الدكتور فيكتور الزمتر*
يتعاقبُ اللَّيلُ والنهار، وتتوالى الفُصولُ، ولم يفْقَه الإنسانُ بأنَّ حِكمةَ الخالق في كُرويَّة الأرض ليست عبثيَّةً، بل لإفهام عِباده بأنَّ “للّه في خلقه شؤون”، وأنَّ سُنَّةَ الحياة قَضَت بأن يكونَ للإنسانَ “يومٌ له ويومٌ عليه”. وهكذا، على ثابتةَ التناقُض في الدُنيا، تتواجهُ الحياةُ والموتُ، الصحَّةُ والمرضُ، الفقرُ والغنى، الفرحُ والحزنُ .. مِصداقًا للقول المأثور: “دوامُ الحال من المُحال”.
لذلك، على المرء، بشكلٍ عامٍ، وعلى صاحب السلطان، بشكلٍ خاصٍّ، أنْ يتَّعِظَ من هذا القول، ويمتَثِلَ لحتميَّة التغيير، ويقتنعَ بأنَّ لا تأبيدَ لسُلطة الحاكم، مهما علا شأنُه، علَّ ذلك يحملُه على التزام العدلِ بدل الظلم، والتواضُعِ بدل الغرور … تحسُّبًا ليوم أُفول حُكمه.
وكَمْ يحتاجُ “حزبُ الله”، في ضائقته الحالية، إلى الإقتناعِ بأنَّ للسلطة أعمارًا، تطولُ وتقصرُ بقدر ما حبا الله صاحبَها من حُلمٍ وحكمةٍ وعدلٍ. إذ يكفيه التمعُّنُ بتوارُث المارونية والسنّية والشيعية السياسية لبعضها البعض، ليقتنعَ برجاحة القول: “لو دامت السلطةُ لغيرك، لَما آلت إليك”.
إنَّ الحديثَ على مُعضلة “حزب الله”، يستدعي الإعترافَ بمسؤولية الدولة في تقصيرها عن القيام بواجبها، تُجاهَ الذَوْدِ عن حياض الوطن. ف”حزبُ الله” ورثَ واجبَ مَلء الفراغ، للدفاع عن أرضه وبيئته اللَّصيقة، عقب اجتياح إسرائيل، في العام 1982، الذي وصلَ إلى احتلال بيروت. ويُشهَدُ للحزب تحريرُه الجنوب من المحتلّ الإسرائيلي، في العام 2000. إلى ذلك، لا يجوزُ إغفالُ انعدام الضمانات الإسرائيلية، في ظلّ تواصُلِ الإعتداءات والإغتيالات اليومية.
والحديثُ يطولُ على تقصير الدولة، ويقودُ إلى التذكير بسيطرة السلاح الفلسطيني على سيادة الدولة وقرارها، مُنذ اتفاق القاهرة، في العام 1969. يومَها، أُرغِمَ لبنانُ على وَهْبِ منطقة العرقوب، “فتح لاند”، للكفاح المُسلَّح الفلسطيني”، ليُقاوم إسرائيل، انطلاقًا من الحدود الجنوبية. ولم يقتصرْ الأمرُ، وقتَها، على حَمْلِ لبنان على مواجهة إسرائيل، مُنفَردًا، نيابةً عن جميع العرب، بل تعدّاه إلى اهتداء صلاح خلف، (أبو إياد)، إلى أنَّ “طريقَ فلسطين تمرُّ حتمًا من جونية”.
هذه الوقائعُ لا يُستكملُ هضمُها، إنْ لم نقفْ على السبب الرئيس وراء التقصير الرسمي المُتناسل، والمُتمثِّل بغياب وحدة مُكوِّنات لبنان المُجتمعية على هُوِيَّة الوطن، وخلافها على أولويّات مصالحه، على ما عداها من مصالح إقليميةٍ ودولية.
