تراثُنا المجيد وجيلُنا الجديد

هنري زغيب*

كثيرًا كتبْتُ، ومرارًا حاضرتُ عن ضرورة العمل شفويًّا، أَكاديميًّا، ميدانيًّا، على نقْلِ ملامحَ من تراثنا إِلى جيلنا الجديد. فعبثًا نسأَلُهم أَن يُحبُّوا وطنهم إِن لم يكتشفوا مباشَرةً ما في لبنانهم من كنوز وآثار ومعالِم وعلامات وأَعلام، فيعُوا أَنهم في وطنٍ أَقلُّ هُويتهم أَن يستحقُّوه.

كيف السبيل إِلى استحقاقه؟ في تقديمه إِليهم بحضارته لا بدَولته ولا بسُلطته. فما يعانون منه، مصدرُه فسادٌ في مفاصل السُلطة، وخلَلٌ في دينامية الدولة. أَعرف أَنَّ المساعي الحالية جادَّةٌ في تقويم مئات الاعوجاجات الموروثة من عهود، لكنها تؤْذي أَولادَنا فأَولادَهم إِن بقينا لا نقدِّم لهم إِلَّا مظاهر الدولة ومثالبها، وأَغفلْنا عنهم مظاهر التراث اللبناني الذي، حين يَعُونَهُ، يبلغون الاعتزاز بالوطن، ويفهمون معنى استحقاقه.

أَكتُبُ هذا الأَعلاه وأُفكِّر بالفئة العمرية الأَكثر اقتبالًا جديدَ ما يُعطاهم أَن يعرفوه كي يَكبَروا ويَكبُروا معه وله ومنه: تلامذة المدارس، بدءًا من الصفوف الابتدائية وتدريجًا أَعلى. فما فائدةُ الوطن من تلامذةٍ يتعلَّمون القراءة والعلوم، ولا يعرفون مَعْلَمًا واحدًا من معالِم وطنهم، ولا منطقةً أُخرى غير “الغيتو” الذي يعيشون فيه ولا يعرفون سواه؟

صعْب هذا الأَمر؟ أَبدًا. تَلزَمُهُ مبادرةُ مسؤُولٍ تربويٍّ ذي رؤْيةٍ لبنانية. وهوذا مثال: في ندوةٍ هذا الأُسبوع لـ”مركز التراث اللبناني” في الجامعة اللبنانية الأَميركية LAU، عن “قصر بيت الدين لُؤْلُؤَة معمارية” مع الباحث إِدي شويري، بادَرَ مديرُ ثانوية “السفير” في الغازيَّة (جنوب لبنان) الدكتور سلطان ناصر الدين باصطحاب 45 تلميذًا وتلميذة من مدرسته لحضور الندوة. أَصغَوا وفهمُوا، وحادَثَهم الـمُحاضر بتُؤَدَة وإِفهام، وخرجوا حاملين في ذاكرتهم معلوماتٍ جديدةً عن مَعْلَمٍ تاريخي سياحي تراثي في وطنهم.

وفي مسيرةِ سلطان ناصر الدين التربويةِ هذه الدُربةُ لتلامذة ثانويته “السفير”، باصطحابهم إِلى ندوات ومحاضرات ومناطق في كل لبنان، مواصلًا ما درَجَ عليه: أَن يستضيفَ في مدرسته أَعلامًا من كل حقْل معرفي يلتقون التلامذة في غُرَف صفوفهم.

بادرةُ ثانوية “السفير” فَلْتَتَعَمَّمْ مثالًا على مدارس لبنان، كي لا يقتصرَ عالَم تلامذتها على أَربعة حيطان الصف، ودفَّتَي الكتاب، وصوت الـمُدرِّس أَو الـمُدَرِّسة فيما التلامذة ناعسون من الضجر. لتبادِرْ مدرسةٌ في صيدا باصطحاب تلامذتها إِلى طرابلس ومعالِمها، ومدرسةٌ في زحلة باصطحاب تلامذتها إِلى جبيل ومعالِمها، ومدرسةٌ في عكار باصطحاب تلامذتها إِلى بيروت ومعالِمها، ومدرسةٌ في طرابلس باصطحاب تلامذتها إِلى بعلبك ومعالِمها، وكلُّ مدرسةٍ باصطحاب تلامذتها إِلى مناطقَ من لبنان تاريخيةٍ أَو سياحيةٍ أَو تراثية، حتى ينفتحَ أُفقُ أَولادنا على فضاءَات أَوسع من قماقمهم، ويعرفوا وطنَهم ومعالِمَه وتاريخَه، فَتَتَعَمَّمَ ثقافةُ الوطن، ونبني جيلًا جديدًا يحبُّ لبنان لا مما يقرأُ أَو يسمع بل مما يَرى ويُعاين ويَكتشف ويَفْهم.

في العدد الجديد من مجلة “مرايا التراث” دراسةٌ مهمة جدًّا للدكتور أَنطوان مسرَّة حول “الثقافة الثقافية”، جاء فيه: “الثقافة التي لا تُغيِّر في حياة الإِنسان وحياة المجتمع، تبقى مجرَّدَ وَجاهة إِعلامية وتسلية ظرفية. الثقافة الثقافية تُغيِّر في حياة الإِنسان وسلوكيات حياته اليومية والعامة. والمكتسباتُ المرجعية في التراث تنهارُ إِذا انعدمَت قنَواتُ نقْلها إِلى الأَجيال الجديدة”.

وإِنها فعلًا كذلك هذه الثقافة الثقافية: سلوكٌ يوميٌّ يكتسبه أَولادنا منذ صفوفهم الأُولى، وينشأُون عليه نحو وعيٍ مثْمرٍ وطنَهم وأَهميتَه ودَورَه وتراثَه الذي يتفرَّد به بين سائر بلدان المنطقة… هكذا يَعرفون لبنان. هكذا يَفهَمون معنى أَن يكونوا أَبناءَ لبنان. وهكذا يحبُّون لبنان، لا تنظيرًا رومنسيًّا بل قناعةً وجدانيةً تحميهم غدًا من ديماغوجيات سياسية لا تخدُم الوطن بل تُسَمْسِرُ لأَصحابها الذين يعملُون لبقاء دولةٍ على قياس الانتخابات المقبلة، لا لبناءِ وطنٍ على قياس أَجياله المقبلة.

Exit mobile version