هل نَشهدُ عودةَ الحربِ الباردة في الشرق الأوسط؟

يفيد بعض المعلومات أنَّ الصين تُعيدُ تسليح إيران بالأسلحة المُضادة للطائرات والصواريخ تعويضًا عن خسائرها في حرب حزيران (يونيو) مع إسرائيل، وهذا يخلق جوًّا يُذكّر بأجواء الحرب الباردة السابقة بين أميركا والسوفيات.

وزير الخارجية الصيني وانغ يي يصافح وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف في دار ضيافة الدولة دياويوتاي في بكين في 26 آب/أغسطس 2019

ستيفن كوك*

في ربيع العام الماضي، أُتيحت لي فرصة السفر إلى هونغ كونغ. وأثناء وجودي هناك، التقيتُ بأشخاصٍ من البرِّ الرئيسي الصيني، وناقشتُ معهم مجموعةً واسعة من القضايا المُدرَجة على جدول أعمال العلاقات الأميركية–الصينية. وعندما وصلَ الحديثُ إلى الشرق الأوسط، أشار أحد المتحدّثين إلى أنَّ بكين لا تَنظُرُ إلى المنطقة بالطريقة نفسها التي تَنظُرُ بها واشنطن، قائلًا: “نحنُ نريدُ فقط  الشراء والبيع للشرق الأوسط. هذا كلُّ ما في الأمر”. وقد وصفَ العديد من مُحلِّلي سياسات الصين الغربيين نهجَ بكين بعباراتٍ مُماثلة على مدى سنوات، لكنني أتساءل عمّا إذا كان النهج الصيني تجاه المنطقة بدأ يتغيّر.

منذ أن انتهت الأعمال العدائية بين إسرائيل وإيران في أواخر حزيران (يونيو)، ظهرت تقاريرٌ عدة تُفصّلُ جهودَ بكين لمساعدة طهران على إعادة بناء قدراتها العسكرية. وإذا كان هذا صحيحًا، فإنَّ هذه التحرّكات تمثّلُ تحوُّلاً كبيرًا عن موقف الحياد الرسمي الذي اتخذته الصين تُجاهَ الصراعات في الشرق الأوسط. فلماذا هذا التغيير؟

لستُ مستعدًا بعد لنشر بنطالي ال”ليفايس” (Levi’s) المَغسول بالأحماض، ولكن يبدو أنَّ صراعًا بالوكالة، يُشبهُ ما كان عليه الحال في منتصف الثمانينيات، يلوح في الأفق في الشرق الأوسط. لقد ألحقت الولايات المتحدة وإسرائيل أضرارًا بالغة بإيران. ويبدو أنَّ الصين، لحماية استثماراتها في الجمهورية الإسلامية، تشعرُ بضرورة مساعدة النظام على إعادة بناء قدراته العسكرية. أيُّ شخصٍ مُلِمٍّ بتاريخ العلاقات بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي سيُدرك هذه الديناميكية ويتعرّف على هذا النمط. ومن غير المُرجَّح أن يجعلَ ذلك المنطقة أكثر أمانًا.

تتمحورُ مصالح الصين في الشرق الأوسط حول ما سمعته في هونغ كونغ: بيع السلع وشراء الموارد (وخصوصًا الطاقة) من المنطقة. وهذا يعني أنَّ بكين تُريدُ استقرارًا إقليميًا، وتدفُّقًا حرًّا لموارد الطاقة، وحرية الملاحة، والوصول إلى الأسواق.

هذه الشروط تتقاطعُ مع مصالح الولايات المتحدة في المنطقة، لكن بدلًا من التعاون، نجد أنَّ واشنطن وبكين عالقتان في منافسةٍ استراتيجية. وهذه المنافسة أقلُّ ارتباطًا بالشرق الأوسط وأكثر ارتباطًا بتايوان، وأجزاء آسيا التي تعتبرها بكين مجالَ نفوذها، وبالتنافس الحتمي بين قوة راسخة وأخرى صاعدة تسعى إلى تعديلِ النظام العالمي لصالحها. لكن هذه المنافسة تتجلّى في مناطق عدة من العالم، بما في ذلك الشرق الأوسط، حيث تحاول بكين وواشنطن باستمرار التفوُّق على بعضهما البعض.