وبالعودة إلى مأزق “حزب الله”، حيال قرار الحكومة اللُّبنانية بحصر السلاح بيد الجيش الوطني، لا بُدَّ من إبراز مسؤوليته عمّا آلت إليه أحوالُه، جرّاء تَفَرُّده بقرار “إسناد غزَّة”، في اليوم التالي لعملية “طوفان الأقصى”، في السابع من تشرين الأوَّل (أكتوبر) 2023، وذلك بدون إشعار لبنان الرسمي بقراره!
خطأُ الحزب لم يتوقَّفْ عند التفرُّد بقرار إسناد غزَّة، بل أيضًا بعدم تقدير ما يعنيه احتلالُ “غلاف غزَّة”، من تهديدٍ وُجوديٍّ للكيان الإسرائيلي. هذا، على افتراض أنَّ إسرائيل، امتدادُ الغرب العُضوي في دُنيا العرب، لم تكن على علمٍ مُسبقٍ بمُخطَّط “حماس”، الذي عملت عليه أشهُرًا طويلةً.
وعليه، كان بديهيًا أنْ ينتجَ عن هذا التفرُّد المُتسرِّع، حُصول كبائر المُستجدّات، التي قلبت الأوضاعَ رأسًا على عقب. فقد أُصيبَ الحزبُ بما يُشبه الزلزال، الذي ضعضعَ صُفوفَه، بعد القضاء على رُموز قياداته التاريخية، وأودى بآلاف الضحايا، وشرَّدَ آلاف العائلات، وأنزلَ دمارًا واسعًا حَوَّلَ الشريطَ الحدودي إلى “أَثَرٍ بَعْدَ عَيْنٍ”. إلى ذلك، أُرغمَ الحزبُ على الإذعان للصَلَف الإسرائيلي، بتجريد ترسانته العسكرية في الجنوب، وبإبعاده عن أرضه إلى شمال اللّيطاني.
وتتالت الضربات القاتلة على الحزب، مع سقوط الحكم البعثي في سوريا، وضرب إيران في عقر دارها، ما أطاحَ، ليس فقط بفائض قُوَّته، بل بتعريته من قُوَّة تماسه مع إسرائيل، وبقطع “الحبل السُرّي” البرّي مع إيران.
ولا مُجافاةَ للحقيقة بالقول، أنَّ من إفرازات هذا المُسلسل الإنحداري، انبثاقُ سُلطةٍ لبنانيّةٍ على نقيض أسلافها، من حيث رفضها التماهي مع سردية “حزب الله” وتبادُل المنافع معه. فمع الحُكم الجديد، أُسقطت مُسلَّماتُ السلاح، وتحوَّلت المُطالبةُ بتسليمه قرارًا رسميًّا، بعد أنْ “انفختَ دفُّ الحزب وتفرَّقَ عُشّاقُه”، أكلةُ الجبنة.
لقد قرَّرَت الحكومةُ اللُّبنانيةُ حصرية السلاح، لجمعه خلال جدولٍ زمنيٍّ. لكنَّ القرارَ على الورق شيءٌ، وتنفيذه على الأرض شيءٌ آخَرٌ. فقد كانَ مُنتظرًا أن يرفُضَ “حزبُ الله” التخلّي عن “زينة الرجال”، بعد التنعُّم بإتاواته التي راكمَها، خلال عُقودٍ. فغيابُ “كاريزما القيادة”، يُحمِّلُ الفدائيَّ، المُفترضَ أنْ يتجاوبَ مع قرار الحكومة، هذا إنْ وُجِدَ، مسؤوليةً تاريخيةً يتهيَّبُ الكثيرون قبل الإقدام عليها. وجاءت ردَّةُ فعل إيران السلبية، كي لا نقول التحريضية، على حصرية السلاح، لتُصَلِّبَ رفضَ الحزب للإنصياع للقرار اللُّبناني.
إلى ذلك، يتوجَّبُ على اللُّبنانيين، على مُختلف مشاربهم وأهوائهم، ألّا يعتبروا التحوُّلَ مناسبةً للإنتقام والإستبعاد، ولا إلى استبدال هيمنةٍ إقليميةٍ أو دوليةٍ بأُخرى. فالتحوُّطُ مطلوبٌ لأنَّ الإرتهانَ إلى العصبيات وتدخُّلات الخارج الطامع، مآلُه التضحيةُ بالوطن والمصير، في مقاصَّة التجاذُبات الخارجية.
