تُعتَبرُ إيران الدولةُ الرئيسة الداعمة للمنظمات الإسلامية المتشدّدة في الشرق الأوسط (شيعيّة وسنّية)، وبدون دعمها بعدما ضعفت أخيرًا، ستذبُلُ الحركات الأصولية المتطرّفة في المنطقة.
لينا الخطيب*
في أعقابِ الهجوم الأميركي على المواقع النووية الإيرانية، نشرَ الرئيس الأميركي دونالد ترامب تغريدةً على موقع “تروث سوشال” يُؤيِّدُ فيها تغييرَ النظام في إيران. ومنذ إعلانه وقف إطلاق النار هذا الأسبوع، والذي يبدو أنه صامد، تراجَعَ عن هذا التعليق. إلّا أنَّ النظام الإيراني يتعرّضُ لضغوطٍ شديدة، ومن غير المرجح أن يخرج سالمًا من حرب الشرق الأوسط الحالية – التي شملت إضعاف أو القضاء على وكلائه في جميع أنحاء المنطقة، وحملة قصف إسرائيلية متواصلة استمرّت 12 يومًا على إيران نفسها.
إنَّ زوالَ النظام الإيراني أو ضعفه المُطَوَّل من شأنه أن يُحدثَ تغييرًا جذريًا في الشرق الأوسط. لا يقتصرُ الأمرُ على تحوّلات الجغرافيا السياسية وتوازُن القوى العسكرية فحسب، بل يتعلّقُ أيضًا بزوال “الإسلاموية” -بشقَّيها السياسي والجهادي العنيف- في الشرق الأوسط، والتي كانت إيران أحد أهم مُمَكّنيها والمُبشّرين بها. تَمَحوَرَ جُزءٌ كبيرٌ من التنافس على النفوذ في الشرق الأوسط خلال العقود الأخيرة حول انتشار “الإسلاموية”. وقد انطلقَ هذا التنافُس مع تأسيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية في العام 1979، التي جعلت من تصديرِ ما أسماه مؤسّسها آية الله روح الله الخميني “الجهاد المقدّس” مهمّةً أساسيةً لها في جميع أنحاء الشرق الأوسط وخارجه. وقد رعى الحرس الثوري الإسلامي الإيراني الجماعات الجهادية في الخارج، مُوَفِّرًا التمويل والتدريب والأسلحة ل”حزب الله” و”الجهاد الإسلامي” وغيرهما، لتعزيز دور هذه الجماعات كأدواتٍ للقوة الناعمة والصلبة الإيرانية.
هناكَ مقولةٌ شائعةُ الاستخدام في فَهم الإسلاموية في الشرق الأوسط ترى أنَّ صعودَ النظام الإسلامي الشيعي في طهران يُحفّزُ المنافسة الدينية الإيديولوجية الشديدة مع المملكة العربية السعودية السُنّية. طوال الثمانينيات والتسعينيات الفائتة، رَوّجت الأخيرة وصدّرت نسختها المُتشدّدة من الإسلام، الوهّابية، لمواجهة انتشار الأصولية الشيعية في إيران. على هذا النحو، أصبحَ جُزءٌ كبيرٌ من التأطير العام والسياسي للظاهرة الإسلاموية منسوجًا حول التوتُّر الطائفي.
على الرُغم من أنَّ هذا المنظور ربما كان يحمل بعض الحقيقة التاريخية حتى أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، إلّا أنه ليس دقيقًا أو صحيحًا اليوم وَضع إيران والسعودية في سلّة واحدة. لقد اتّخذَ البلدان مساراتٍ مُتعارضة تمامًا بشأن الإسلاموية منذ العام 2003 -عندما شنَّ تنظيم “القاعدة” هجمات في المملكة العربية السعودية- وخصوصًا منذ العام 2016، عندما شرعت الحكومة السعودية في برنامجِ تحديثٍ اجتماعي وثقافي واقتصادي واسع النطاق للبلاد (رؤية السعودية 2030). حتى ذلك الحين، ساهمَ التنافُس الإيراني-السعودي على النفوذ في الشرق الأوسط في جعل المنطقة أرضًا خصبة لجماعاتٍ إسلامية متشددة مُتنوِّعة -سُنّية وشيعيّة، مُسلّحة وغير مسلّحة، وطنية وعابرة للحدود- تصادمت مع بعضها البعض ومع سلطات الدولة.
في المقابل، واصلت إيران تمويلَ وتسليحَ وتدريبَ الجماعات الإسلامية المسلحة -بما في ذلك “حزب الله” وحركة الحوثيين وحركة “حماس”- كنموذجٍ رئيس لها للنفوذ الدولي. كما واصلت طهران تأجيجَ التوتُّر الشيعي-السُنّي، لا سيما من خلال تقديم نفسها على أنها راعيةُ الأقليات الشيعيّة في الشرق الأوسط ذي الغالبية السُنّية.