اليمن والحوثيون مثالٌ جيد على كيفية تجلّي هذه المنافسة. فرُغمَ أنَّ للصين وواشنطن مصلحةً مشتركة واضحة في ضمان حرّية الملاحة، إلّا أنهما تعاملتا مع التحّدي الذي يُشكّله الحوثيون على الملاحة في البحر الأحمر بطُرُقٍ مختلفة تمامًا. إذ أبرمت بكين أساسًا صفقةً مع الحوثيين لحماية خطوط الشحن الصينية من الهجمات. أما واشنطن فقد استخدمت القوة العسكرية لإجبار الحوثيين على التراجع (بنتائج متباينة). وهذا وَضعٌ مثالي لبكين: واشنطن تتلقّى الضربة بالنسبة إلى الرأي العام العالمي جراء مهاجمة الحوثيين، وتُستنزَف مواردها العسكرية التي كان من الممكن نشرها في آسيا لتُحتَجَز في الشرق الأوسط. وكميزةٍ إضافية، يستخدم الجيش الصيني قاعدته في جيبوتي لمراقبة كيفية عمل البحرية الأميركية—الأمر الذي قد يكون مفيدًا في حال اندلاع نزاع في مضيق تايوان.

كما استغلّت الصين الدعم الأميركي لإسرائيل بعد هجمات “حماس” في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 لتكسب أفضلية ليس فقط في الشرق الأوسط، بل أيضًا في ما يُعرف بـ “الجنوب العالمي”. فقد وجهت بكين انتقادات غير مُعتادة لإسرائيل، لكن النبرة الحادة بدت أقل ارتباطًا بمعاناة الفلسطينيين في غزة وأكثر ارتباطًا بربط واشنطن بهذه المعاناة، وبالتالي إلحاق ضرر إضافي بسمعة الولايات المتحدة العالمية.

إنَّ إبرامَ الصفقات مع الحوثيين وتصعيد الخطاب المعادي لإسرائيل هما وسيلتان منخفضتا التكلفة بالنسبة إلى صنّاع القرار الصينيين لإرباك نظرائهم الأميركيين. ويبدو أنَّ هذا يختلف تمامًا عن مقاربة الصين لإيران، التي تحتاجها فعلًا. فالحكومة الصينية تستطيع أن تُديرَ ظهرها للحوثيين أو تُخفّفَ من حدّة خطابها ضد إسرائيل، لكنها لا تستطيع بسهولة الاستغناء عن نحو 13% من احتياجاتها النفطية التي تستوردها من طهران. وهذا أمرٌ بالغ الأهمية لأكبر مستورد للنفط الخام في العالم (11.1 مليون برميل يوميًا في العام 2024)، وهو السبب الذي يجعل الصين مَعنية باستقرار إيران. ففي العام 2021، وقّعَ وزيرا خارجية البلدين اتفاق تعاون يمتد 25 عامًا. ورُغمَ أنَّ النسخة النهائية لم تُنشَر، فقد حصلت صحيفة “نيويورك تايمز” على مسودةٍ تُلزم بكين باستثمار 400 مليار دولار في إيران مقابل ضمان إمدادٍ غير مُنقطع من النفط بأسعارٍ مخفَّضة للغاية. ورُغمَ أنَّ الوصولَ السهل إلى موارد الطاقة كان جوهر الاتفاق، فإنَّ المسودة تضمّنت أيضًا مشاريع بنية تحتية وتعاونًا متزايدًا في مجالَي الدفاع والأمن.

ومع ذلك، حتى لو اختلفت النسخة النهائية عن المسودة، فإنَّ تجارة النفط وحدها تشير إلى علاقةٍ أوثق بين بكين وطهران مما يدركه المحللون وصنّاع القرار عادة. ولهذا السبب—وعكس ما يدّعيه أنصار ضبط النفس والواقعيون والمنتقدون التلقائيون لإسرائيل—لم تستفد بكين من الحرب التي اندلعت في حزيران (يونيو) بين إيران وإسرائيل.

