد سنة 1846).
في الحلقة الأُولى من هذا المقال، سردْتُ لمحة عن حياتها قبل بيكاسو، وهنا في هذه الحلقة ملامح من حياتها معه.
كانت شمسَه الباهرة
ذات فترةٍ كانت دورا مالئةً حياةَ بيكاسو وأَيامَه وأَحاديثَه ولوحاتِه. كان هو الكونَ الذي تدور دورا في فلَكه، لكنها تمحو أَشعَّتَها كي تَبرزَ أَشعَّتُه. لذا بقيَت في الظل، وحيدةً حزينة كئيبة، تعاني صامتةً من الانكسار. وذاتَ يومٍ انهارت أَعصابُها، فقَضَت ثلاثة أَسابيع تتعالج بجلسات كهربائية حتى استعادت بعض هدوئها، لكنها لم تَعُد قطُّ إِلى إِشراقة السعادة.
عاشَت بعده سنواتٍ مالِحةً مُرَّةً، ولم تَستَعدْ ما كان في حياتها من أَلقٍ أَثناءَ أَيامها الحُلوة مع بيكاسو. وانعزلت بعده إِلى قصرٍ في باريس، تركه لها، مليْءٍ بعددٍ كبيرٍ من أَعمال له، لو شاءَت أَن تبيعها لحصَّلت منها ثروةً مُريحة. لكنها لم تفعلْ. عاشت مع قطَّةٍ ربَّتْها، وأَدمنَت على قراءةِ كُتُبٍ دينيةٍ، ورسمَت لوحاتٍ لا قيمةَ فنيةً عاليةً لها. لم تكُن تغادر البيت إِلَّا لحضور القداس، معتبرةً أَن التعبُّد للّه يعوِّض لها تعزيةً روحيةً بعد خسارتها بيكاسو جسَديًّا.
حياتُها معه
هل هذا كلُّ ما يقال عن حياة دورا بعد انفصالها عن بيكاسو؟
وهل كان بيكاسو يرسُم نساءَه عشيقاتٍ أَم ضحايا؟
عن كتاب جيمس لورد “بيكاسو ودورا” (1993)، وكان عَرَفَها في منتصف خمسينات القرن الماضي، أَن بيكاسو كان مولَّهًا بها في عاصفة حب جامح، مغْرَمًا بعينيها الثاقبتَيْن وبسْمتها الملاكية التي تشرق عليه شمسًا خاصة. وهي كانت مزاجيةً، إِنما مُوَلَّهَة به أَيضًا. فكيف يمكن الجمع بين حيَويَّتها سابقًا معه، ثم انعزالها الرهباني لاحقًا بعده؟
في كتاب المؤَرخة والناقدة الإِسبانية فيكتوريا كومباليا (مولودة 1952) فصلٌ خاصٌّ عن سنوات دورا الأَخيرة، تروي فيه أَن دورا نهضت من رماد خيباتها وانكساراتها، إِنما وحدَها بدون إِظهار ذلك علنًا كما فعلَت جيلو في كتابها. فدورا، كما جاء في ذاك الفصل من الكتاب، عادت فوجدَت السلام الداخلي بقراءاتها الروحانية وتأَمُّلاتها الصامتة، ولجوئها إِلى الله، وهو ما لم يكن متاحًا لها إِبَّان أَيامها مع بيكاسو. من هنا قولها: “بعد بيكاسو لم يعُد لي سوى الله”. وفي هذه العبارة يجد الباحثون إِثباتًا على تَوَلُّهها المجنون بالفنان المجنون.
حياتُها بعده
عن كومباليا أَن دورا وجدَت في لُجوئها إِلى الله حبًّا غيرَ مشروط، ما لم تَجِدْهُ إِلَّا مشروطًا مع بيكاسو وسائر الرجال الذين عَرَفتْهُم في حياتها. وتُضيف كومباليا: “انتقلَت من حياة صاخبة مليئة بالاضطرابات والقلق والصدمات مع بيكاسو، إِلى حياةٍ تأَمُّلية ساكنة هادئة مريحة متوازنة”. هكذا أَمضت البقية الباقية من حياتها، وحيدةً، منعزلة، بدون أَيِّ علاقة مع أَحد، كما أَجمع عليه مَن كتبوا عنها بعد غيابها.
يبقى كتاب كومباليا بالإِسبانية هو الأَقرب شخصيًّا إِلى دوران لأَنه حصيلة لقاءات عدة معها، واطِّلاع مباشر على أَوراقها الشخصية.
زوار قصرها حاليًّا يتصوَّرون كيف أَنها أَمضت سنواتها الأَخيرة في سكون وهدوء وسلام داخليّ أَراحها، وإِن لم يُنْسِها صخب الحياة القاهرة مع فنان عبقري قاهر.
ولعلَّ هذا المعرض الاستعادي الحالي في مدريد لمجموعةٍ من صُوَرها الفوتوغرافية ورسومها (حتى 14 أَيلول/سبتمبر المقبل) يُعيد لها في غيابها حضورًا ينْصِفها ويعوِّض عن سنواتها حزينة في ظلِّ فنان سحقها بحضوره الطاغي، وحوَّلها من عشيقة إِلى شهيدة.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).