لقد تمكَّنت إسرائيلُ من تفكيك محور المُمانعة، ليس فقط بسبب منهجيتها الصارمة في الجهوزية المُتواصلة ليوم النِزال، بل أيضًا بسبب حسابات خُصومها الخاطئة، وقراراتهم المُرتجلة، وغياب الإستعداد المطلوب، لا سيَّما لجهة التنشئة الوطنية، بما لا يسمحُ لسُوسَة الخيانة أنْ تنخُرَ الوحدةَ الوطنيةَ ومواقعَ القرار، بشكلٍ مُهين.
فإسرائيلُ، الساهرةُ أبدًا على مصيرها، ناشطةٌ على تشكيل هلالها الجغرافي-السياسي، من خلال إعادة قولبة المشرق، وِفقَ خطوط التماس الإثنية والطائفية والمذهبية. فبعد ضربها للهلال الشيعي، ها هي، على ما يبدو، بصدد تشكيل هلالها الجغرافي- الحيوي، انطلاقًا من الجيب الكردي في الشمال الشرقي، مُرورًا بالساحل السوري الغربي، ورُبَّما بلبنان وبجبل العرب، وُصولًا إلى مُرتفعات الجولان وفلسطين.
من حُسن الحظّ، داخليّا، لم يستقلْ، لتاريخه، مُمثِّلُو “حزب الله” ولا مُمثِّلُو توأمه حركة “أمل”، من الحكومة ولا من النيابة. وهذه إشارةٌ إيجابيةٌ، إذْ اقتصرَ رفضُ المناصرين على عراضاتٍ شارعيةٍ وتصريحاتٍ عنتريةٍ، وإنْ مُهوِّلةً باستحضارهم “دراما كربلاء”، رُبَّما استجداءً لرفع منسوب المظلومية، وتخفيفًا من مرارة الإنكسار! والمُفترضُ أنَّ يكونَ “الأخُ الأكبرُ”، الرئيس نبيه برّي، جاهدًا لدوزنةَ هذا الرفض وعقلنته.
وأيّاً كان الموقفُ من أداء رئيس مجلس النواب، هذا السياسيُّ المُخضرم، يُفترَضُ، بما عُرفَ عنه من فطنةٍ ودهاءٍ، أنْ يُدركَ أنَّ الظرفَ لم يعدْ يسمحُ بالمُناورة والمُكابرة. هذا، مع إدراكه بأنَّ مُماشاةَ التحوُّل، ستُفضي حتمًا إلى فُقدان حُظوة “الأُستاذ” المرجع، والآمر الناهي، حُظوةٌ تنعَّمَ بها، على مدى ثلاثةٍ وثلاثين عامًا.
وإذا صحَّ هذا الإفتراض، سيجدُ الرئيس برّي أنَّ فُرصةَ خريف العُمر ما زالت سانحةً، لاستدراك ما فاته من عملٍ وطنيٍّ، كان أحرى به أنْ يكون رأسَ حربته، لبناء دولة المواطنة والقانون، على حساب دولة الفساد والمحسوبيات.
لبنانُ على كفّ عفريت، واللُّبنانيون على خوفٍ من أنْ تُشعلَ المواكبُ اللَّيليةُ الدرّاجةُ المشاعرَ المُلتهبةَ والأعصابَ المُتوتِّرةَ. فأمام خيار فُسحة الأمل أو الإنتحار، مطلوبٌ من الرئيس برّي، تحديدًا، تبريدُ الرؤوس الحامية، في زمن لَمْلَمَة ذيول الخيبات. عسى أنْ يُبادرَ وطنيًّا، إفساحًا بالمجال أمام بصيص أملٍ، يُجنِّبُ لبنانَ مكائد الغُرَف السوداء!
لَقد اشتاقَ اللُّبنانيون، حقّاً، إلى وطنٍ سيِّدٍ، ينبُضُ بمقوِّمات الحياة الكريمة!
- الدكتور ڤيكتور الزمتر هو سفير لبناني سابق.