فالعملياتُ العسكرية الإسرائيلية المتطوِّرة والمُنفَّذة ببراعة—مقترنةً بالضربات الجوية الأميركية على ثلاثة مواقع نووية إيرانية—أضرّت ببكين على مستويين: أوّلًا، يبدو أنها عززت النظام الذي تقوده الولايات المتحدة في المنطقة. ففي السنوات الأخيرة، عندما اتخذ الديمقراطيون والجمهوريون خطوات لتقليص الوجود الأميركي في المنطقة، شجّعت هذه السياسة قادة الشرق الأوسط على الميل نحو الصين (وروسيا). لكن عملية “مطرقة منتصف الليل” أظهرت أنَّ واشنطن تأخذ بجدية المخاوف الأمنية لدول المنطقة—وليس إسرائيل فقط. وقد عزّزَ هذا النظام الذي تقوده الولايات المتحدة والذي كان يبدو متزعزعًا بسبب القلق من أنَّ “التحوُّلَ نحو آسيا” سيترك شركاءها تحت رحمة طهران. ورُغمَ أنَّ هذا لا يعني نهاية النفوذ الصيني في الشرق الأوسط، إلّا أنَّ قادة المنطقة يفضّلون أمن الولايات المتحدة على أيِّ بديل، حتى مع احتفاظهم بعلاقاتٍ اقتصادية مع بكين.

ثانيًا، ألحقت إسرائيل أضرارًا كبيرة بقدرات إيران العسكرية وأدوات القمع التي يمتلكها النظام. فإيران اليوم أضعف مما كانت عليه قبل 13 حزيران (يونيو). وإيران المُنهَكة وغير المستقرة قد تُلحقُ ضررًا بالصينيين اقتصاديً وجيوسياسيًا. وبالرُغمِ من أنَّ الصين تُخزّنُ النفط بحكمة، إلّا أنّ أيَّ انقطاع –ولو مؤقت—في تدفُّق النفط إلى بكين من شأنه أن يؤثّر سلبًا فيها (وفي الجميع أيضًا). وإذا انهارَ النظام الإسلامي وجاءت قيادة جديدة أكثر ميلًا للولايات المتحدة، فمن المرجح أن يُقوِّضَ ذلك قدرة بكين على التفوُّق على واشنطن أو إغراقها في مشكلات المنطقة. ولهذا يبدو من المنطقي أن تتحرك الحكومة الصينية بسرعة لإعادة بناء قدرات الدفاع الجوي الإيراني ومخزون الصواريخ الباليستية.

ويبدو أنَّ ذلك جُزءٌ من “دليل إقليمي”، بالنسبة لمن تابعوا الشرق الأوسط لعقود. ففي العام 1967، تحرّك السوفيات بسرعة لإعادة بناء القوات المصرية بعد الانتصار الإسرائيلي الساحق في حرب الأيام الستة. وكانت هزيمة حلفاء موسكو حينها انتصارًا للولايات المتحدة أيضًا. وبعد ما يقرب من ستة عقود، يبدو أنَّ الحوافزَ والضغوط نفسها تشكّلُ العلاقة التنافسية بين الولايات المتحدة وإسرائيل وإيران والصين. فإدارة دونالد ترامب مُلتزمة بضمان أن يكون لدى إسرائيل ما تحتاجه لمواجهة التهديدات الأمنية، بما في ذلك المقبلة من إيران. وبالمثل، تساعد الصين طهران على تخفيف التهديد الإسرائيلي. وإذا اندلع الصراع بين إسرائيل وإيران مرة أخرى، فمن المرجح أن تتكرّرَ العملية نفسها، ما يزيد من خطورة الصراع الإقليمي بين إسرائيل وإيران. وهذا تقريبًا ما حدث خلال الحرب الباردة.

لكنَّ التشبيه ليس مثاليًا. فإسرائيل ليست دولة تابعة كما كانت السلفادور مثلًا في الثمانينيات. كما إنَّ لديها علاقة اقتصادية قوية مع الصين، وهو أمرٌ لم يكن مُتاحًا عادة لشركاء أميركا أثناء الحرب الباردة. ومع ذلك، من الصعب ألّا تعوُد إلينا أجواء الثمانينيات عندما كانت الصراعات الصفرية تتحكّمُ بما هو أبعد من مستوى التنافس بين القوى العظمى، وكان العالم أكثر خطرًا بكثير.

Exit mobile version