لكنَّ الانقسامَ الطائفي لم يكن واضحًا تمامًا. فبينما تُدينُ الجماعات الإسلامية الشيعية المتشدّدة بالولاء دائمًا تقريبًا للنظام الديني الإيراني، فإنَّ بعضَ الجماعات السُنّية المُتطرّفة متحالفة معه أيضًا. ولطالما شكلت الجماعات الجهادية السُنّية، مثل تنظيمَي “القاعدة” و”الدولة الإسلامية” (داعش)، تهديدًا للمملكة العربية السعودية، وسعت إلى الإطاحة بالعائلة المالكة وإقامة خلافة أو نظام على غرار طهران. إنَّ النظرَ إلى الإسلام السياسي من خلال عدسة التنافُس الشيعي-السُنّي يُخفي الدورَ الرئيس لإيران في رعايةِ مختلف أشكال الجهادية السُنّية.
على الرُغمِ من أنَّ الجماعات الجهادية التي ترعاها إيران، مثل “حزب الله”، كانت نشطة في الإرهاب الدولي، إلّا أنَّ الشبكات الجهادية السنّية العابرة للحدود الوطنية -عناصر مسلحة من جماعة “الإخوان المسلمين”، والجهاديين السلفيين، وتنظيم “القاعدة”، و”الدولة الإسلامية”- تُهيمن على الخطاب الجهادي. ولكن كانت هناك علاقة تكتيكية بين إيران وتنظيم “القاعدة” منذ ثمانينيات القرن الماضي مدفوعةً بالعداء المشترك تجاه الولايات المتحدة وإسرائيل. يخلصُ تقريرُ لجنة 11 أيلول (سبتمبر) 2001 التابعة للكونغرس الأميركي إلى أنَّ إيران درّبت عناصر “القاعدة” على المتفجّرات وسهّلت انتقالهم إلى أفغانستان. كما يَذكُرُ التقرير أنَّ التدريبَ في إيران وعلى أيدي “حزب الله” في لبنان مَكّن “القاعدة” على الأرجح من تنفيذ تفجيرات السفارة الأميركية في كينيا وتنزانيا في العام 1998.
إنَّ العلاقة التبادُلية بين إيران والجهاديين السُنّة ما زالت مُستمرّة. حركة “حماس” وتنظيم “الجهاد الإسلامي” هما جماعتان فلسطينيتان سُنّيتان. وعلى الرُغم من أنَّ “حزب الله” في لبنان وقوات “الحشد الشعبي في العراق الشيعيين قد قدّما نفسيهما على أنهما يقاتلان تنظيم “الدولة الإسلامية” السنّي، إلّا أنه كان هناكَ تعاونٌ تكتيكي بين جميع الأطراف. قبل الهزيمة العسكرية لتنظيم “الدولة الإسلامية” في العراق وسوريا في 2017-2018، اعتادَ بعض فصائل الحشد الشعبي العاملة على الحدود بين العراق وسوريا على تأجير الطرق السريعة الخاضعة لسيطرتها لعناصر تنظيم “الدولة الإسلامية” يوميًا، كما اكتَشَفتُ في رحلةٍ إلى المنطقة في العام 2018. كما تعاونَ عملاءٌ من كلا المجموعتين المسلّحتين في الاقتصاد غير المشروع. وبحسب اتصالاتٍ ميدانية أخرى في المنطقة، فإنَّ بعضَ الفصائل المدعومة من إيران والتي فرّت من سوريا إلى العراق خلال الإطاحة بنظام بشار الأسد في كانون الأول (ديسمبر) الماضي، سلّمت أسلحتها إلى عناصر تنظيم “الدولة الإسلامية” في شمال شرق سوريا قبل مغادرتها.
إنَّ هذا التعاون التكتيكي يُتاحُ بسبب العداء القديم بين إيران وتنظيم “الدولة الإسلامية” تجاه “هيئة تحرير الشام”، الجماعة التي هزمت النظام السوري والتي يحكم قادتها البلاد الآن. تُحمّل إيران الجماعة مسؤولية خسارة حليفها السوري، وقد حارب تنظيم “الدولة الإسلامية” “هيئة تحرير الشام” لفترةٍ طويلة خلال الحرب السورية. في سنواتها الأولى، كانت “هيئة تحرير الشام” تابعة لتنظيم “القاعدة”، ولا يزال أعضاؤها يتبنّون الفكر الإسلامي المُتشدّد. لكن صعودها إلى السلطة في سوريا مُتعدِّدة الأعراق والأديان لا يمكن أن يتحقّق إلّا من خلال الابتعاد عن جذورها الجهادية وتبنّي مسارٍ سياسي أكثر براغماتية. في ظلِّ حكّامها الجدد، قد تتجه سوريا نحو حُكمٍ إسلامي، لكن ثيوقراطية إسلامية شاملة لن تكونَ مقبولة لدى حلفاء سوريا العرب، الذين تعتمد عليهم دمشق في تمويل إعادة الإعمار.
استغلّت إيران معارك قوات “الحشد الشعبي” مع تنظيم “الدولة الإسلامية” لزيادة نفوذها السياسي في العراق، حيث عزّزت هذه المعارك شرعية قوات “الحشد الشعبي” كمُحرّرين وطنيين من الإرهابيين المتوحّشين. وبالمثل، استخدم “حزب الله” ذريعةَ الدفاع عن لبنان ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” لتبرير تدخّله في سوريا. وبالتالي، فإنَّ استمرارَ وجود تنظيم “الدولة الإسلامية” مُفيدٌ لإيران، بما في ذلك كأداةٍ ضد الحكومة الحالية في سوريا. إنَّ هجمات تنظيم “الدولة الإسلامية”، مثل التفجير الانتحاري داخل كنيسة مار إلياس في دمشق في منتصف حزيران (يونيو)، تخدمُ رغبة إيران في زعزعة استقرار سوريا ما بعد الأسد، وتخلقُ فرصةً لطهران لإعادة ترسيخ نفوذها هناك.
يتجاوز التضامُن الإسلامي السنّي مع إيران الجماعات الجهادية العنيفة. ففي أعقاب الهجمات الإسرائيلية والأميركية على إيران، أصدرت جماعة “الإخوان المسلمين” في مصر بيانًا يدعم النظام الإيراني. وادَّعى البيان أنَّ الوحدة الإسلامية ضد إسرائيل هي أساسُ القواسم المشتركة. ولهذا التأييد جذورٌ تاريخية: فقد استلهَمَ رجالُ الدين الذين أسّسوا الجمهورية الإسلامية أنفسهم من جماعة “الإخوان المسلمين”، التي أسّس كتّابها ورجال دينها الإسلاموية الحديثة في عشرينيات القرن الماضي.
إنَّ دعمها العلني لإيران سيزيد من عزلة شبكة “الإخوان المسلمين” عن الدول العربية. ويشمل ذلك قطر، التي طالما كانت راعيةً ل”الإخوان المسلمين” وجماعات إسلامية سنّية أخرى، ولكنها -بعد خلافها مع عددٍ من الدول العربية بشأن دعمها للجماعات الإرهابية خلال الأزمة الديبلوماسية بين العامين 2017 و2021- نأت بنفسها علنًا عن هذه الجماعات. واليوم، تعتبر معظم الحكومات العربية، من المغرب إلى دول الخليج، جماعة “الإخوان المسلمين” عبئًا سياسيًا في أحسن الأحوال؛ بينما تعارضها دول مثل مصر وتونس والإمارات العربية المتحدة باعتبارها جهة فاعلة رئيسة مزعزعة للاستقرار. لم يؤيد الفرع السوري لجماعة “الإخوان المسلمين” بيان الفرع المصري الداعم لطهران تحديدًا لأنه يعلم أنَّ إيران تُشكل عبئًا سياسيًا في سوريا الجديدة، حيث يأمل أن يلعب دورًا.
مع انعدام الدعم السياسي أو المالي تقريبًا من الدول العربية، فَقَدَت الإسلاموية السُنّية بالفعل الكثير من جاذبيتها وسلطتها في الشرق الأوسط. وبينما قد يستمرُّ الأفراد حول العالم في إرسال الأموال إلى الجماعات الإسلامية السُنّية المتشدّدة، فإنَّ الأموال التي لا تدعمها جهات سياسية لها تأثير محدود. إيران وحدها هي التي تواصل استغلال الإسلام السُنّي المُتشدّد لتأجيج الصراع الطائفي بين الشيعة والسُنّة وتعزيز عدم الاستقرار – وفي حالة “حماس”، تُضفي الشرعية على النظام الإيراني كداعمٍ للنضال الفلسطيني ضد إسرائيل. كما تواصل إيران دعم الجماعات الشيعية مثل “حزب الله” وحركة الحوثيين في اليمن كجُزءٍ من نموذجها للنفوذ الخارجي.
بدونِ دعمِ إيران، ستفقد جميع تلك الجماعات الإسلامية الشيعية والسُنّية المُتَشددة مصدرًا رئيسًا للتمويل والأسلحة، مما سيُتَرجَم بدوره إلى خسارةٍ سياسية على الصعيدَين المحلي والإقليمي. في الشرق الأوسط، يُعَدُّ النظام الإيراني شريان الحياة الأخير للظاهرة الإسلاموية. هذا الشريان الآن بات أضعف بكثير. إذا سقطَ النظام، فإنَّ الإسلاموية الشرق أوسطية كما نعرفها ستسقط أيضًا.
- لينا الخطيب هي زميلة مشاركة في برنامج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في مركز الأبحاث البريطاني “تشاتام هاوس”، وباحثة زائرة في مبادرة الشرق الأوسط في كلية كينيدي بجامعة هارفارد. يمكن متابعتها عبر منصة (X) على: @LinaKhatibUK